بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في سفره القيم «الدولة الأموية» يصدر لنا د. يوسف العُش كتابه بأحداث الفتنة الكبرى ومقتل خليفة المسلمين عثمان بن عفان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في تحليل دقيق يقارن بين الروايات، ويمحص الواهي منها والصالح، ويربط بين ما صح منها، في أسلوب منهجي يكشف به زيف الروايات التي طعنت في الصحابة -رضوان الله عليهم- ويجلي لنا حقيقة المحنة التي كانت مساحة عصيبة في تاريخنا الإسلامي التليد.
لقد كتب الأقدمون عن مقتل عثمان كثيرا، ولعل أول من أفرد الفتنة بالتصنيف هو أبو مخنف لوط بن يحيى (157) فإن له كتاب «مقتل عثمان» وتبعه سيف بن عمر التميمي (180) فكتب كتاب «الفتوح الكبير والردة» وكتاب «الجمل ومسيرة عائشة وعلي»، ووضع أبو عبيدة معمر بن المثنى (207) كتاب «مقتل عثمان» ووضع معاصره محمد بن عمر الواقدي كتاب «الردة والدار» ومحوره مقتل عثمان في داره، ثم إن علي بن المدائني (225) أخرج كتاب «مقتل عثمان» ولعل عمر بن شبّة (262) هو من أواخر الأقدمين الذين أفردوا بالتأليف «مقتل عثمان»
ولم يسلم كتاب من كتبهم هذه من عوادي الدهر، فليس بين أيدينا منها أي كتاب. لكن المؤرخين الذين تلوهم حفظوا لنا بعض ما في هذه الكتب، فالبلاذري يروي لنا قسما من أخبار أبي مخنف والواقدي، والطبري يحفظ لنا الجزء الأكبر من أخبار سيف بن عمر والواقدي.
لكن أبو مخنف شيعي [قال عنه أئمة الجرح والتعديل: هالك] لا يعز عليه أن يظهر عثمان بمظهر الخليفة الذي كثرت سقطاته، فاستحق ما استحقه، وأن يبين أن طلحة بن عبيد الله كان من المؤلبين على عثمان والثائرين عليه، ويؤثر أن يظهر علي بن أبي طالب بمظهر من يعطف على عثمان ويدافع عنه مع غضبه من أفعاله وأقواله.
أما الواقدي [النسائي والشافعي يتهمانه بالكذب والوضع، وقال الذهبي: استقر الإجماع على وهن الواقدي] فنرى في رواياته التشنيع على عثمان، حتى أن الطبري تورع من نقل كثير من أخباره لبشاعتها، وما نقله عنه فيه الكثير من الطعن على عثمان، ويزيد البلاذري عنه في تلك الأخبار الطاعنة، ولا يتورع الواقدي عن إظهار الصحابة بمظهر المتآمرين على عثمان، ويخص بالذكر منهم طلحة، ثم هو لا يهمه أن يظهر أن علي بن أبي طالب مخالف لعثمان حانق منه، أما محمد بن أبي بكر فهو عنده القاتل أو المباشر بالقتل.
ونجد سيف بن عمر التميمي [متهم بالزندقة] ينتحي جانبا عن أبي مخنف والواقدي، فيعرض تسلسلا تاريخيا ليس فيه تهمة للصحابة بل تبرئة لهم.
وفي قصة الراكب [وهو الذي أرسله المتآمرون –مكيدة- رسولا من لدى عثمان لواليه بمصر يأمره بقتل الثوار] عجب وأي عجب، فهو ليس رسولا عاديا قد أرسل بمهمة سرية، وطلب إليه أن يتجنب الناس في طريقه، وأن يبلغ هدفه دون أن يلتفت إليه إنسان، كما هو شأن المرسلين بأمر خطير يجب ألا يعرف، إنما هو راكب كان يقصد أن يعرف أمره، فهو كان يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم ويسبقهم، ومن يفعل هكذا؟ أليس شخصا يريد أن يلفت النظر إليه، وأن يثير الشبهة، وأن يلتقط فيسأل عما معه؟!
ولما رجع الثوار لم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها، فقال علي للثوار: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ قال أهل مصر: أخذنا مع البريد كتابا مختوما من عثمان يأمر عامله بقتلنا، قال علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بخبر الكتاب المرسل إلى أهل مصر، وقد سرتم مراحل على طريق بلدكم؟ هذا والله أمر أبرم بالمدينة. فقال الثوار: ظنوا ما شئتم فلن نحيد عن طلب اعتزال عثمان واستقروا بالمدينة.
وثانية الحقائق التي تنكشف أمر علي بن أبي طالب، وأن الوفد قد تلقى منه كتابا تحثه على المجيء إلى المدينة ومناجزة عثمان. هذه الكتب غير صحيحة، فعلي يقول: "والله ما كتبت إليكم كتابا قط" فهنالك إذن تزوير على لسانه وكتاب كتب باسمه لتهييج الناس.
ولم يكن الكتاب الذي كتب باسمه هو الوحيد، ففي نص آخر صحيح الإسناد كما يقول ابن كثير: [قال مسروق لعائشة]: هذا [أي قتل عثمان] عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمريهم أن يخرجوا إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا.
قال الأعمش: فكانوا يرون أنه كُتب على لسانها.
والحقيقة الثالثة أن عثمان بعد أن ينفي أن يكون قد كتب الكتاب، يلفت النظر إلى أن الخاتم ليس خاتمه، بل خاتم منقوش على مثال خاتمه.
هذه الحقائق الثلاث تبين لنا أن وراء الحادث مؤامرة تحاك، وليس أبطالها –كما تدعيه النصوص المزيفة- الصحابة في المدينة، كعلي وطلحة والزبير وعائشة، بل رجال آخرين مزورين لا يظهرون أنفسهم.
ومما يؤكد وجود مؤامرة أن مطالب الثوار مطالب تطلب في كل عهد ولا تتطلب ثورة بهذا التدبير والتقتيل
ففي تاريخ دمشق: قال عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أيكم يأتي هؤلاء القوم فيسألهم ما الذي نقموا وما الذي يريدون، ثلاث مرات لا يجيبه أحد، فقام علي فقال أنا فقال عثمان: أنت أقربهم رحما وأحقهم بذلك، فأتاهم فرحبوا به، وقالوا: ما كان يأتينا أحد أحب إلينا منك. فقال: ما الذي نقمتم؟ قالوا نقمنا أنه محا كتاب الله [أي جمع الأمة على مصحف واحد] وحمى الحمى واستعمل أقرباءه، وأعطى مروان مائة ألف، وتناول أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ--
فرد عليهم عثمان: أما القرآن فمن عند الله، إنما نهيتكم لأني خفت عليكم الاختلاف فاقرءوا على أي حرف شئتم، وأما الحمى فوالله ما حميته لإبلي ولا غنمي وإنما حميته لإبل الصدقة لتسمن وتصلح وتكون أكثر ثمنا للمساكين، وأما قولكم أني أعطيت مروان مائة ألف فهذا بيت مالهم فليستعملوا عليه من أحبوا، وأما قولهم تناول أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنما أنا بشر أغضب وأرضى، فمن ادعى قبلي حقا أو مظلمة فهذا أنا فإن شاء قود وإن شاء عفو، وإن شاء أرضي فرضي الناس واصطلحوا ودخلوا المدينة.
إن لنا أن نتساءل من هم أولئك الذين اختفوا وراء الفتنة يحركونها..إن الواقدي وأبا مخنف يوضحان لنا خبر تلك الأيدي، فإذا هي أيدي الصحابة الذين كانوا حول عثمان كطلحة والزبير وعائشة وعمرو بن العاص ومحمد بن أبي حذيفة وعمار بن ياسر.. لكن قليلا من الفكر يبعد اشتراكهم، وهم الذين خرجوا (طلحة والزبير وعائشة وعمرو بن العاص) على الخليفة علي يحاربونه بدعوى المطالبة بدم عثمان؟!
ولئن كان الواقدي وأبو مخنف لا يقدمان لنا بيانا معقولا سليما عن اليد الخفية، فإن سيف بن عمر يكشف عنها كشفا واضحا، خاصة وأن روايته هذه كان موقفه فيها موقف رجال السلف في احترامه للصحابة وتنزيهه لهم عن فعل القبيح.
في الطبري قال سيف عن مشايخه: كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء، أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم [أي استقر] فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمدا يرجع، وقد قال الله عز و جل {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم بعد ذلك إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد ثم قال محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء ثم قال بعد ذلك من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووثب على وصي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك إن عثمان أخذها بغير حق وهذا وصي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرأه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يبدون فيقول أهل كل مصر إنا لفي عافية ما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار فقالوا إنا لفي عافية مما فيه الناس.
ويظهر من هذا النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يرفع من منزلة علي بن أبي طالب، وأن يجعل عثمان مغتصبا، فيوقع بين اثنين من الصحابة، فضلا عن تحريك الناس على أمرائهم تحت ستار مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إنه لما لم يحصل على كامل مطلوبه من ذلك –لأن المنكرات لم تكن كما كان يود أن تكون- صار يحض أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، فيتخيل أهل البصرة مثلا أن حال أهل مصر على أسوأ ما يكون من واليهم، ويتخيل أهل مصر أن حال أهل الكوفة على أسوأ ما يكون من قبل أميرهم، وكان أهل المدينة يتلقون الكتب من الأمصار جميعا بحالها وسوءها من أتباع ابن سبأ، ويستفيد من هذه الحال ضعاف الإيمان.
وشعر الخليفة عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بأن شيئا يحاك في الأمصار، فكتب إلى أهل الأمصار:
إني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواما يشتمون وآخرون يضربون فيا من ضرب سرا وشتم سرا من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخض بشر.
وخطب عثمان يوم الجمعة في المسجد وشهّد على صحة كلامه محمد بن مسلمة، فأخذ حكيم بن جبلة ابن مسلمة فأقعده، فقام زيد بن ثابت، وطلب الكتاب الذي عثروا عليه [ليرده عليهم وهو أعرف الناس بالخطوط] فأقعده أيضا، وثار الثوار بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع على المنبر مغشيا عليه. وكان المصريون لا يطمعون في مساعدة أحد من أهل المدينة إلا محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة. أما غيرهم فقد استقتلوا في الدفاع عن عثمان. ثم إن عثمان بعث: أن انصرفوا، فانصرفوا، وأقبل علي وطلحة والزبير حتى دخلوا على عثمان يعودونه من صرعته، ويشكون بثهم ثم رجعوا إلى منازلهم.
وتفرق أهل المدينة في بساتينهم ولزموا بيوتهم لا يخرج أحد ولا يجلس إلا وعليه سيفه خوفا على نفسه، وحاصر الثوار المدينة أربعين يوما ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح.
ولما قضى عثمان في ذلك المجلس حاجاته، وعزم له المسلمون على الصبر والامتناع عليهم بسلطان الله تعالى، قال: اخرجوا رحمكم الله فكونوا بالباب، وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني، وأرسل إلى علي وطلحة والزبير، وعدة أن ادنوا، فاجتمعوا وأشرف عليهم، فقال: أيها الناس اجلسوا فجلسوا جميعًا المحارب والطارئ والمسالم المقيم، فقال: يا أهل المدينة، إني أستودعكم الخلافة من بعدي، إني والله لا أدخل علي أحدًا بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءه، ولأدعن هؤلاء وما رأوا، وإني غير معطيهم شيئًا يتخذونه عليكم دخلًا في دين أو دنيا، حتى يكون الله هو الصانع في ذلك ما أحب. وأمر أهل المدينة بالرجوع، وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن ومحمدًا وابن الزبير وأشباهًا لهم، فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم، وثاب إليهم أناس، ولزم عثمان الدار.
وكان الحصار أربعين ليلة والنزول سبعين، فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة ليلة قدم ركبان من الوجوه، فأخبروا خبر من قد تهيأ إليهم من الآفاق: حبيب من الشام، ومعاوية من مصر، والقعقاع من الكوفة، ومجاشع من البصرة، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء، وقد كان يدخل عليه بالشيء مما يريد، وطلبوا العلل، فلم تطلع عليهم علة، فعثروا، فرموا في داره بالحجارة ليرموا، فيقولوا: قوتلنا وذلك ليلًا فناداهم: ألا تتقون الله! أما تعلمون أن في الدار غيري! قالوا: لا والله ما رميناك، قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم، إن الله لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئونا، وأشرف عثمان على آل حزم، وهم في جيرانه، فسرح ابنًا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء، فإن قدرتم على أن ترسلوا إلينا بماء فافعلوا، وإلى طلحة الزبير وإلى عائشة وأزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكان أولهم إنجادًا له علي وأم حبيبة، جاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس، إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة، وإن الروم وفارس لتؤسر فتطعم وتسقى، وما تعرض لكم هذا الرجل في شيء، فبم تستحلون حصره وقتله؟ فقالوا: لا والله ولا نعمة عين، لا نتركه يأكل ولا يشرب. فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت فيما أنهضتني له، فرجع.
وجاءت أم حبيبة على بغلة لها برحالة مشتملة على إداوة، فقيل: أم المؤمنين أم حبيبة! فضربوا وجه بغلتها، فقالت: بني، إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل، وأحببت أن ألقاه وأسأله عن ذلك كي لا تهلك أموال أيتام وأرامل. فقالوا: كاذبة. وأهووا لها، وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت بأم حبيبة، فتلقاها الناس وقد مالت رحالتها، فتعلقوا بها فأخذوها وقد كادت تقتل، فذهبوا بها إلى بيتها.
وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة، واستتبعت أخاها فأبى، فقالت: أم والله لئن استطعت أن أحرمهم ما يحاولون لأفعلن.
وعن فاجعة مقتل عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يذكر صاحب «مختصر تاريخ دمشق»: فلما فرغ [أي من صلاة الصبح] أقبل الناس علينا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أن أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان فإنك مفطر عندنا، وأنا أشهدكم أني قد أصبحت صائمًا، وأعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إلا خرج من الدار سالمًا مسلمًا منه، فقلنا: يا أمير المؤمنين، إن خرجنا لم نأمنهم على أنفسنا، فأذن لنا فلنكن في بيت من الدار يكون لنا فيه جماعة ومنعة، فأذن لهم، فدخلوا البيت، وأمر [أي عثمان] بباب الدار ففتح فدعا بالمصحف وأكب عليه وعنده امرأتاه بنت الفرافصة الكلبية وابنة شيبة، فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فمشى إليه حتى أخذ بلحيته فقال: دعها يا ابن أخي، فوالله إن كان أبوك ليلهف لها بأدنى من هذا [أي ليحزن من أخذ لحيته بأدنى شدة مما يفعل ابنه بها]، فاستحيا فخرج، فقال: قد أشعرته لكم [أصبته في شعره]، وأخذ عثمان ما امتعط [تساقط] من لحيته، فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير مخدد [مجدور في خده]، عداده من مراد، ومعه جرز [عامود] من حديد، فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ [التيس الكبير العظيم الجثة واللحية، وذكر الشيعة أنه من أسماء ذكور الضباع وزعموا أن أنهم إنما أطلقوا عليه هذا الاسم لأوجه الشبه بينه وبين ذكر الضباع، فذكر الضباع -كما زعموا- إذا صاد صيدا قاربه -جامعه- ثم أكله، وعثمان رضي الله عنه -وحاشاه أن يوصف بما رماه به الشيعة من الإفك- "أتى بامرأة لتحد، فقاربها -جامعها- ثم أمر برجمها" -على حد زعم الشيعة-] فقال: لست بنعثل، ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كنت من المشركين، فقال: كذبت وضربه بالجزر على صدغه الأيسر فقتله فخر، وأدخلته بنت الفرافصة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة ضليعة، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده، فدخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتًا، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة فغلبته، فكشف عنها درعها من خلفه حتى نظرت إلى متنها، فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها، فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، وهو غلام أسود لعثمان أعن على هذا، فمشى إليه الغلام، فضربه ضربة بالسيف فقتلهن ثم أن الناس دخلوا الدار فلما رأوا الرجل قد قتل، وأن المرأتين لا يتركانه، ندم ناس من قريش. واستحيوا، فأخرجوا الناس وثار أهل البيت لهم، فاقتتلوا على باب الدار، فضرب مروان بن الحكم بالسيف على العاتق، فخر فضرب رجل من أهل مصر المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: تعس قاتل المغيرة، فألقى سلاحه ثم أدبر هاربًا يلتمس التوبة.
وأمسينا فقلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به، فانطلقوا إلى بقيع الغرقد فأمضا له من جوف الليل، ثم حملناه فغشينا سواد من خلفنا هبناهم حتى كدنا بأن نفترق عنه، فنادى منهم: ألا روع عليكم. اثبتوا، فإنما جئنا لنشهده معكم، وكان أبو خنيس يقول: هم ملائكة الله، فدفناه، ثم هربنا من ليلتنا إلى الشام، فلقينا أهل الشام بوادي القرى عليهم حبيب بن مسلمة.
وكان مقتل سيدنا عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة 35هـ، فرحمه الله تعالى وأجزل له الثواب والمغفرة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد