الذين هم في صلاتهم خاشعون


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إنَّ أعظمَ ما يُوصِي به المرءُ أخاهُ في اللهِ، أنْ يوصيهِ بتقوى الله، وأن يتمسكَ بحبلهِ وأن يهتدي بهُداهُ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.. {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.

معاشرَ المؤمنينَ الكرام: تعلمون أنَّ عبادةَ اللهِ تعالى هيَ الغايةُ من خلقَ المخلوقاتِ جميعًا، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، ولأجلِ هذه الغايةِ أَرسلَ اللهُ الرُّسُلَ، وأنزلَ الكتُبَ.. وبشَّرَ القائِمينَ بها فقالَ جلَّ وعلا: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}.وتوعَّدَ المُستكبِرينَ عنها، فقالَ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

والصّلاةُ أيّها المؤمنون، ركنُ الدِّين الرَّكِينِ، وفريضةُ اللهِ الثابتةِ على المسلمين، وآكدُ وصايا سيدِ المرسلين، وآخرُ ما يُفقدُ من الدِّين،  وأول ما يحاسبُ عليه المرءُ يومَ الدين.. صلاحُها صلاحُ بقيةِ الأعمال، وفسادُها فسادٌ لبقية الأعمال.. المحافظةُ عليها عنوانُ الصِدقِ والإيمان، والتهاونُ بها علامةُ الخذلانِ والخُسران.

الصلاةُ أيها المباركون: عنوانُ الفلاحِ، وطريق الصلاح والنجاح، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، وكيفَ لا يفلِحونَ وهم سيَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

ولا شك أيها الكرام: أنه ما من مُسلمٍ إلا وهو يتمنى أن يكونَ من أكثر الناسِ محافظةً على صلاته، لأنه يعلمُ أنَّ حياتهُ ستصبحُ أكثرَ سعادةً وسكينةٍ، وراحةً وطمأنينة.. فما الذي يحولُ بين البعضِ وبين المحافظة على الصلاة.. والإجابة المؤكدة في كتاب الله: هو الخشوع يا عباد الله.. فالصلاة بلا خشوعٍ, صلاةٌ ثقيلةٌ شاقةٌ، تأمَّل: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}.إذن فالفلاحُ والسعادة، والراحةُ والطمأنينة، وأنسُ الروحِ وقرةُ العينِ مقرونةٌ بالصلاة الخاشعة، تأمَّل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة"، وقوله عليه الصلاة والسلام: "أرحنا بها يا بلال.." ولذلك كان "يُطيلُ صلاتهُ حتى تتفطَّرَ قدماه.." وكان ﷺ "إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة."

الصلاة الخاشعة أيها المباركون: نورٌ في القلب، وضياءٌ في الوجه، وزكاءٌ في العقل، وقوةٌ في البدن، وبركةٌ في العمر، ومغفرةٌ للذنوب، وتفريجٌ للكروب، وشفاءً لما في الصدور، ألم تسمع قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ}.ألم تتأمَّل قول العزيز الحكيم: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، ألم تتدبر قول الرؤوف الرحيم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}.ووالله لَوْ أيقن الْمُسْلِمُ بمَا فِي الصَّلَاةِ الخاشعة مِنْ الخيرات والبركات، لأقبل عليها بقلبه وقالبه، تأمل: {وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَىِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ}، وجاء في صحيح مسلم: "مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا، إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ".. وفي الصحيحين: "مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".. أريتم يا عباد الله: فالذُّنُوبُ كُلُّهَا تمحى وتغفرُ, بركعتين خاشعتين، فأيُّ منزلةٍ عظيمة لهذه الصلاة عند الله.. في الصحيحين عن أبي هريرة  قال: سمعتُ رسول الله يقول: "أرأيتُم لو أنّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسِل منه كلَّ يومٍ خمسَ مرّات، هل يبقى من درنِه شيء؟" قالوا: لا يبقى من درنِه شيء، قال: "فذلك مثَلُ الصلوات الخمس، يمحو الله بهنّ الخطايا". وفي الحديث الصحيح: "من صلى البردين دخل الجنة، ومن صلى الصبح فهو في ذمة الله، ومن أدرك تكبيرة الأحرام أربعين يومًا كتبت له براءتان من النار والنفاق، وأن العبد يكون أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد.." وما من مشكلة إلا والصلاة حلٌّ لها: فإذا أجدَبت الأرض وقحط المطر وجفَّ الضرع أُمِرنا أن نفزع إلى الصلاة.. وإذا تغيّرَ مجرى الكونِ واختلَّ نظامُ الشمسِ والقمر أُمِرنا أن نفزعَ إلى الصلاة، وإذا مات المسلمُ وغادرَ الحياة، أُمِرنا أن نودِّعهُ بالصلاة، وإذا اضطرَبت أحوالُ المسلمِ وضاقَ عليهِ أمرهُ, لجأ إلى الصلاة.. الصلاةُ يا عباد الله: هي العبادةُ الوحيدةُ التي تجبُ على المسلم في كلّ حال، يُصلي قائمًا فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنب، وإلاّ فعلى أيّ حال، مُستقبلَ القبلة, فإن لم يستطع صلّى لأيّ جهة، وإن عجزَ عن أي شرطٍ من شروطها صلّى على أيّ حالٍ يتيسر له، فطالما كان العقل موجودًا فإنَّ الصلاة لا تسقطُ بحال.. قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}.

والخلاصة يا عباد الله: أن مَنْ خَشَعَ فِي صَلَاتِهِ وَجَدَ لها أُنسًا ولَذَّةً، وطمأنينةً وَرَاحَةً، وَوالله ليجدنَّ لها شَوْقًا ورغبة، واقبالًا ومحبة.. وبذلك تصلحُ أحواله، وتستقيمُ أموره، وَمَنْ قَرَأَ سِيَرَ الْخَاشِعِينَ، وَرَاقَبَ أَحْوَالَهُمْ وَجَدَ ذَلِكَ واضحًا فِيهِمْ. ومن لم يخشع في صلاته: حُرم من ذلك كلِّه، وثقُلَ عليه أدائها، حتى يتكاسلَ ويصعبُ عليهِ القيامُ لها.. وعندها فيخشى عليه أن يكون ممن قال الله عنهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}.

نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْخُشُوعِ وَالْإِخْلَاصِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا لَّذَّةَ المناجاة، وَحَلَاوَةَ وأنس الصَّلَاةِ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

اتقوا الله أيها المؤمنون، {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ...

معاشر المؤمنين الكرام: من أراد أن يعرف قدْرهُ ومنزلتهُ عند الله تعالى، فلينظر إلى قدر الصلاةِ ومنزلتها عندهُ، سواءً بسواء.. وفي الحديث القدسي الصحيح: قال الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه، وإن تقربَ إلي شبرًا تقربتُ منه ذراعًا، وإن تقربَ مني ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".. فَاتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى عباد الله: وَاجْتَهِدُوا فِي تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ؛ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا بِقَدْرِ خُشُوعِهِ فِيهَا،

ومن أراد أن يخشعَ في صلاته فليحرص على حُضورِ قلبِه فيها.. ومن أراد أن يحضرَ قلبه في صلاته فعليه أن يهتمَّ لها.. فمتى أهمَّكَ أمرٌ حضرَ قلبُكَ فيه.. وكل هذا يَحْتَاجُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَى تَهْيِئَةٍ واستعدادِ, وبذلٍ لبعضِ الأسبابِ السهلة.. بِدًا بَإِحْسَان الْوُضُوءِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى السِّوَاكِ، وَعَلَى أَذْكَارِ الْوُضُوءِ، وأذكارِ دخولِ المسجدِ والخروجِ منه، وَعلى التَّبْكِير إِلَى الْمَسْجِدِ، وَالْحِرْصِ عَلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالدُّنُوُّ مِنَ الْإِمَامِ، وَالتُّؤَدَةِ فِي صَلَاةِ السنة، وقراءةِ شيءٍ من القرآن الكريم أو الذكرِ والدعاءِ والتسبيح... وكذلك اسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عند الْوُقُوفِ بين يديه في اِلصَّلَاةِ.. وَاسْتِحْضَار هَيْبَةِ الْوُقُوفِ أَمَامَهُ، واستشعارِ لَذَّةِ مُنَاجَاتِهِ وتَدَبُّر ما يقوله فِي ركوعه وَسجُودِه وجلوسه، وَأن يوقنَ باستجابة دُعَاءِهِ فِيها، وَلَا سِيَّمَا فِي السُّجُودِ.. واستحضارِ أنَّ الله الكريم المنعم، هو الذي أمره بهذه الصلاة، وهو الذي وفقه وشرحَ صدرهُ ونوَّرَ قلبه، وأعانهُ على القيام إليها، وهو الذي يسَّرَ لهُ وضوؤه وقوَّاه عليه، وهو الذي أتي به إلى المسجد ليُصلِّي ويذكُرَ ربه، ثم هو الذي يتكرَّمُ بالقبول ويشكُرُ سعيهُ ويتقبل صلاتهُ.. وَاسْتِحْضَارُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مُنْذُ خَلَقَهُ وَأَوْجَدَهُ؛ فَإِنَّ مَنْ أَغْدَقَ عَلَيْهِ كُلَّ هَذِهِ النِّعَمِ، وَدَفَعَ عَنْهُ مِنَ المصائب والنِّقَمِ مَا يَعْلَمُ وَمَا لَا يَعْلَمُ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَخْشَعَ لَهُ الْعَبْدُ فِي مِحْرَابِهِ. وَاسْتِحْضَارُ عظمةِ الْمَوْقِفِ بين يدي اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَليَتَذَكَّر أَنَّ من خافَ في هذا الموقف، أمِن في ذاك الموقف، ففي الحديث القدسي الصحيح: "وعزتي لا أجمعُ على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، إذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة"، وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}، وَالْخُشُوعُ مِنْ دَلَائِلِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ.

أحبابي في الله: قلةٌ قَليلة مَن يَجهَلُ مَا الذي ينبغي عليه فعله، وَمَا الذي لا يَنبغي له، أكثرنا إن لم يكن كلنا يعلم ما هو الحلال وما هو الحرام، وما هو الصحيح وما هو الخطأ.. وَلَكِنَّنَا بِحَاجَةٍ مَاسَّةٍ مَاسَّةٍ، إِلى خُطواتٍ عمليةٍ يصلُح به وَاقِعُنَا، وتستقِيمُ به أُمورُنا، ويرضى بهِا عنَّا ربُّنا، فمتى تقوى الإرادة، وتشْتدُ العزيمةُ، ونُتبِعِ القولَ العمل.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.

فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply