بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في كتابه الماتع «الدولة الأموية» يسرد لنا د. يوسف العش، طرفا من سيرة الصحابي الجليل سيدنا معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مجليا جوانب من شخصيته الفذة، ومنصفا في عرض سيرته العطرة، التي تركت بصمتها في التاريخ الناصع لأمتنا الإسلامية الغراء، فرحم الله سلفنا الصالح الذين نتقرب إلى الله تعالى بحبهم وموالاتهم والترحم والترضي عليهم في كل آن وحين.
** إن طبع معاوية -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصفاته النفسية وعقليته كانت في المستوى الذي يوفي مسائل تلك الساعة حقها، فهو رجل ذلك العصر، كان كفؤا بالإدارة، إذ عاناها عشرين عاما قبل أن يصبح خليفة، فأحسنها وعرفها وعجنها، ثم كان كفؤا بالحرب، فقد حارب الروم فغلبهم في مواقع كثيرة، وقد حارب عليا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وكسب في المرحلة الأخيرة من حربه معه.
ثم إنه عارف بالرجال، يفهم نفسيتهم وأطوارهم، ويمتزج بتلك النفسية والأطوار فيسيرها نحو هدفه، ويحسن التصرف بها كل الحسن، يسوس الناس بما ينبغي أن يساسوا به، فينقلبون عليه متوددين طائعين مقدرين ظروفه.
وهو بعيد النظر كل البعد، فهو لا يدرس مسائل الساعة وحدها، بل يرى من خلالها خطوطا للمستقبل عليه رسمها ووضعها موضع التنفيذ.
هذا البعد في النظر العمق في درس الأشياء يرافقه صبر شديد، وتحمل للمشاق دون تضجر وتأفف، ويرافقه أيضا حلم شديد وتواضع كبير يصل به إلى أن يفتح صدره لجليسه ويرفعه إلى أكثر مما ينبغي، وهذا يرضي الجليس ويرضي العربي خاصة،
** ومعاوية بعد ذلك كله يعمل فكره وسياسته في كل أمر، فيدرك بالسياسة ما لا يدرك بالسيف. والسياسة عنده طويلة الباع، بعيدة الأغوار، تتناول كل تفصيل، وتنظر إلى كل خبر، فكأنه يود أن يطلع على كل شيء.
** ونضيف إلى ما تقدم كرمه، فقد كان كريما لا يداني في كرمه، فالأموال تغدق من بين يديه دون حساب، وهو لا يعدها حين يعطيها، لكنه يحسن التصرف فيها، فلا يعطيها إلا إذا عادت عليه بفائدة، ولا يتصرف فيها إلا في محلها، فهي خادمة له تؤدي أوامره وتعطيه غاياته، وكان معاوية سيدا عربيا يتحلى بكل المزايا التي يجب أن يتحلى بها السيد العربي، مع سؤدد وعظمة، وهيبة وفصاحة لسان، وتجوال في المعاني والأفكار، فلا يدع إنسانا يسبقه في بلاغته إلا متغاضيا عنه أو متواضعا أو متساهلا، وسياسته عملية، فهو يعرف من أين تؤكل الكتف، وكل شيء عنده يلبس لباس السياسة، على أنه لباس زاه جميل.
** أما الإسلام فمعاوية يرى أن يخدمه في الفتوح، وهو في الفتوح قائد كبير له فيه يد كبيرة، فقد كان من سياسته، وهو وال على الشام، أن يسير الفتوح وينشر الإسلام، ويوسع رقعته، واستمر على ذلك بعد أن أصبح خليفة.
وهناك ثلاث جبهات:
أ- الغربية: فالعرب كانوا قد وصلوا إلى جهات تونس اليوم، وأخذوا يتقدمون نحو الغرب، لكن القبائل البربرية كانت تقاومهم بشدة وتندد بهم، وأقام معاوية رجلا عظيما قائدا لتلك الجبهة وهو «عقبة بن نافع»، فسار في الفتوح، وأخضع عددا كبيرا من القبائل البربرية، فدخلوا في الإسلام، وخير ما فعل هو حماية العرب من الهجمات الغادرة، إذ أسس لهم القيروان، ومنها كانت تسير الفتوح ثم تعود البعوث إليها.
ب- وأما في الشرق فالبطل هو المهلب بن أبي صفرة، يحارب الترك، ويسير في بلادهم، ويعود منها منتصرا، وله انتصارات مهمة فيها.
ج- والجبهة التي كان يهتم بها معاوية خاصة هي جبهة الروم، فقد نظم أمره فيها تنظيما جيدا، فأحدث الشواتي والصوائف، وهي بعوث تسير إحداها للحرب في الصيف والأخرى في الشتاء.
ثم أولى الخليفة الأسطول لفتح القسطنطينية من البر والبحر اهتماما خاصا، فأنشأ أسطولا حربيا عظيما، عدد سفنه ألف وسبعمائة سفينة، وهو أسطول ضخم، واستطاع به فتح بعض الجزر، وامتد الأسطول أيضا إلى القسطنطينية بعد أن استطاع أن ينتصر في معركة «ذات الصواري»، فقد انتصر فيها على الروم نصر مؤزرا، على أن الصعوبة كانت في تلك النار التي يقذف بها الروم على السفن فتحرقها، وتعرف بالنار الإغريقية.
وحدث أن معاوية عام 48هـ جهز جيشا عظيما لفتحها، وكان فيه عدد كبير من الصحابة، منهم أبو أيوب الأنصاري وابن عباس وابن الزبير وابنه يزيد، وسار الجيش حتى بلغ أبوابها، وأبلى بلاء حسنا فيها، وكان من أفراده من يطلب الموت لأجل الشهادة، على أن الجيش لم يستطع اقتحام المدينة من البر، وهي محصنة خير تحصين، فاستشهد عدد كبير، وقد حفظ الأتراك قبور الشهداء، وبصفة خاصة قبر أبي أيوب الأنصاري، وكانت ملوكهم تتوج بالخلافة في ضريح أبي أيوب، وفشلت الحملة خاصة لأن النار الإغريقية أحرقت السفن، لكن فشلها لم يثن معاوية عن متابعة شواتية وصوائفه دون جدوى كبيرة.
** أوجد معاوية نظام الوراثة في الخلافة، واعتقد أن هذا النظام يحل المشاكل التي يمكن أن تقع في الصراع بين التيارات المختلفة، ولعله تخيل أنه لو ترك الأمر لحين وفاته دون ولي للعهد لظهر الخصام حالا، ولتنافر المسلمون وتقاتلوا، فيجب عليه إذن أن يعهد بولاية العهد لشخص معين.
واندفعت عاطفة معاوية نحو ابنه يزيد ليتخذ له البيعة، على أنه كان بصيرا في ترتيب تلك البيعة، فلم يقم بها دون روية بل أعد لها عدتها، وأول ذلك أنه أرسل إلى زياد [أخو معاوية وكان على العراق] يستشيره في شأنها، وكأنه يطلب بذلك موافقته عليها، وكان جواب زياد بعد أن استشار مستشاريه أن يتريث معاوية، ولعله يشير بذلك إلى أنه يجب أن يبدو يزيد بأحسن مظهر من مظاهره، فيتخلى عن صفتيه المعيبتين [الكسل والاستهتار] ويقبل على الجد، ويهتم بشئون المملكة أكثر من ذي قبل، وقبل معاوية بتلك النصيحة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد