بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ{.
مرة أخرى: هل بقي على ظهر الأرض من يتعامل بالربا؟
قد تظنني أمزح حين أطرح سؤالًا كهذا، لكنه سؤال جاد يخطر في البال أحيانًا، حينما أسمع فتاوى المشايخ الرسميين في مصر عن ربا البنوك، وأنه حلال بلال كالماءِ الزلال؟
وسبب السؤال: أن الربا كما يعلم كل مسلم من كبائر الذنوب، وهو محرم قطعًا كما قال تعالى }:الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا{.
وقد توعد الله بمحاربة آكليه فقال سبحانه: }يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ{ وأخبر سبحانه أن مصير الربا المحق، فقال تعالى:}يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا{.
وأكثر الأمم التي عرفت بأكل الربا هم اليهود مع أنه كان محرمًا عليهم، وقد ذمهم الله فقال تعالى: }وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ{، وكل من ألم بشيء من التاريخ يعلم أن اليهود هم سدنة الربا ودهاقينه، وهم أصحاب أكبر البنوك في العالم، وما قصة أل روتشيلد ببعيد.
وظني أنك لو ذهبت لأي بنك في العالم، سواء في إسرائيل اليهودية أو أمريكا المسيحية أو الهند الهندوسية أو الصين بأخلاطها من الملاحدة أو أصحاب الديانات الوضعية، فسوف تجد أن فكرة الفائدة الربوية تمثل ثابتًا أساسيًا لا يختلف بغض النظر عن صعودها أو هبوطها، فالعميل يضع أمواله ليأخذ عليها فائدة، والبنك يقرضها لآخرين ليحصل على فائدة أكبر وهكذا دواليك .
ومنذ عرف المسلمون هذا النمط من الفائدة البنكية وفتاوى العلماء والمجامع الفقهية سوى نزر يسير على التحريم وأنها قروض جرت نفعًا وثمة إجماع على تحريمها لدى الفقهاء المتقدمين .
لكن ما الذي حدث في السنوات الأخيرة؟ تم البحث عن مخارج عديدة لمعاملات البنوك، فتارة يقال إنها معاملة مستحدثة، وعقد جديد، والأصل في المعاملات الحل، وتارة يقال إن العملات النقدية لا يدخل فيها الربا وإنما الربا في الذهب والفضة، أما التخريج الشائع والتبرير الأشهر فهو أن ما يضعه العميل في البنك ليأخذ عليه الفائدة ليس قرضًا بل إيداع، وما يعطيه البنك من مال بفائدة أعلى ليس إقراضًا بل تمويل .
وبهذه التخريجة الظريفة، وتغيير الألفاظ من القرض إلى الوديعة والتمويل، حُلت المشكلة، وانتفى الربا المحرم، وذهب الشيخ القائل بالتحليل لينام قرير العين مطمئن البال، وقد صحح معاملات الناس مع البنوك، وأنقذهم من كبيرة الربا الشنيعة، وفي الوقت نفسه أرضى الدولة، وخدم الاقتصاد الوطني بزعمه !!
ويبقى السؤال الذي بدأت به المنشور: أليست كل بنوك العالم تفعل ذلك، والاقتصاد العالمي كله قائم على هذا النمط، وقد بحت الأصوات في بيان الكوارث والأزمات الاقتصادية التي حدثت وستحدث بسبب هذا النظام الربوي، وما أزمة الرهن العقاري في أمريكا 2008 عنا ببعيد، وقبلها أزمة النمور الأسيوية، وقبلها الكساد الكبير عام 1929 م، وغير ذلك من حالات الإفلاس والانهيار المالي ودخول السجون على مستوى الأفراد والشركات.
فأين الربا المحرم إذن؟؟ ولماذا تاب اليهود أخيرا من أكل الربا القديم، فأنشأوا البنوك وتحولت معاملاتهم إلى حلال زلال؟؟ وما الفرق بين معاملات بنك يهودي وبنك مصري والصورة واحدة .
أنا أسأل فعلًا بجدية، وليت متخصصًا يجيبني: أين الربا الآن؟ ولماذا تزيد كل الموبقات من خمور وزنا وفجور، أما الربا فهو وحده الذي تقلص، ولماذا هدى الله البنوك ذات الميول الرأسمالية المتوحشة وهدى الله القائمين عليها وصارت معاملاتهم في القروض موافقة للشرع الحنيف !!
لا تقل لي: الربا الموجود هو ربا الفضل بأن تبيع صاعا بصاعين مثلا من نفس الصنف الربوي، وهو أمر شبه نادر الآن، أو تقول هو موجود عند مرابي القرية، الذي يعطي الفلاح ألفًا ويأخذهم ألفًا وخمسمائة، لأن هذا المرابي أيضًا أمامه حل يسير، فإذا جاءه الفلاح وقال له لن أقرضك ولكني سأمولك، فقل قبلت التمويل، وليس البنك بأحسن منا، ومبارك علينا وعليك !!
وأخيرًا: قال تعالى: }سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ{.
بالإضافة إلى ذلك فالفقر والعوز ونقص الأموال والثمرات وارتفاع الأسعار: كل ذلك بلاء وشر يستعاذ منه، وفتنة من الفتن الشديدة التي إن لم تصحب بإيمان ويقين وصبر وحسن توكل أوقعت صاحبها في المهالك ودفعته إلى السخط والقنوط او البحث عن كسب المال من أبوابه المحرمة، وقد قال تعالى : }وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ{.
وكل من تسبب في إفقار الناس والتضييق عليهم في أرزاقهم فله نصيب غير منقوص من الإثم، وله كفل من الدعاء بأن يشقق الله عليه "ومن شق عليهم فاشقق عليه".
وأما من ابتلي بالفقر وعجز عن دفعه بالوسائل المشروعة فإن صبره يرفعه درجات يوم القيامة بل ورد في الحديث أنه "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمس مائة عام".
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بالتعوذ من الفقر ،فقال:"تعوذوا بالله من الفقر، والقلة والذلة، وأن تظلم، أو تظلم".
ومن استعاذاته وأدعيته صلى الله وسلم في هذا الباب:
" وأعوذ بك من فتنة الفقر".
"وأعوذ بك من الفقر والكفر".
" اقض عني الدين وأغنني من الفقر".
"اللهم! إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة؛ فإنها بئست البطانة".
وأخيرًا فإن أشقى الناس من خسر الدنيا والآخرة، واجتمع عليه فقر الدنيا وبؤسها وعذاب الآخرة وجحيمها .
وأما العاقل اللبيب فهو من دافع الفقر هنا في الدنيا بكل طريق مباح، فإن عجز وضيّق عليه رزقه أحسن الاستعداد للنعيم المقيم في الآخرة، والملك الكبير والغنى الذي لا حدود له حتى إن آخر من يدخل الجنة له مثل الدنيا وعشرة أمثالها .
}وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا{.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد