ليس عليكم جناح


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

 

 

}لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {(199)

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} إثم {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا} مال الربح من التجارة {مِّن رَّبِّكُمْ} أي تطلبوا ربحًا من التجارة في الحج، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون بسبب التجارة، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج، وهذا لدفع توهم أن من يشتغل بالعبادة لا يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية.

وعن ابن عباس: كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أسواقا في الجاهلية، فَتَأَثَّمُوا أَنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} في مواسم الحج أهـ. أي قراها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج.

وقد كانت سوق عُكَاظَ تَفْتَحُ مُسْتَهَلَّ ذي القعدة وتدوم عشرين يوما وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء، فهي أعظم أسواق العرب وَكَانَ مَوْقِعُهَا بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ عُكَاظَ إِلَى مَجَنَّةَ ثُمَّ إِلَى ذِي الْمَجَازِ، وَالْمَظْنُونُ، أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة.

{فَإِذَا أَفَضْتُم} الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة، فالإفاضة: الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسال.

وسموا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، وكانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك في حجة الوداع وقال: (لَيْسَ الْبِرُّ بِالْإِيضَاعِ [السير السريع] فَإِذَا أَفَضْتُمْ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ) [أحمد بنحوه].

 {مِّنْ عَرَفَاتٍ} اسم واد خارج الحرم فهو (مشعر حلال)، وفي وسط وادي عرفة جُبَيْلٌ يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر، ووقف عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راكبا يوم عرفة، وَبُنِيَ في أعلى ذلك الجبيل عَلَمٌ في الموضع الذي وقف فيه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقف الْأَئِمَّةُ يوم عرفة عنده.

والإفاضة تكون بعد غروب الشمس من يوم التاسع من شهر الحجة، ووقت الوقوف بعرفة من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام، ولو أفاض قبل الغروب، وكان وقف بعد الزوال، فأجمعوا على أن حجة تام، إلاَّ مالكًا فقال: يبطل حجه.

قال ابن عاشور: وَالتَّصْرِيحُ بَاسِمِ (عَرَفَاتٍ) فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلرَّدِّ عَلَى قُرَيْشٍ إِذْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ فِي (جَمْعٍ) وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ لِأَنَّهُمْ حُمْسٌ، فَيَرَوْنَ أَنَّ الْوُقُوفَ لَا يَكُونُ خَارِجَ الْحَرَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ مُزْدَلِفَةُ مِنَ الْحَرَمِ كَانُوا يَقِفُونَ بِهَا وَلَا يَرْضَوْنَ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّ عَرَفَةَ مِنَ الْحِلِّ.

وقال أيضا: وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى يُجِيزَهُمْ أَحَدُ (بَنِي صُوفَةَ) وَهُمْ بَنُو الْغَوْثِ بْنِ مُرِّ بْنِ أَدِّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرٍ وَكَانَتْ أُمُّهُ جُرْهُمِيَّةً، لُقِّبَ الْغَوْثُ بِصُوفَةَ لِأَنَّ أُمَّهُ كَانَتْ لَا تَلِدُ فَنَذَرَتْ إِنْ هِيَ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَنْ تَجْعَلَهُ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ فَوَلَدَتِ الْغَوْثَ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ صُوفَةً يَرْبُطُونَ بِهَا شَعْرَ رَأْسِ الصَّبِيِّ الَّذِي يَنْذُرُونَهُ لِخِدْمَةِ الْكَعْبَةِ وَتُسَمَّى الرَّبِيطَ، فَكَانَ الْغَوْثُ يَلِي أَمْرَ الْكَعْبَةِ مَعَ أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمَ فَلَمَّا غَلَبَ قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ عَلَى الْكَعْبَةِ جَعَلَ الْإِجَازَةَ لِلْغَوْثِ ثُمَّ بَقِيَتْ فِي بَنِيهِ حَتَّى انْقَرَضُوا، وَقِيلَ إِنَّ الَّذِي جَعَلَ أَبْنَاءَ الْغَوْثِ لِإِجَازَةِ الْحَاجِّ هُمْ مُلُوكُ كِنْدَةَ، فَكَانَ الَّذِي يُجِيزُ بِهِمْ مِنْ عَرَفَة يَقُول:

لَا همّ إِنِّي تَابِعٌ تِبَاعَهْ ... إِنْ كَانَ إِثْمٌ فَعَلَى قُضَاعَهْ

لِأَنَّ قُضَاعَةَ كَانَتْ تُحِلُّ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ، وَلَمَّا انْقَرَضَ أَبْنَاءُ صُوفَةَ صَارَتِ الْإِجَازَةُ لِبَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاءَةَ بْنِ تَمِيمٍ وَرِثُوهَا بِالْقُعْدُدِ فَكَانَتْ فِي آلِ صَفْوَانَ مِنْهُمْ وَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بَيْدِ كِرِبِ بْنِ صَفْوَانَ.

 {فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} "المشعر" اسم مشتق من الشُّعُورِ أَيِ الْعِلْمِ، أَوْ مِنَ الشِّعَارِ أَيِ الْعَلَامَةِ، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخِرَ الْمَسَاءِ فَيُدْرِكُهُمْ غُبْسُ مَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.

ووصف المشعر بوصف "الحرام" لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات فهي مشعر حلال.

والمشعر الحرام هو "المزدلفة"، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من منى أي اقتربت؛ فيبيتون بها قاصدين التصبيح في منى. ويقال للمزدلفة أيضا "جمع" لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها، الْحُمْسُ وغيرهم من عهد الجاهلية.

وتسمى المزدلفة أيضا "قُزَحَ"، باسم قَرْنِ جبل بين جبال من طرف مزدلفة ويقال له: الْمِيقَدَةُ لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران، وهو موقف قريش في الجاهلية.

وموقف الإمام في المزدلفة على قُزَحَ. روى أبو داود والترمذي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أصبح بجمع أتى قُزَح فوقف عليه وقال: (هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ)

وحديث جابر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما صلى الفجر -يعني بالمزدلفة-، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفًا حتى أسفر.

ولم تتعرض الآية لكيفية الذكر بالمزدلفة، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها، وإنما هذا أمر بالذكر عند جبل قُزَحَ الذي ركب إليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فدعا عنده وكبر وهلل، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير: فإذا أفضتم من عرفات، ونمتم بالمزدلفة، فاذكروا الله عند المشعر الحرام... ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص.

{وَاذْكُرُوهُ} هذا الأمر الثاني هو الأول، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر، لأن الذكر من أفضل العبادات {كَمَا هَدَاكُمْ} الكاف هنا للتعليل كما في التشهد (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...)

وإن جعلناها للتشبيه فالمعنى: اذكروه على الوجه الذي هداكم له؛ فيستفاد منها أن الإنسان يجب أن يكون ذكره لله على حسب ما ورد عن الله عزّ وجلّ.

والمعنى: أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية، ولهذا المعنى قال الزمخشري: "أذكروه ذكرًا حسنًا كما هداكم هداية حسنة".

{وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ} المراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك.

{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} روت عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أن قريشا ومن والاها من كنانة وجديلة وقيس، كانوا يقفون بالمزدلفة ترفعا عن الوقوف مع الناس في عرفات، وكانوا يسمون بالْحُمْس [أي الشديدي التصلب في الدين] أما سائر العرب فتقف في عرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه الكريم أن يأتي عرفات ثم يقف بها مع الناس، ثم يفيض منها.

وروى الطبري عن ابن أبي نَجِيحٍ قال: كانت قريش -لا أدري قبل الفيل أم بعده- ابتدعت أمر الحُمْس رأيا قالوا: نحن ولاة البيت وقاطنوا مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، يعني لأن عرفة من الحل فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها، وكانت كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قد دخلوا معهم في ذلك اهـ. يعني فكانوا لا يفيضون إلا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة.

{وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ} أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول، وأماكن الرحمة، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع

وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة، أو معها، دليل على أن ذلك الوقت، وذلك المكان المفاض منه، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها، والرحمة والمغفرة.

وقد روي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب عشية عرفة فقال: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، وَوَهْبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هُذَا فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنَكُمْ وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ وَوَهْبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَالتَّبِعَاتُ فِيمَا بَيْنَكُمْ ضَمِنَ عِوَضًا مِنْ عِنْدِهِ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللهِ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَضْتَ بِنَا بِالْأَمْسِ كَئِيبًا حَزِينًا، وَأَفَضْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَرِحًا مَسْرُورًا قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي شَيْئًا بِالْأَمْسِ لَمْ يَجُدْ لِي بِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللهَ قَدْ أَقَرَّ عَيْنَكَ بِالتَّبِعَاتِ). [حديث غريب: حلية الأولياء]

ومن الفوائد: أنه يشرع أن يستغفر الله عزّ وجلّ في آخر العبادات؛ لقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ}.

{إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار، وهو أنه تعالى كثير الغفران، كثير الرحمة، وهاتان الصفتان للمبالغة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply