الانحلال الفكري عبر المستشرقين


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

قبل نصف قرن أو يزيد كان الطريق إلى الانحلال الفكري يمر عبر بوابة المستشرقين؛ فاتصل بهم عدد كبير من المثقفين العرب في الجامعات الأوربية وغيرها، فنشأت منهم طبقة واسعة تغذّتْ على موائد المستشرقين، ثم تميز من هذه الطبقة عدد من المفكرين الذين حملوا لواء الحداثة واشتهروا بالحداثيين.

اندرَسَت بوابة المستشرقين في نهايات القرن العشرين وازدحمَت بوابة الحداثيين العرب الذين ملؤوا المكتبات والأندية الثقافية والجامعات بمؤلفاتهم وندواتهم، وكان موضوع (نقد التراث الإسلامي) على رأس اهتمامات هؤلاء الحداثيين، فخرّجوا شرائح من المتنكّرين لتراثهم على حساب الثقافة الغربية.

كان ما أنتجه هؤلاء الحداثيون العرب هو الزاد الفكري الأساسي للمتحولين بعد ذلك إلى الليبرالية من الأوساط الإسلامية، وكانت (الموضة) آنذاك: الكتابات الناقدة لكثير من مظاهر التدين وللسائد الفقهي، ولكنها كانت مرحلة انتقالية مؤقتة إلى الليبرالية أو الانحلال الفكري التام عند البعض.

كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث كانت أضعف من سابقتها، فلم يكن عند المتأثرين برموز الحداثيين العرب ما لدى أولئك من الجَلَد على البحث والإنتاج المعرفي، كما أن رموز الحداثة العربية كانوا أضعف من طبقة المستشرقين الكبار الذين شقوا لهم تلك المسالك التي لم يكونوا يعرفونها أصلاً.

ثم ظهرت -في النصف الأول من العقد الأخير- طبقة من مشاهير شبكات التواصل، تكونت ثقافتهم من جرعات مخففة من القراءة والمشاهدة والاطلاع دون قراءة معمقة لأطروحات الحداثيين ولا قراءة صالحة في التراث الإسلامي، مع قلة محافظة وضعف التزام، غير أن تفاعل المتابعين شجعهم  على الحديث والنقد.

وبعد هذا كله، يُلاحظ مؤخرا ظهور طبقة ليس لديها أدنى درجات الاطلاع لا في السياق الإسلامي ولا في السياق الحداثي ولا حتى الإلحادي، سوى مشاهدة بعض المقاطع أو الميمز والتغريدات المتفرقة والانطباعات والأهواء الشخصية مع هشاشة نفسية ظاهرة، ثم تجدهم متحمسين لنقد أصول الدين وثوابته وعلومه.

وهؤلاء يعيشون في عوالم موازية لا علاقة لها بواقع الشريعة ولا بحقيقة علومها ولا تتصل بأي مجال منهجي يمكن نقده، وإنما هي عوالم وهمية فيها من الآراء ما لا حصر له، بقدر تعدد الانطباعات الشخصية وبقدر ما ينتجه الجهل المركب من صور خاطئة.

الذي يلاحظ هذا الاختلاف جيداً هو من كان مشتغلا بنقاش الأطروحات الحداثية الكبرى سابقاً، ثم يشاهد -بعد ذلك- مقاطع المشككين والملحدين والناقدين للتراث الإسلامي من الشباب في العقد الأخير، فهنا تجده يقول: هل أنا في حقيقة أم حلم؟ وهل يمكن أن يرفع أحد عقيرته بمثل هذا دون خجل؟

والذي نحتاج إليه بعد هذا كله هو إعادة تأسيس شمولي للجيل، تُبنى فيه حقائق الدين الكبرى أولاً: (العبودية لله، الإخلاص والتوكل، مرجعية الوحي، اليقين بالآخرة) ثم التزكية والإيمان والعلاقة بالقرآن، ثم البناء المعرفي لأبجديات الثقافة الإسلامية، ثم البناء العلمي الشرعي..الخ

وهذا يتطلب استنفاراً حقيقياً على كل المستويات، ولا ينبغي التهاون فيه، ولا انتظار أدوار الآخرين -الذين يكونون أحيانا سبباً في هذا الإشكال أصلاً لا وسيلة لعلاجه- وينبغي أن يُحدد المصلحون أولوياتهم بناء على فهمهم لطبيعة إشكالات الواقع مما هو متصل بأصول الدين وثوابته كهذه القضية.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply