بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لئن أفاضت سورة البقرة في الحديث عن قوم موسى ، وامتدادهم زمن النبوة، حيث جاء التعقيب على قصة البقرة نهيًا للمؤمنين عن الطمع في إيمانهم، فقد جاءت سورة آل عمران تقص نبأ المصطفين الآخيار الذين كانت خاتمتهم آل عمران والذين كانوا على النقيض من حال قوم موسى، حبث كانت سيرة آل عمران في سورتهم، رجالهم ونسائهم، محلًا للتأسي والاقتداء لمحمد وأمته.
يلفت الانتباه النداء الرباني للمؤمنين والوصية الخاتمة في الآية الأخيرة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ{ [آل عمران: 200]، من جهة كونها الآية الأخيرة، ومن جهة كونها خاتمة للسورة المسماة بآل عمران.
فمن جهة كونها خاتمة السورة فكأنها الخلاصة المركزة لها التي يراد لها أن تكون آخر ما يقرع السمع، ويرتسم في البصر، ويعلق في الذهن، ومن جهة كونها خاتمة لآل عمران فتعطي انطباعا بأنها العبرة الأساس لهذه الأسرة الكريمة.
والجديد المثير في الآية الخاتمة، أمران: أولهما الأمر بالمصابرة بعد الأمر بالصبر، وثانيهما الأمر بالمرابطة، وهو الذي سنقف عنده بشكل أوسع، إذ هو موضوع هذه الحلقة من السلسلة.
ولعله يحسن قبل البحث والنظر في السورة الكريمة عن معنى الرباط ، التذكير بأن آل عمران كانوا يقطنون بيت المقدس في جنبات المسجد الأقصى أبرز معالم الرباط وأظهر عناوينه، بالرغم من أننا لا نكاد نلمح سوى بعض الإشارات غير المباشرة للأقصى وبيت المقدس كما سيأتي بإذن الله تعالى.
فأما الأمر بالمصابرة بعد الأمر بالصبر فالمفاعلة لأجل مواجهة صبر العدو بصبر مثله وزيادة، لمنع الانهزام أمام العدو ولتحقيق الغلبة والنصر عليه، ثم إن المرابطة فيها ربط النفس والخيل وحبسهما، وفيها أيضًا، معنى المفاعلة كونها في مقابلة العدو ومواجهته.
وأيًا ما كان الأمر؛ فإن الصبر هو العنوان الرئيس في هذه الخاتمة، أولًا لتكرار جذر الصبر مرتين فيها، وثانيًا لأن المرابطة وكذا التقوى، يقومان على الصبر.
-فذلكم الرباط
ولعل في حديث أبي هريرة ما يجلي مفهوم الرباط، حيث يقول النبي ﷺ: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟، قالوا بلى يا رسول الله، قال إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط" رواه مسلم.
وقد نقل النووي في شرح مسلم أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "فذلكم الرباط" أي الرباط المرغب فيه، أو أفضل الرباط، ويحتمل أنه بمعنى الرباط المتيسر الممكن، ولعله يقصد الرباط الذي يستطيعه كل مسلم في كل وقت، خلافا للرباط الذي هو في مواجهة العدو.
فإسباغ الوضوء على المكاره يعني إتمامه وإتقانه وإيصال الماء إلى كامل الأعضاء بالرغم من البرد القارس والآلام الجسدية والنفسية ما يُشير إلى قوة العزيمة، وأما كثرة الخُطا إلى المساجد فتشير إلى علو الهمة وحب السجود بين يدي ربه، ويؤكد المؤمن من جهة أن قلبه معلق بالمساجد، وحب صاحب تلك البيوت (وأن المساجد لله)، والانتماء إلى جماعة المؤمنين رواد تلك المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة هو أوسع من مجرد بقاء شخص أو أكثر في المسجد من الصلاة إلى الصلاة، ما يشير إلى أن أمر الله تعالى ــــ القائم والقادم ـــــ على رأس أولويات المؤمن وهو شاغله الشاغل.
-من بعد ما أصابهم القرح
إنه الثبات على الدين بالرغم من كل الصعوبات والمشقات وثقل التكاليف، وملاقاة الله تعالى على ذلك، وسنجد هذا المعنى يتكرر في السورة الكريمة بأكثر من شكل، فمنها قوله تعالى}:وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ{ [آل عمران: 146، 147].
وقبلها، وتعقيبا على شائعة مقتل الرسول قال سبحان: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ{ [آل عمران: 144].
وبعد أن يقرر بأن الدين عند الله الإسلام يأمر المؤمنين ألا يموتوا إلا وهم مسلمون: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ{ [آل عمران: 102]، ومن أراد ألا يموت إلا مسلمًا فليكن منذ هذه اللحظة مسلمًا، وليكن في كل لحظة مسلمًا.
ويندبنا إلى أن نتمثل أولي الألباب في دعائهم ربهم أن يتوفاهم مع الأبرار:}رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ{ [آل عمران: 193]، وبالمنطق ذاته؛ فإن من يريد الوفاة مع الأبرار يتوجب عليه أن يصبر نفسه في البقاء معهم، وفي الالتزام بأعمال البر والدعوة إليها، وقد أمرت مريم أن تركع مع الراكعين، فمعركة الدين تخاض على المستوى الفردي والجماعي على حد سواء.
إنه الثبات على الدين وحمله والجهاد في سبيله برغم الجراح، ولا ننسى أن هذه السورة قد تخصصت لغزوة أحد، وفيها الكثير من النصوص الدالة على ما نحن بصدده، لكن سنختم هذه الفقرة بقوله تعالى: }الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{ [آل عمران: 172، 173)، وما أشبه قوله في التمثيل للرباط: (إسباغ الوضوء على المكاره)، بقوله تعالى: }الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.{
إن التمسك بالدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله، ليس نزهة بل هو مسؤولية عظيمة، لا ينهض لها ويثبت عليها إلا أصحاب العزائم وأرباب الهمم، المخلصون الذين وفقهم الله تعالى وأكرمهم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، ويكفي أن نعلم ابتداء أن الشيطان قد تعهد بأن يقعد لبني آدم صراطهم المستقيم، وأن أئمة الكفر وأكابر المجرمين في نشاط دائب لحرب الدين وأهله لأجل إضلالهم إن استطاعوا، ولإبادتهم إن أمكنهم ذلك، يقول سبحانه: }وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا{ [البقرة: 217]، ويقول عز من قائل:}وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً{ [النساء: 102]، فهؤلاء الذين ينتظرون لحظة غفلة من المؤمنين ليميلوا عليهم ميلة واحدة، هم بالتأكيد في حالة رباط وتأهب قصوى انتظارًا لتلك اللحظة.
-آل عمران وبيت المقدس
سبق القول بأن ختام سورة آل عمران بالأمر بالمرابطة، يشير من جهة إلى أن آل عمران كانوا مرابطين، ويذكرنا بأنهم كانوا مرابطين في جنبات المسجد الأقصى، امتدادا لخلافة داود وسليمان ، وقياما بالرسالة حتى بعد انقضاء الخلافة.
فهناك إشارة غير مباشرة للمسجد الأقصى في قوله تعالى: }إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا{ [آل عمران: 96، 97]، وهذه الآية في الجدال مع أهل الكتاب عن أي المسجدين أولى أن يكون القبلة: المسجد الحرام أم مسجد بيت المقدس.
لكن إشارة أخرى كررت في هذه السورة، ووردت في سورة مريم أيضًا، عن آل عمران، قوية الدلالة، على معنى الرباط الذي نحن بصدده، وهو ما يتعلق بلفظة (المحراب) في قوله تعالى: }كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا{ [آل عمران: 37]، وقوله سبحانه: }فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ{ [آل عمران: 39]، وقوله عن زكريا أيضًا:}فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا{ [مريم: 11].
إن استخدام لفظة المحراب بشأن مكان التفرغ للعبادة يظهر بأجلى صورة أن هذا التعبد وذاك التبتل لم يكن انعزالًا عن المجتمع، ولا رهبنة وهروبًا، بقدر ما كان جزءًا لا يتجزأ من الإعداد الروحي والشحن النفسي، في سياق معركة الإيمان والثبات عليه، ونوعا من الرباط الإيماني الديني في مواجهة الكفر، إنهم في حرب؛ ولذلك فهم في المحراب، الذي يعني في صياغته التصريفية: أداة الحرب وآلتها، وربما، مكانها أيضًا.
ولئن لم نرَ معارك ظاهرة واضحة المعالم بشأن آل عمران، فيكفي أن نتذكر الصراع بين عيسى وكفار قومه كما جاء في سورة الصف:}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ{ [الصف: 14]، ويكفي أن نتذكر أن أعداء المسيح قد تآمروا لقتله وصلبه لولا أن نجاه الله تعالى.
ومن المناسب إعادة ما سبق ذكره أثناء الكتابة عن داود وسليمان ، بأنه من الناحية الزمانية فإن أول ورود للفظة المحراب في القرآن الكريم، كانت في قصة داود ، ثم وردت بصيغة الجمع: (محاريب)، في قصة سليمان، وقد كانا خليفتين مجاهدين، مركزهما بيت المقدس.
إن من إيحاءات اسم آل عمران في دلالته على الأسرة المصطفاة الكريمة، ومن ثم السورة الكريمة، أن العمران الحقيقي لأي مجتمع بشري هو في تمسكه بالدين وحمله والثبات عليه برغم الآلام والجراح، وحين يتنكب الناس طريق الإيمان، وينسوا ربهم حتى ما يكون فيهم من يقول: الله، الله، تؤذن الحياة بالانقضاء، والساعة بالقيام، وليس هناك عمران، بالرغم من أن الأرض قد أخذت زخرفها وازّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، حيث العمران الحقيقي هو العمران الديني وليس المادي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد