الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات، فقال تعالى: (( ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلالْبَـٰبِ)) (آل عمران:7)، ذلك أن الآيات المحكمات، هن الآيات واضحات الدلالة، قطعيات الدلالة، لا تحتمل الكثير من المعاني المتداخلة والمتشابهة، بحيث تشكل هذه الآيات القاعدة الثقافية، والنسيج الذهني، والمشترك من المعاني والقواعد الأساسية، التي يلتقي عليها المسلمون جميعًا، حيث لا لبس في دلالتها ولا خفاء.
وما وراء ذلك من الآيات المتشابهات تعتبر من ظني الدلالة، خفي المعنى المقصود، لأن تعريف المتشابه بأنه: الذي يدخل في أشباهه حتى يصعب تمييز المعنى المراد، لخفائه ودقته واحتمالاته وعدم قطعيته، لذلك تذهب فيه العقول مذاهب شتى، وتختلف في تحديد المعنى المراد منه.
وتبقى الآيات المحكمات هي الضابط المنهجي لفهم الآيات المتشابهات، بحيث لا تخرج المعاني والأحكام المستنبطة من الآيات المتشابهات بشكل عام عن ما قررته الآيات المحكمات من الأحكام.
وحيث إن الناس يتفاوتون في إدراكهم، وكسبهم العلمي، ومدى رسوخهم في المعرفة، وتجربتهم، وتضلعهم في اللغة، واختلاف ميولهم ومؤهلاتهم، وتباين قدراتهم، بما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الفوارق الفردية» فيصبح الاختلاف ثمرة لذلك كله، الأمر الطبيعي الفطري الذي يصعب القضاء عليه أو التحرز منه.. وغاية ما يمكننا من المعالجة لقضية الخلاف والتعامل معها إنما يكون بوجود مناهج وأصول لضبط فهم دلالة الآيات المتشابهات بدلالة الآيات المحكمات، إلى جانب توفر صفات وخصائص أدب الخلاف، والحوار، والالتزام بخلق المعرفة، والتسليم بأن ذلك الاختلاف واقع فطرة من الله سبحانه وتعالى: (( وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)) (هود:118-119)، ((ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَٱللَّهُ)) (التغابن:2).
لذلك نرى عمليًا أن المؤمنين درجات والكفار درجات، لقد خلق الله الناس متفاوتين لتتكامل الحياة ويستقيم أمرها، إذ لا يمكن أن يتصور الإنسان أن يكون الناس نسخة مكررة، أو نمطية واحدة عن بعضهم بعضًا، ذلك أن الأعمال والأفكار والمدركات متفاوتة في هذه الحياة، والخلق متفاوتون، سواء كان ذلك بأصل الخلق، أم بطبيعة الكسب، وبذلك فكأن بين الحياة بآفاقها وأعمالها المتفاوتة، وبين الناس بفوارقهم الفردية ومهاراتهم المتنوعة، تواعد والتقاء "وكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ" (أخرجه البخاري).
حتى على ساحة الإيمان الواحد نجد المؤمنين، الذين اصطفاهم الله واختارهم لوراثة النبوة، قد جعل منهم الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات بإذن الله.. هذا التنوع وهذا التفاوت، إذا أحسنت إدارته، يشكل نوعًا من التنافس ويصبح من أهم المحرضات الثقافية والحضارية، وميدانًا للاستباق بالخيرات، لدرجة يمكن القول معها: إن هذا التفاوت والاختلاف هو المهماز النفسي والعلمي لتحريك عجلة التنمية، فجدلية الحياة دائمة المدافعة بين الخير والخير، والشر والشر، والخير والشر: ((كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَـٰطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلاْرْضِ)) (الرعد:17)، فلولا هذا الضرب لما طفا الزبد ولما انقشع ولما عُرف الحق؛ وقال تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ ٱلْمُجْرِمِينَ)) (الفرقان:31).. فالشر من لوازم الخير، وهذه جدلية الحياة: ((وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)).
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي كان أنموذجًا يُحتذى في استيعاب الخلاف وقبوله، وحسن قيادته وإدارته، وتحويله من ظاهرة فرقة وتنابذ إلى وسيلة قوة ووحدة وتكامل وتنافس في الكسب.
لقد عَرَف ﷺ منازل أصحابه رضوان الله عليهم وإمكاناتهم، فكانت المهمات التي يكلف بها متناسبة مع المواهب والمؤهلات، وكان من تعاليم النبوة إنزال الناس منازلهم.. قَبِل ﷺ بوجهات النظر المتعددة، وأقرها جميعًا، طالما أنها في إطار الفهم الصحيح، وحضهم على الاجتهاد، ورعى هذا الاجـتهاد، ودرَّب عـليه، بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، خاصة وأن ما أنزل عليه من القرآن حمال أوجه كما قال سيدنا علي رضي الله عنه، ذلك أن هذه الأوجه سوف تثمر خلافًا وتنوعًا، وفي ذلك إثراء للحياة العقلية وغنى في الاجتهاد والنظر.
فهذا «كتاب الأمة» الرابع والتسعون: «لا إنكار في مسائل الخلاف» للدكتور عبد السلام مقبل المجيدي، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، ضمن جهودها المتنوعة ومحاولاتها الثقافية المتعددة لإعادة التشكيل، وصبغ ذهنية الفرد المسلم ورؤيته بصبغة الله سبحانه وتعالى: ((صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَـٰبِدونَ)) (البقرة:138)، واسترداد فاعليته، وتبصيره بأن التكليف المنوط به في كل مرحلة يمر بها مرتبط بحدود الاستطاعة والوسع، انطلاقًا من قوله تعالى: ((لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) (البقرة:286)، وقوله : ((فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ)) (التغابن:16)، فإن بَذَل جهده واستفرغ وسعه تبرأ بذلك ذمته، ويخرج من عهدة التكليف، ويطبق الإسلام المكلف به، حتى ولو لم يستكمل تطبيق جميع التكاليف، لعدم توفر الاستطاعة.
إن تحرير هذه القضية – فيما نرى- من الأهمية بمكان، حماية للطاقات والإمكانات من الهدر والتبديد وصرفها إلى المواقع غيرالمجدية، وحماية للعاملين للإسلام من المجازفات التي يعوزها حسن التقدير، والحيلولة دون اختلاط الأمنيات بالإمكانيات، وترك ما نملكه، أو نملك فعله، إلى التطاول إلى ما يملكنا ويخرج عن حدود استطاعتنا.. إن سوء التقدير للاستطاعات وللتكاليف سوف يؤدي إلى فقدان إمكاناتنا، والعجز عن وضعها في المكان المناسب، وبذلك نتحول إلى الوقوف عاجزين عن التقاط الفرص التاريخية التي قد لا تتكرر، فنضيع ما نستطيعه، ونهزم فيما لا نستطيعه، وتعظم مسؤوليتنا أمام الله سبحانه وتعالى.
ولا بأس من التذكير هنا بأن بعضنا، لسوء تقديره وخطأ قراءاته للأمور وتداعياتها، وما يترتب عليها من العواقب، تغلب عليه ذهنية الاستسهال، فيقوده ذلك إلى اقتحام المسالك الصعبة ويتمنى لقاء العدو، دون إعدادٍ أو استعداد، وتستهويه الرايات العمِّـيَّة، المهم بالنسبة له أن يفرغ حماسه في المجازفات ودخول المعركة دون استبانة أو بصيرة لسبيلها أو تقدير لعواقبها.
وبعضنا الآخر تغلب عليه ذهنية الاستحالة، فيرى الأمور على غاية من الصعوبة، فهي عنده مستحيلة، ولا يبصر منها إلا آثارها السلبية التي تحاصره، وتحيط به من كل جانب، فيقع في حالة من اليأس والعجز والشلل وفقدان الأمل، وتعمى عليه الأمور، وتحول حالة العجز واليأس بينه وبين رؤية دوائر الخير في الحياة والمجتمع والواقع، وحتى في المستقبل، وسبيل الدخول إليها، وكيفية التوسع فيها، والتعامل معها.
وقد تكون هذه الظواهر في أصلها طبيعة في البشر، ونتيجة لأنواع مختلفة من المعاناة والتربية والثقافة، والتوارث الاجتماعي وغير ذلك من العوامل التي يصعب حصرها في هذه العجالة.. وكم كنا نتمنى أن يؤدي الخلاف في وجهات النظر للقضايا، والتنوع في النظر إليها والحكم عليها، أنواعًا من الحوار والنقاش والمثاقفة والمحاورة والمشاورة والمراجعة، لينتج ذلك منهجًا وسطًا متوازنًا سننيًا، يحيط بعلم الأشياء، ويجتهد في النظر إلى عواقبها، ويحسن تقدير الإمكانات وكيفية توظيفها، واغتنام الفرصة التاريخية.
ولا بد من الاعتراف بأن الحـوار والمناقشـة والمشـاورة مهما بلغ لا يمكن أن يقضي على التباين في وجهات النظر، وإنما يضيِّق مداها ويُسهم بالوصول إلى المساحة الأكبر من التفاهم وبناء المشترك البشري وزيادة دائرة التفاهم.
كم نحن بحاجة اليوم إلى الاعتراف بالاختلاف، والتيقن من سر أنه الخلق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنه لا سبيل إلى تبديل خلق الله، سواء على مستوى الذات أو (الآخر)، وأن كرامة الإنسان أصلًا منوطة بأنه أهلٌ لحرية الاختيار، وليس مبرمجًا على الطاعة وعدم المعصية كالملائكة، وأن هذا الاختيار يمكن أن يؤدي به إلى الطاعة أو إلى المعصية، وأن المسؤولية الشرعية هي فرع لحرية الاختيار، وأن ممارسة الأهلية والإنسانية (الاختيار) تعني القبول بالتباين والاختلاف في وجهات النظر، تبعًا للتباين بالمواهب والإمكانات والكسب العلمي والمعرفي، وهكذا سنة الحياة، إذ تستحيل الحياة وتصبح لا معنى لها، ولا تدفق لمجراها، إذا كان الناس جميعًا نسخة مكررة، ولا أدل على ذلك من الحال التي انتهت إليها الأنظمة الشمولية والدكتاتورية، حيث فشلت وسقطت؛ لأنها أرادت أن يكون الناس نسخة مكررة من التجمد والتخلف والتقليد والتراجع، لأنها لم تسمح إلا أن يكون الناس نسخة مستنسخة أو مكررة عن الزعيم، وهذا ضد الطبيعة البشرية، وضد سنن الحياة وسبل نموها، وبناء الحضارة، وقيام العمران الإنساني.
ولعلنا نقول: بأن الخلاف والتنوع الواقع تاريخيًا في الحياة الإسلامية، كان وراء هذا الإنتاج الضخم من التراث العلمي والثقافي وإنضاج الكثير من المناهج والقواعد والعلوم .
– فاختلاف أهل الكتاب في كتابهم، وما انتهت إليه حالهم، وتعاملهم مع النص الإلهي، هو الذي أدى إلى الفزع على النص القرآني، ودعا المسلمين، بعد معركة اليمامة، إلى جمع القرآن.
– والاختلاف حول حدود النص القرآني، هو الذي أدى إلى نسخ القرآن، واعتماد ما اصطلح على تسميته «بمصحف الإمام» زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه.
– وأسباب الوضع والانتحال، واختلاط الأمور، والادعاء على الرسول ﷺ والاختلاف حول ما ينسب إليه من قول أو فعل أو تقرير، هو الذي أدى إلى هذا العمل العظيم من علم مصطلح الحديث، وبيان العلل، وتحديد أسباب الوضع، وبروز علم الإسناد، ومعايير الجرح والتعديل.
– واللحن في اللغة وفشو الخطأ، هو الذي أدى إلى تقعيد القواعد ووضع علم النحو والصرف.
وهكذا سائر فنون العلم والمعرفة، تجيئ غالبًا ثمرة لجدلية التباين والخلاف والتحدي، حيث يجتهد كل فريق للتدليل على صوابية قوله ورأيه، وهذا سبيل النمو الذهني.
ويمكن القول: بأن هذا الكم الهائل من العطاء الفكري والفقهي والمذهبي والمنهجي في التراث الإسلامي، ما هو إلا ثمرة لحرية التفاكر والخلاف والتنافس، ولا أعتقد أن أي دين أو أية عقيدة شكلت قيمها محرضًا ثقافيًا وفكريًا كحال العقيدة الإسلامية وكتابها الخالد القرآن، الذي كان الأساس الذي تمحورت حوله سائر الجهود الذهنية، وبقيت على تباينها واختلاف مناهجها مقرة بمشروعيته العليا.
وليس أمر البيان النبوي بأقل شأنًا في تنمية الجهود الذهنية، على المستويات المتعددة، حسبه أنه بيان القرآن الكريم وتنـزيل أحكامه على واقع الحياة.
وقد يكون من الأبجديات الأولى في رحلة الإيمان، الاعتقاد بأن البشرية جميعًا أبناء أسرة واحدة، قال تعالى: (( يَـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ وٰحِدَةٍ)) (النساء:1)، وأن الاختلاف واقع في أصل الخلق، وقال تعالى: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ… )) (الحجرات:13).
فهذا الجعل، بكل مؤهلاته وخصائصه وتضاريسه وتنوعه واختلافه، سبيل إلى التكامل والتعاون والتنامي: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)) (هود:118-119).
ولعل القضية الأهم تبقى: كيف ندير الخلاف، وكيف نتربى على قبوله، والإقرار بأنه حق إنساني، بل حق وواجب إسلامي، ونتعلم كيف نختلف، لأن ذلك ليس أقل شأنًا من أن نتعلم كيف نتفق، وكيف نصل إلى مرحلة الاعتراف (بالآخر)، وأن له كل الحق أن يكون له رأي كما أن لنا رأيًا ، وأن أدب الخلاف يعتبر من أرقى الآداب الإنسانية وأعلى مراتب الأخلاق، وأن الانغلاق والتعصب مراهقة وطفولة بشرية، وأن هناك معرفة وهناك خلق معرفة، فلا يجوز أن يتحول العلم إلى لجاج وبغي ومدعاة للتفرق، كما قال تعالى: ((وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ)) (الشورى:14)؟
وهنا قضية نعتبرها على غاية من الأهمية وهي: أن الاعتراف (بالآخر) وبرأيه كواقع لا يعني إطلاقًا إقراره على ما هو عليه، ولا إعطاءه شهادة بصواب ما هو عليه، حسبه أن ذلك اختياره ورأيه ومسؤوليته، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((نُوَلّهِ مَا تَوَلَّىٰ)) (النساء:115)، سواء في ذلك الخلاف الداخلي مع الذات أو الاختلاف مع (الآخر)، لأن مظان الخلاف موجودة من الناحية النظرية، وواقعة من الناحية العملية، ويبقى أن الآيات المحكمات، قطعية الدلالة، تشـكل الرؤية المشتركة الواحدة، أو القاعدة التي يقوم عليها البناء الفقهي والفكري والعقدي، وفي الوقت نفسه تشـكل الضابط المنهجي والإطـار المرجعي للآيات ظنية الدلالة –كما أسلفنا- وهذا من نعم الله تعالى أنه لم يصبّ العقول البشرية في قوالب واحدة ويجيئ البشر منمطين مستنسخين، وإنما جعل العقل سبيل طلاقة وانطلاق وحرية واجتهاد، وجعل النص المحكم دليل العقل إلى المعرفة ووسيلة الوحدة وقيام المشترك الثقافي.
وإذا أحسنا إدارة الخلاف، وتحلينا بأدبه، تحول إلى خلاف تنوع وتكامل وتعاون ونمو، وأصبح علامة صحة، وإثراء وإغناء للمسيرة، وإفادة من جميع العقول، وما شرعت الشورى إلا كآلية لإدارة ذلك والاستفادة من جميع الخبرات، حتى الاستفادة من خبرات (الآخر).. فالحكمة ليست حكرًا على شخص أو على أمة أو على مرحلة تاريخية دون سواها، ولكنها ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
أما إذا فشلنا في إدارة الخلاف، تحول إلى تضاد وتبعثر وتفرق، وأصبح خطرًا ماحقًا.
وإدارة الخلاف تعني – فيما تعني – معرفة كيفية الانتهاء والوصول إلى الرأي الراجح، ومن ثم اقترانه بالتنفيذ، مع الاعتراف ببقاء ووجود المرجوح، فقد تتغير الظروف وتأتي معطيات التطبيق ليصبح المرجوح راجحًا، لذلك نرى أن الاجتهادات والمدارس الفقهية الكثيرة، وتعدد الآراء، حتى على مستوى المذهب الواحد، حيث يخالف الإمـام تلامذته أو التلامذة إمامهم إذا تبينت لهم قرينة، تشكل مساحات خصبة لاختيار الاجتهاد الملائم ومن ثم اعتماده للتنفيذ.. فالقضاء الملزم في أصله لا يخرج عن أن يكون رأيًا اجتهاديًا اختير من بين سائر الآراء لملاءمته، واقترن بالتنفيذ والإلزام، دون التضييق على العقول والاجتهادات الأخرى، التي بقيت لها حرية النظر والتي تبقى قرائن ودلالات واجتهادات مساندة ومحققة للقضاء القانوني، لكنها ليست قانونًا ملزمًا.
ولعل تراثنا الفقهي والفكري ومدارسنا الاجتهادية واجتهاداتنا السياسية التاريخية، حتى ضمن إطار المذهب الواحد، بدءًا من اجتهادات الصحابة وخلافاتهم، وهم خير القرون، ومرورًا بالمذاهب الفقهية والفكرية، دليل على مدى حـرية الرأي التي شـرعها الإسـلام بعـيدًا عن الإرهاب الفكري أو التعصب الفقهي ومحاولات إقصاء الرأي (الآخر)، وإن حدث شيء من التعصب والغلو فيمكن القول: بأن الشذوذ دليل استقرار القواعد وتقعيدها.
إن الإطلاع على الرأي (الآخر) ومناقشته وحواره وتتبع استدلالاته، ومحاورة صاحبه، سبيل لتمرين العقل وتنميته، وتوسيع المدارك، وبناء المشترك الإنسانـي، وتوسيع دائرة التفاهم، فإذا كان الإنسان ذاته بعد فترة من استزادة الإطلاع والمعرفة والتجربة يصبح له رأي آخر مختلف عن ما سبق له، وأن ما سبق له من رأي يحتاج إلى التأمل والمراجعة وعدم التنكر، فما بالنا (بالآخر) الخارج عن الذات؟
وكم نحن بحاجة إلى إعادة النظر في مناهجنا التربوية والفقهية والفكرية، وإعادة تأسيسها، وتأصيل واقعية الخلاف، وأدب الخلاف، وسنة الخلاف، ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بأرقى المنتديات والجامعات؛ والاستزادة من دراسة المقارنات، من فقه ولغة وأدب ومذاهب وأديان، وامتلاك أدوات البحث العلمي والموضوعي، التي تمكننا من استيعاب الرأي (الآخر) المخالف، وكيفية التعامل معه، والإفادة منه، وإدارته.
إن عملية الاختناق الثقافي، والعجز عن الإبداع والعطاء المقنع، والتخاذل عن التعامل مع واقع الحياة والتبصر بسننها، والتحول إلى حالة الجمود والتقليد والمحاكاة، جاءت نتيجة طبيعية لما تقدمها من آفات التعصب الفقهي والفكري والمذهبي والحزبي والطائفي والعنصري.
إن هذه الآفات تشكل خطورة كبيرة عندما تستشري وتصل إلى مرحلة الوباء الاجتماعي وتصبح مصلحة لبعض القائمين عليها، ومن ثـمّ يكون التوارث الاجتماعي، فتقام المتاريس والخنادق والحواجز والأسوار الفكرية والفقهية والنفسية حولها، وغاية ما في الأمر من الناحية العلمية والثقافية يصبح إعادة إنتاج الماضي، وإعادة قراءة الذات، والانغلاق عليها، والتفتيش ليس عن الحقيقة والدليل، والقيام بالمقارنة والترجيح، وإنما التفتيش عن المسوغات والانتقاء، للاعتداد بالرأي، ومحاولة لـيّ عنق النص، حتى المحكم منه، وتقديم قول صاحب المذهب أو الإمام أو المجتهد أو الشارح المظنون القابل للخطأ على قول الشارع القطعي المعصوم، وبذلك تنتقل صفة الخلود من النص الإلهي إلى اجتهادات البشر، فيصبح الرأي الاجتهادي مقدسًا لا يُمس وصالحًا لكل زمان ومكان!
وهنا تصيب العطالة والانغلاق النفوس والعقول، والأدوات في الوقت نفسه، ويسود التعصب الحزبي والمذهبي أو العنصري، ويُسوّى المخالف بالرأي بالعدو، وقد يقدم عليه العدو، وينكمش مفهوم الأخوة الشاملة ليحل محله حزبيات وطائفيات وعنصريات وقوميات، خاصة وأن داء التعصب لا يقف عند حد، إنما يسري حتى ضمن الحزبية الواحدة والطائفة الواحدة والعنصرية الواحدة، لأنه داء سار كالنيـران التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله، فهو لا يتوقف عند حدود؛ وتصبح فتوى التكفير والتفسيق والارتداد والانحراف… جاهزة ومسبقة الصنع، وتُستباح الدماء والأعراض في أحيان كثيرة، باسم مصلحة الدعوة، ويستسهل الإقدام على الكذب ليصبح كذبًا في سبيل الله، وتستباح المحرمات وتنتهك الأعراض لضرورة الدعوة، وانتصارًا للإسلام، وقد يصبح المشرك أكثر قربًا من المخالف بالرأي، وتسوغ الكثير من التصرفات بالنصوص، التي تنـزل على غير محلها، ويكثر الأنبياء الكذبة، أو الفقهاء المرتزقة، أو المثقفون من خونة الحقيقة، ويمكن أن يدّعى الإجماع، الذي لا وجود له إلا في ذهن قائله، لمسائل فقهية وتفسيرية كثيرة، حتى يعتبر الخارج عليها خارجًا عن الطاعة مفارقًا للجماعة، مستباح الدم.
هذه الآفات والظواهر المرضية دفعت الكثير ممن نصبوا أنفسهم قادة في مجال الحزبيات والطائفيات، وقد يكونون جهلة بأبسط الأحكام الشرعية، إلى انتزاع صلاحيات الإمامة العظمى، فأعطوا أنفسهم صلاحيات ما تقتضيه البيعة للإمامة العظمى، وأصبحوا يشهرون سيف الخروج عن الطاعة ومخاطر الانخلاع من البيعة فوق رؤس العباد من الأتباع، أو إن شئت فقل: فوق السائرين بلا رؤوس من الأتباع، لأن المتعصب لا رأي له، وعند ذلك تنتهك الحرمات تحت شعارات إسلامية، وتقام المؤسسات التي تأكل أموال الناس وتستهين بها، تحت شعار الإسلام، وتزهق الأرواح باسم الإسلام، ويستبد التعصب حتى يصل الأمر بأن تنسخ آية واحدة من آيات القرآن (آية السيف) سائر الآيات والأحكام التي تعتمد الدعوة والحوار والمباهلة والمجادلة بالتي هي أحسن والقول اللين، ويُدّعى أن ذلك قول الجمهور، ويسقط القلم من الأيدي، ويشهر السلاح، ليسقط البرهان ويرفع السنان، والله سبحانه وتعالى يقول: ((لا إِكْرَاهَ)) (البقرة:256) حتى في الحقائق الإلهية المطلقة المنـزلة من السماء، ويقول للرسول القدوة ﷺ: ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ)) (الغاشية:22)، ويقول: ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)) (ق:45)، ويقول: ((يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ)) (الممتحنة:8)، وعند ذلك تبدأ رحلة الضلال والتضليل والعبث بالأحكام الشرعية، وتنـزيلها على غير محالها، ودون توفر حالاتها وشروطها، ويسود جو من الإرهاب الفكري الذي يقضي على كل شيء.
وأكتفي هنا بمثال، قد اعتبره كافيًا ليكون نافذة على الحالة التي يستبد معها التعصب بالعقول ويستأثر بالنفوس، ويصب العقل بشكل عام في أوعية معدنية، ويسود ضيق العطن (بالآخر) حتى ولو كان مسلمًا، ومن الجماعة نفسها، حيث يصل التعصب وحدة الاختلاف إلى مرحلة يصبح المشرك معها يأمن على نفسه عند بعض الفرق، التي ترفع شعار الإسلام والحكم الإسلامي، التي ترى أنها على الحق المحض الذي ليس بعده إلا الضلال.. لقد أصبح المشرك يأمن على نفسه أكثر من المسلم المخالف بوجهة النظر والاجتهاد، حيث لا سبيل أمام المسلم للخلاص من التصفية الجسدية إلا بإعلان وإظهار صفة الشرك (!)
«يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجبرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناكم.. قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: ((وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ)) فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن» (الكامل في اللغة والأدب للمبرد: 2/122).
ولعل من النعم الكبيرة، أن جعل الإسلام الاختلاف في وجهات النظر والتباين بالآراء والتعددية بالأفكار، لا يؤدي إلى التفرق في الدين، أو تفريق الدين، ووجود الشيع الذي نهى الله عنه بقوله: ((وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) (الروم:31-32) ذلك أن التعددية والتباين والاختلاف في وجهات النظر إنما تتمحور حول النص المعصوم المتأتي من معرفة الوحي، الذي يشكل مشروعية ومرجعية شرعية تؤطر الخلاف في الوقت نفسه، كما يشكل معيار التقويم الذي يحدد الخلل ويبين الخطأ، ولعل ذلك هو السبب بأن جميع الفرق تعلن أنها تنطلق في رؤاها واجتهاداتها من الكتاب والسنة.
فالنصوص المحكمة، واضحة الدلالة، في الكتاب والسنة، تؤسس وترسي قاعدة الوحدة، ومنهج النظر، ومساحة المتفق عليه، والمعايير التقويمية لكل الاجتهادات والآراء المتعددة، وفي المقابل نرى أن النصوص الظنية الدلالة تجعل المجال رحبًا أمام العقل ليدرك أقصى ما يستطيع.
ولقد جاء التراث الإسلامي في مجالات المعرفة جميعًا غنيًا بوجهات النظر، لدرجة أنه اسـتوعب كل الاحتمالات الممكنة للنظر مع أدلتها، إلا أن هذا الطيف الواسع، الذي يتمحور حول النص أو حول معرفة الوحي، لم يفقد الأمة الانتماء، بحيث استطاعت أن تبقى متماسكة وممتدة وقادرة على العطاء خلال خمسة عشر قرنًا، بينما الكثير من الأمم والحضارات التي سـادت سرعان ما بادت، وتحولت إلى مشـخصات أو شواخص وحفريات حجرية، ليس لها إلا الذكرى والعبرة التاريخية.
إن مساحة المتفق عليه أو مساحة المشترك، التي أورثتها الآيات المحكمات، وبيان حدودها، وتنـزيلها من قبل سيرة الرسول ﷺ، جعلت نسيج الأمة الذهني متماسكًا، ومعاييرها موحدة، ورؤيتها متقاربة.
كما أن الآيات ظنية الدلالة فتحت المجال واسعًا، وحرضت العقل المجتهد على بلوغ الآفاق الفكرية في مختلف الميادين.
وهنا قضية قد يكون من المفيد طرحها، والدعوة إلى إعادة النظر والمراجعة والحوار وتبادل الرأي حولها، ذلك أنه على الرغم من أن الآيات المحكمات واضحة الدلالة وقطعية الدلالة –كما أسلفنا- وأنها تشكل القيم المعيارية، أو معايير التقويم للاجتهادات الظنية المتأتية من دلالة الآيات الظـنية، الأمر الذي انتهى – فيما نرى – إلى تقرير القـاعدة القـائلة: لا اجتهاد في مورد النص، فإن الإشكالية هنا – في تقديرنا- لا تتمثل في إبطال النص أو إلغاء حكمه للواقعة، واستبداله بحكم آخر، أو تشريع آخر للواقعة – فلا يجوز الاجتهاد في إيجاد حكم شرعي لواقعة بيَّن القرآن حكم الله فيها، والإقدام على ذلك كفر بلا جدال- وإنما الإشكالية هنا في تنـزيل هذا الحكم الشرعي على الواقع أو على الواقعة.
فقد لا تكون شروط التنـزيل للحكم الشرعي على الواقعة متوافرة في ذات المحل، فإذا توفرت الشروط والمقومات والاستطاعات فقد وجب التنـزيل، وإذا فقدت الشروط والاستطاعات فلا يجوز تنـزيل الحكم على المحل لفقدان التكليف أصلًا، حيث لا بد من الاجتهاد في معرفة الحكم الشرعي الذي يوافق الواقعة، ذلك أن العدول عن حكم شرعي لعدم توفر شروط التنـزيل لا يعني إسقاط الشريعة واستبدالها، وإنما يعني الاجتهاد لمعرفة الحكم الشرعي الملائم للاستطاعة.. والأمر في كل الأحوال يدور حول الحكم الشرعي وليس العدول عنه، وليس اجتهاد عمر رضي الله عنه، في عدم قطع يد السارق عام الرمادة إلا دليل على عدم توفر شروط التنـزيل، فدرأ الحد بالشبهة.. والدرء نص وحكم شرعي أيضًا.
وهنا يمكن القول: بأنه بالإمكان الاجتهاد في مورد النص، أي في محل تنـزيله، والنظر في توفر الشروط للتنـزيل، فإذا لم تتوفر الشروط فقد ينـزل حكم آخر على الواقعة، وهذا لا يعني إلغاء الحكـم الشرعي أو تعطيله، وإنما يعني أن شروط تنـزيله لم تتوفر، وهذا مجال واسع وخصب لتعدد الآراء ووجهات النظر والاجتهاد، لأن تنـزيل الأحكام الشرعية المحكمة على غير محالها إساءة للمحل، واهتزاز لليقين بجدوى الحكم الشرعي، ونجاعته، فباب الاجتهاد والنظر واسع وواسع جدًا في إطار القيم الإسلامية، ولا أدل على ذلك من هذا العطاء الكبير العظيم المتنوع، الذي على تباينه واختلافه لم يخرم حقوق الأخوة، ولم يؤد إلى البغي.. إنه علم مرتبط بأهدافه وأخلاقه وآدابه.
ولقد كان ذلك واضحًا ابتداءً من جيل الصحابة واختلافهم في وجهات النظر والاجتهاد، والرسول ﷺ بين ظهرانيهم وإقراره ﷺ ذلك، كما بقي واضحًا في أذهان الرواد طيلة مسيرة الأمة الثقافية، ولم يحصل الضيق به إلا في فترات التعصب وذهاب العلم وسيادة التقليد.
يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: «ما يسرني أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالًا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل يقول هذا ورجل يقول هذا كان في الأمر سعة» (مجموعة الفتاوى لابن تيمية، 30/80).
ويقول إسماعيل القاضي، فيما نقله ابن عبد البر: «إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ توسعة في اجتهاد الرأي، فأما أن تكون توسعة لأن يقول إنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا» (جامع بيان العلم، 2/82).
ويقول القاسم بن محمد: «لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي ﷺ في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاَّ رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله» (الاعتصام للشاطبي، 2/170).
ويقول ابن تيمية، رحمه الله: «وأما الاختلاف في الأحكام فأكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة» (الفتاوى، 24/173).
ويقول الشاطبي، رحمه الله: «فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالًا للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضرها هذا الاختلاف» (الاعتصام للشاطبي،23).
ويقول الزركشي، رحمه الله: «اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة، بل جعلها ظنية قصدًا، للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصرون في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع» (الاختلافات الفقهية، البيانوني، 23) ( [1]).
والكتاب الذي نقدمه، يمكن أن يعتبر محاولة جادة للتأصيل والتأسيس الشرعي، وبيان مشروعية الخلاف، واستيعاب هذه الإشكالية، وتقديم نماذج من خير القرون لكيفية التعامل معها، والتي يمكن أن تصنف على رأس الإشكاليات التي يعاني منها العقل المسلم المعاصر، حيث يتجلى عجزه عن التعامل مع آثار هذه الإشكالية في المجالات المتعددة، من فقهية وفكرية وثقافية، وعلى الأخص في أيام الأزمات التي قد تتطلب نوعًا من الفكر الدفاعي، الذي يمكن أن نطلق عليه «فكر الأزمة» أو «فكر التعامل مع الأزمة»، والذي بدأ يعمم على الحالات والمراحل كلها، ليوقع المسلم بالتعصب والانغلاق، أو ما يسمى «بأزمة الفكر».
إن استدعاء موضوع الخلاف والتعدد في وجهات النظر، والبحث في مشروعيته، ورصد تجلياته في العصور التاريخية المختلفة، وآلية استيعابه، ابتداءً من خير القرون، وكيفية تحويل الخلاف من ساحة المواجهة إلى رحابة الحوار، ومن التضاد والصراع إلى التنوع والمجادلة بالتي هي أحسن، ومن الصدام والتقاطع إلى التوازي والتكامل، وإبراز أهميته في تخصيب العقول، وإثراء العطاء، وتحريك عجلة التنمية، في المجالات المتعددة، وأهمية التزام المعرفة بأخلاقها، وانضباط العلم بأهدافه وآدابه، منعًا للبغي والظلم، وتفكيكًا للتعصب والغلو، يعتبر من الأولويات لواقع المسلمين.
ولعل الأهم في الموضوع المطروح يكمن في محاولة إعادة تشكيل ثقافة الخلاف، أو فقه الخلاف، لنتعلم ونعرف كيف نختلف، والتسليم بأن ذلك من سنن الله في الخلق وسنن الاجتماع البشري، وأن المشكلة ليست في الاختلاف وإنما بكيفية إدارته والتعامل معه، ليتحول من مشكلة إلى حل، ومن نقمة إلى نعمة.
وتزداد الحاجة أكثر فأكثر إلى مثل هذه الموضوعات في هذا العصر العالمي، أو عصر العالم الواحد، إعلاميًا وثقافيًا ومعلوماتيًا، حيث ينفتح العالم على بعضه وعلى نفسه، بكل ثقافاته المختلفة والمتنوعة، وتطوى مسافة الزمان والمكان، الأمر الذي يتطلب المعدة الثقافية التي تتمتع بقوة الهضم وإبصار المشترك الإنساني، بحيث نعرف: ماذا نأخذ وماذا نعطي؟ نأخذ المفيد ونتقوى به، ونطرح الفضلات الثقافية الضارة.
والكتاب يمثل خطوة في الاتجاه الصحيح، على الطريق الطويل، تتطلب خطوات أصبحت من الضرورة بمكان لتفكيك التعصب، والتقليد، ومحاصرة الطائفيات، والحزبيات، التي بدأت تحاصرنا وتتحكم بالعقل المسلم، وتدفعـه للتحرك تحت الرايات العمِّـيَّة، اسـتردادًا لمفهوم الأخوة الشاملة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد