العلمانية تحمي الإسلام


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هذا شعار يتردد على نطاق واسع جدًا في كثير من الأبواق العلمانية، على نحو دوغمائي صرف، لذا تجد أكثر من يردده غير مستوعب لمقدماته.

المفارقة بين المثقف الحقيقي، وبين المثقف المزيف، قد تكمن هنا في النظر إلى معاني ألفاظ هذا الشعار لدى من يطلقه، وبناء عليه يتحدد المزيف من الصريح.

 

لقد كان جون ستيوارت مل، مدركًا للمعنى الصحيح لعبارة أن النظام العلماني يحمي الإسلام، فالعلمانية لديه محددة كعلمانية ليبرالية، كما أن الإسلام الذي يتعين على ذي العلمانية حمايته إذا ما تمكنَت محدد لدى مل على نحو دقيق، فهو إسلام يضرب جذريا خطاب حرية الفردية، إذ يحدد ما يحرمُ على الفرد فعله، وما يجب عليه فعله.

 

وفي هذا ينقل عنه العروي في مفهوم الحرية المقدمة التي ينبني عليه ذلك الشعار، فيقول أن:

"التحريم الإسلامي يمس حرية الفرد لأنه يفترض أن الفرد لا يعرف مصلحته وينتقد مل كذلك تحريم أكل الخنزير في الإسلام. فيقول أن للمسلمين الحق في تجنبهم لحم الخنزير لأنهم يعافونه، لكنهم عندما يحتقرون غيرهم ممن لا يعافه ويأكله، فإنهم يمشون بحرية ذلك الغير" [١]

 

لاحظ هنا المتغيرين الذين سيحمي أحدهما الآخر، الإسلام، والعلمانية الليبرالية. إذا ما طرحت الأصل الذي يتقاطع فيه الإسلام والليبرالية على نحو حاد، سترى أن نوعا من الخطاب الإسلامي، والذي لا إسلام بدونه، لا يمكن أن يكون والخطاب اللبرالي في سلة واحدة.

فاللبرالية على مستوى مجتمعي تنبني على أن الإنسان، ولنقل هنا: الفقيه، لا يعرف الشيء لذاته، فلا يصح أن يقول بحرمة هذا السلوك دون الآخر، فلا يوجد علمانية ليبرالية ستحمي إسلاما يرى أئمة فقهه أن الخمر محرم، ثم يخرم هذا الفقيه المنظومة الفردانية بإلزام كل أفراد المجتمع بهذا الحكم ثم تصدير خطاب ينطوي على عقوبة دنيوية وأخروية على من يخالفه.

 

لذلك لا يرى مل أن العلمانية الليبرالية ستحمي إسلاما ينطوي في جانبه الأصولي على حكم التحريم. وفقا لمعيار العلماني الليبرالي، يضحى الحكم بتحريم الخنزير والخمر، أو الحكم بوجوب الصلاة، دلالة على تهديد الركيزة الليبرالية، التي تقضي بعدم معرفة الشيء لذاته أحسن أم قبيح، عدم إلزام الفرد بأي حكم من باب أن الفرد يتصرف وفقا لرؤيته الشيء لذاته هو.

 

ومع أن هذا المفهوم مستوعب في الساحة الإعلاميةالفرنسية وغير الفرنسية، إلا أنك تجد علمانيين عرب، يستجهلون مستمعيهم وهم يصورون أن العلمانية ستحمي الإسلام الذي يعرفه المسلمون.

ذلك الشعار في الحقيقة، يعبر -إن اختصرنا القول- على حماية لإسلام لا يقول بتحريم شيء أو إيجابه، إسلام لا يوجد فيه من يقول بوجوب الصلاة، كما لا يوجد فيه من يقول بحرمة أكل الخنزير أو شرب الخمر.

 

لذا، لما تعرض باسكال بونيفاس الناقد الفرنسي، لموضوع الإسلام المتشدد الذي لن تحميه العلمانية، والإسلام المعتدل الذي تحميه ذي العلمانية، كان مدركًا لنوعية الخداع الذي يمارسه المثقف المزيف مثل بيرنارد هنري ليفي وأشباهه، وهم يدعون حماية العلمانية للإسلام.

كان يقول: "تم التأكيد على الفصل بين المسلم المعتدل والمسلم المتطرف لكن هذا التمييز ليس أكثر من خدعة، فالمسلم المعتدل كثيرًا ما يكون مسلمًا ولكن باعتدال، ولكي يُعتبر المسلم معتدلًا يجب على المسلم ألا يلتزم بمبادئ الإسلام وألا يكون مؤمنًا، وتُعتَبر الصلاة أو صوم رمضان دليل تطىرف ديني" [٢]

 

فعلى نفس الطراز، عندما تقول "العلمانية الليبرالية تحمي الإسلام"، عليك أن تؤكد على مفهوم العلمانية، الذي سيتسق عكسيًا مع أمور من الإسلام لن تناسبه، الليبرالية؟ أقل شيء هي ضد القول بتحريم الحرام، الشيوعية؟ أقل شيء هي ضد القول بوجوب قسمة الميراث على ما تقول مذاهب الفقه.

وهكذا، كل نمط علماني سيدعي بصورةخادعةحماية الإسلام، هو في الحقيقة يرى ضرورة تقليم هذا الإسلام كيلا يتضارب مع قطعيات ذلك النمط، فتصور الآن ذلك الشعار مفصلا، وهو يقول: "نحن نرى حماية الإسلام على شرط إلغاء الحكم بالتحريم، الوجوب، الكراهة، نحن سنحمي الإسلام الذي لا يقال فيه: الصلاة واجبة، الخمر حرام".

هنا سيكون الخطاب إلى حد ما فاضحا، مثل خطاب جون ستيوارت مل، سيتم لفه بكيس نفاية، ثم يرمى في القمامة سريعا، بخلاف الخطاب المزيف والخادع.

 

[١] مفهوم الحرية، عبد الله العروي، ص٤٧.

[٢] المثقفون المزيفون، النصر الإعلامي لخبراء الكذب، باسكال بونيفاس، النصر الإعلامي لخبراء الكذب، ترجمة روز مخلوف، ورد للطباعة، الطبعة الأولى ٢٠١٣م، ص٥٥.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply