بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211){
{هَلْ يَنظُرُونَ} «هل»: هنا للنفي، والمعنى: ما ينتظرون ويترقبون، ولذلك دخلت «إلاَّ»، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها: «إلاَّ»، كثير الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرب، قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17] {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف:35]
{إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} أي ما ينتظرون إلاَّ إتيان الله، وحقيقة الإتيان الانتقال من حيز إلى حيز، فهو إتيان على ما يليق بالله تعالى بلا تكيف ولا تشبيه ولا تعطيل، ونقل عن ابن جرير أنه قال: يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة.
والذي نسب فعل «الإتيان» إليه هو الله عزّ وجلّ؛ وهو أعلم بنفسه؛ وهو يريد أن يبين لعباده، كما قال تعالى: {يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء:176]؛ وإذا كان يريد أن يبين، وهو أعلم بنفسه، وليس في كلامه عِيٌّ، وعجز عن التعبير بما أراد؛ وليس في كلامه نقص في البلاغة؛ إذاً فكلامه في غاية ما يكون من العلم؛ وغاية ما يكون من إرادة الهدى؛ وغاية ما يكون من الفصاحة، والبلاغة؛ وغاية ما يكون من الصدق؛ فهل بعد ذلك يمكن أن نقول: إنه لا يراد به ظاهره؟!
ولا يعارض ذلك أن الله قد يضيف الإتيان إلى أمره، مثل قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} [النحل:1]، ومثل قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33]؛ لأننا نقول: إن هذا من أمور الغيب؛ والصفات توقيفية؛ فنتوقف فيها على ما ورد؛ فالإتيان الذي أضافه الله إلى نفسه يكون المراد به إتيانه بنفسه؛ والإتيان الذي أضافه الله إلى أمره يكون المراد به إتيان أمره؛ لأنه ليس لنا أن نقول على الله ما لا نعلم؛ بل علينا أن نتوقف فيما ورد على حسب ما ورد.
{فِي} «مع»، يعني يأتي مصاحباً لهذه الظلل؛ وإنما أخرجناها عن الأصل الذي هو الظرفية؛ لأنا لو أخذناها على أنها للظرفية صارت هذه الظلل محيطة بالله عزّ وجلّ؛ والله أعظم، وأجلّ من أن يحيط به شيء من مخلوقاته، وهذا الغمام يأتي مقدمة بين يدي مجيء الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً} [الفرقان:25]
{ظُلَلٍ} جمع ظلة، وهي السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظله القصر {مِّنَ الْغَمَامِ} السحاب الأبيض الرقيق؛ لكن ليس كسحاب الدنيا؛ فالاسم هو الاسم؛ ولكن الحقيقة غير الحقيقة؛ لأن المسميات في الآخرة -وإن شاركت المسميات في الدنيا في الاسم- إلا أنها تختلف، مثلما تختلف الدنيا عن الآخرة.
{وَالْمَلائِكَةُ} وتأتيهم الملائكة أيضاً محيطة بهم، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:21-22]؛ وفي حديث الصور الطويل الذي ساقه ابن جرير، وغيره أن السماء تشقق؛ فتشقق السماء الدنيا بالغمام، وتنزل الملائكة، فيحيطون بأهل الأرض، ثم السماء الثانية، والثالثة، والرابعة...؛ كل من وراء الآخر؛ ولهذا قال تعالى: {صَفّاً صَفّاً} يعني صفاً بعد صف؛ ثم يأتي الرب عزّ وجلّ للقضاء بين عباده؛ ذلك الإتيان الذي يليق بعظمته وجلاله؛ ولا أحد يحيط علماً بكيفيته؛ لقوله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110]
{وَقُضِيَ الأَمْرُ} أي ما يترقبون إلا مجيء الله مع ظلل من الغمام، وإتيانَ الملائكة، وانقضاءَ الأمر؛ ومنهم من قال: إنها جملة مستأنفة؛ أي: وقد انتهى الأمر، ولا عذر لهم بعد ذلك، ولا حجة لهم ... والقضاء: الفراغ والإتمام. والأمر: المعهود للناس كلهم وهو الجزاء
{وَقُضِيَ الأَمْرُ} معطوف على قوله: {يَأْتِيَهُمُ}، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع.
وفيها بلاغة الإيجاز فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.
وفي الآية: إثبات صفة المجيء للرب تعالى لفصل القضاء يوم القيامة، وحرمة التسويف والمماطلة في التوبة.
{وَإِلَى اللّهِ} فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك {تُرْجَعُ الأمُورُ} والرجوع في الأصل: المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع، ويستعمل مجازا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره.
وصرح باسم {الله} لأنه أفخم وأعظم وأوضح، وإن كان قد جرى ذكره في قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ} ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها لا إلى غيره، إذ هو المنفرد بالمجازاة، ولرفع إبهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء، بل ذلك إلى الله وحده، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا، فصارت إليه كلها في الآخرة.
{سَلْ} إسأل: سقطت منه الهمزتان للتخفيف {بَنِي إِسْرَائِيلَ} ذريّة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وإسرائيل لقب يعقوب.
وهذا السؤال ليس سؤالاً عما لا يعلم، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات، وإنما هو سؤال عن معلوم، فهو تقريع وتوبيخ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات، وأنها ما أجدت عندهم {كَمْ} استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام {آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ} ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وتحقيق نبوته، وتصديق ما جاء به، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه: كالعصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، أو: القرآن قصّ الله قصص الأمم الخالية حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء، ولا كتب ولا ارتجل، أو معجزات رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كتسبيح الحصى، وتفجير الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر، وتسليم الحجر.. أربعة أقوال
يأمر الله تعالى رسوله أن يسأل بني إسرائيل عن الآيات الكثيرة التي آتاهم الله، وكيف كفروا بها فلم تنفعهم شيئاً، والمراد تسليته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الألم الذي يحصل له من عدم إيمان أهل الكتاب والمشركين به وبما جاء به من الهدى وضمن ذلك تقريع اليهود وتأنيبهم على كفرهم بآيات الله وإصرارهم على عدم الدخول في الإِسلام.
{وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ} تقديره فبدلوها ولم يعلموا بها، حذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من: كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل.
{مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ} تأكيد، والمجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن، لأنها من لوازم المجيء عرفا. وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]
{فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذكره لم يقصد منه الفائدة، لأنها معلومة: بل التهديد
ومفاد الكلام: كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب؛ لأن من يبدل نعمة الله فالله معاقبه، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم، ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا، تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.
وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال: «فإنه شديد العقاب»، لإدخال الروع في ضمير السامع وتربية المهابة، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه، والعقاب هو: الجزاء المؤلم عن جناية وجرم، سمى عقابا لأنه يعقب الجناية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد