بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد حاولت في ما سبق أن أعرض لجانب من الجوانب المهمة في الفقه الإسلامي، يكشف عن مدى ما يتوفر عليه من السعة والرحابة في استيعاب الخلاف من خلال هذه القاعدة الفقهية الجليلة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، وأنها يجب أن توضع في موضعها اللائق بها. كما حاولت أن أبين أن هذا الاستيعاب إنما يتجسد في الاتساق التام بين هذه الثلاثية الفريدة من: إشاعة التقويم بأنواعه المختلفة، والتعامل الشرعي معه وفق أقسام مسائل الخلاف مع بقاء الأخوة الإسلامية، والمحافظة على صلاح ذات البين.
فالتقويم والنقد يعتبر في المجتمع الإسلامي معلمًا شرعيًا، وركيزة أساسية، وقيمة خلقية؛ سواء تم من خلال النصح مع الستر والإسرار في الحالات الفردية أو الأفكار الشخصية، أو من خلال الإنكار مع الإظهار في حالة كون الخلل أفكارًا علنية أو أفعالًا مقتدى بها، وعدم استعلاء أي كان على النقد أو ترفعه، أو تكوين حساسيات مفرطة إزاء ذلك، فضلا عن مصادرة النقد أو التهجم على أصحابه أو الحط منهم بشتى الألقاب، مما يفعله بعض المتأخرين من محاولة محاربتهم في كل واد وناد.
والتقويم والنقد هي القيمة التي يتباهى بها العالم اليوم، مع أنها كانت من أهم القيم التي اتضحت خلال مسيرة أمة الإسلام الحافل بجليل القيم والأعمال، حتى اعترانا ما اعترانا من نبذ كثير من معالم الدين وراءنا ظهريا، ثم كان الانبهار بالوافد، والانصهار فيه. [ص: 174] كما يتجسد هذا الاستيعاب في ظاهرة التطبيع التربوي على تقبل الخلاف نفسيا، والقبول بظاهرة تعدد الآراء، والاستيعاب النفسي لها، مع مناقشتها على درجات من التقويم والتسديد بحسب اقترابها من النص والمقاصد العامة والخاصة للتشريع، فكلما بعدت ازدادت حدة الإنكار في ظل حسن الظن، والأخوة الإسلامية، وهذا ما أرسته قاعدة (لا إنكار في مسائل الخلاف)، مع تذكر أن الإنكار قد يعلو إذا كان الخلاف بعيدا أو ضعيفا والنص ظاهرا في الدلالة، محتف بقرائن تدل على المراد.
ولا يعني ذلك انثلام عرى الأخوة بين المتناصحين، ولا انفراط عقد المحبة بين طرفي الإنكار، بل يزداد الصف المسلم صلابة وقوة وتماسكا، وتبقى حقوق كل مسلم على أخيه المسلم وواجباته من المسائل القطعية التي لا تصادرها المسائل الظنية المختلف فيها، ما دام ذلك باقيا في ظل الأصول المعلومة.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعالم الثلاث، وأكد عليها مجموعة في عدة أحاديث، منها ما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثا، يكره لكم ثلاثا: فيرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، ولا تفرقوا. ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال"الحديث [1].
فقوله:"أن تعتصموا بحبل الله جميعًا"يشير إلى أهمية عروة الأخوة الإسلامية، وقرنها بعبادة الله وحده لا شريك له. [ص: 175] وقوله: "بحبل الله ولا تفرقوا"، يشير إلى ضرورة استيعاب الخلاف في النفسية المؤمنة، فلا يؤدي إلى التفرق بما أنه مسألة طبيعية، وغريزة فطرية، على أن يكون استيعابه من جهة الحفاظ على آدابه وأخلاقه، مع التقويم المستمر الذي يعبر عنه النصح في الحديث في حال حدوث الخلاف على أمر ما بيانا لحبل الله الذي يعتصم به إن كان الخلاف ضعيفا، واستيعابا لعدم إثارته للتفرق إن كان الخلاف قويا، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم" [2]. فجمع بين النصح ولزوم الجماعة، والمراد جماعة المسلمين العامة، ولا ينبغي تنزيلها على جماعة بعينها من المسلمين.
ومنها ما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوما؛ أفرأيت إذا كان ظالما، كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره" [3]. وفي لفظ قال: "تأخذ فوق يديه" [4]. وفي رواية: "فلينهه؛ فإنه له نصرة" [5].
فقوله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك"، ثبت حقيقة الأخوة الإسلامية قبل كل شيء، ثم على خط مواز لها ومبين لبعض حقائقها أمر بنصرة الأخ المسلم [ص: 176] أيا كان؛ تلميذا أو شيخا أو حزبا أو جماعة أو أميرا أو مأمورا، وجعل من أهم حقائق نصرته أن يحجزه عن خطئه، وينهاه عن ظلمه وهذا هو التقويم للعوج، والنصح والإنكار مع بقاء حقوق الأخوة بل جعل هذا من حقوق الأخوة. وسمى الخطأ الذي يقع فيه أخوه المسلم ظلما؛ لأن الظلم هو: وضع الشيء في غير موضعه؛ سواء كان قولا أو رأيًا أو فعلًا.
وقد تجسدت هذه المعاني التي تنطوي عليها هذه القاعدة في كثير من النماذج التطبيقية، التي تقدم بجلاء ووضوح صورة المجتمع الإسلامي الراشد، وهو يجمع بين هذه القيم الرفيعة، من مثل ما حدث بين عمار بن ياسر وأبي موسى الأشعري من جهة، وبين عمر بن الخطاب وابن مسعود من جهة أخرى رضي الله عنهم جميعا، حيث أنكر عمار بن ياسر على عمر بن الخطاب فتواه بعدم تيمم الجنب، وأنكر أبو موسى على ابن مسعود الفتوى ذاتها، ودار بين الجميع حوار قمة في المثالية والواقعية:
عن شقيق قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى الأشعري، فقال له أبو موسى: لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا أما كان يتيمم ويصلي؟ فكيف تصنعون بهذه الآية في سورة المائدة }فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا{ (المائدة:6)، فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكوا إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا الصعيد. قلت: وإنما كرهتم هذا لذا؟ قال: نعم. فقال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: [ص: 177] "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا. فضرب بكفه ضربة على الأرض، ثم نفضها، ثم مسح بهما ظهر كفه بشماله، أو ظهر شماله بكفه، ثم مسح بهما وجهه". فقال عبد الله: أفلم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ (وفي رواية : قال عمار: يا أمير المؤمنين، إن شئت، لما جعل الله علي من حقك، لا أحدث به أحدًا.). (وفي رواية أخرى، فقال عمر: اتق الله يا عمار، قال: إن شئت لم أحدث به) [6].
وعلى الرغم من جلالة هذين الصحابيين؛ عمر وابن مسعود، إلا أنه لم يؤخذ بقولهما في عدم صلاة المسلم عند فقد الماء، وترك قولهما رضي الله عنهما، كما قال ابن عبد البر: فلما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مراد ربه من معنى آية الوضوء؛ بأن الجنب داخل فيمن قصد بالتيمم عند عدم الماء بقوله: }فلم تجدوا ماء فتيمموا{ (المائدة:6)، تعلق العلماء بهذا المعنى ولم يعرجوا على قول عمر وابن مسعود، وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصح [7].فلم يوجد تقديس لشخص بعينه، ولا احتج بعضهم على بعض بأنه لا إنكار في مسائل الخلاف، بل تم الإنكار، ولكن وجود الإنكار لم يقض على الخلاف، بيد أن أخوة الإسلام وحقوقها وواجباتها، ومعرفة كل ذي فضل فضله بقيت لم تمس، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يفترقوا، [ص: 178] ولم يصيروا شيعا؛ لأنهم لم يفارقوا الدين، وإنما اختلفوا فما أذن لهم من اجتهاد الرأي والاستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا، واختلفت في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين؛ لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به، وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح، أخوة الإسلام فيما بينهم قائمة، ودليل ذلك قوله تعالى: }واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا{ (آل عمران:103).
فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى [8]. وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا فى الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله: }فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59)، وكانوا يتناظرون فى المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم فى المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين [9].
ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل، [ص: 179].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد