مسند العصر عبدالرحمن الكتاني


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في عام 1423هـ أكرمني الله تعالى بالحجِّ إلى بيته الحرام، فأَخبرني المسنِدُ النَّسابةُ الرَّحالةُ محمَّد بنُ عبدِ الله آل رشيد: أنَّ شيخَنا عبدَ الرحمنِ بنَ عبدِ الحيِّ الكتانيَّ أَتى للحرَمينِ الشريفَينِ حاجًّا، ولكنْ لا يعرفُ مكانَه وعنوانَه.

فاجتمعتُ بالرَّشيد ثانيَ أيامِ منى، وعَزَمْنا على البحث عن شيخنا، فطَفِقْنا نسألُ كلَّ حاجٍّ يَظهر عليه سيما أهلِ المغرب، فأَمسينا نسأل الكبيرَ والشابَّ والصغير، حتى كِدنا نُنْهكَ مِن التَّعب والتَّجوال، ونملَّ مِن كثرة البحث والسؤال.

وبعدَ ساعاتٍ طِوالٍ وصلْنا إلى موضعٍ يجتمع فيه جلُّ الحُجاجُ المغاربة، ثمَّ قصدنا خيامَ أهلِ فاس، فسألنا كثيرًا عن الشيخ فلم نلقَ جوابًا مِن الناس، ثم بَحثْنا عن مسؤولي الحملةِ المغربية، فتعرَّفنا عليهم وعرَّفناهم بأنفسنا، وأننا طلابُ علمٍ نبحث عن شيخنا، فأَدركوا ذلك وتفهَّموا، وطلبْنا منهم مراجعةَ سجلاتِ أسماءِ الحُجَّاجِ فاستجابوا، ثمَّ أمعنَّا النظرَ في حجاج أهلِ فاس، وأَمسينا نبحث عن اسم الشيخِ بينَ ذاكَ الكمِّ الهائل مِن الأسماء والأُناس، إلى أنْ وَصلْنا بعدَ جَهدٍ جَهيدٍ لاسم الشيخ فطِرْنا فرحًا، بل وعلتْ أصواتُنا شوقًا وطَرَبًا، فخررْتُ ساجدًا لله تعالى شاكرًا وحامدًا، وعَلِمْنا أنَّ الشيخَ في المكانِ الفلانيِّ بمنًى نازِلًا، وبالخيمة رقمِ كذا وكذا مُرتكِزًا.

فما بتُّ ليلَتَها حتى ذهبتُ صباحًا باحثًا عن خيمة الشيخ إلى أنْ وصلتُ إليها، وذلك بعدَ أخذٍ ومنعٍ مِن مُنظِّمي الخيمةِ لمنعهم دخولَ غريبٍ عليها.

وبعدَ اللَّتيا والتي وصلتُ للخيمة المقصودَة، وتمَّتْ الطِّلبةُ المَنشودَة، ولكنْ فوجئتُ بذهاب شيخنا لرميِ الجمرات، فعُدت إليه بعدَ قليلٍ مِن الساعات، ففُجِعتُ بأنه تعجَّل وذهب لمكة، فسألتُ عن عنوان إقامته فأَعطوني وقالوا سيَبقى أيامًا ببكَّة.

ثم اتفقتُ مع الأستاذ الرشيد رابعَ أيامِ العيدِ على الذهاب سويةً للفندق الذي ينزل به الشيخ، وبعدَ بحثٍ ولأيٍ في شوارع مكةَ وحاراتِها مِن جهة سوقِ اللَّيل، وصلْنا إلى الفندق وأكثرُ نزلائه مغاربة، فسألنا عن الشيخ فقالوا خرج الآنَ وشدَّ غاربَه !

فقلت للشيخ الرشيد: لن أبرحَ الفندقَ عاكفًا عليه حتى يُكرمَني الله برؤيةِ شيخنا، فقال وأنا معك حتى نقضيَ أمرَنا، فجلسْنا وانتظرنا نحوًا مِن ساعتَين، ونحن ندعوا الله تعالى أنْ نُكحِّلَ برؤيةِ شيخنا العَينَين.

وإذا برجلٍ مغربيٍّ داخلًا الفندقَ فوقع في خَلَدي وفي خاطر الرَّشيد أنه هو، فأَقبلْنا إليه دونَ أنْ نتعرَّفَ عليه ونسألَ مَن هو، وصِرْنا نُقبِّلُه ونبكي، وذهب كلُّ ما بنا من ألمِ البحث والتفتيش المُضْني، ويومَها رأيتُ الأستاذَ الرشيد يبكي بدُموع، وعليه آثارُ الخُشوع والخُضوع.

فعرَّفتُ الشيخَ بالأستاذ الرَّشيد وبمؤلفاتِه، ثم أعلمتُه أنني كاتبتُه عامَ: 1420هـ وأنه أرسل لي جمعًا مِن إجازاته مِن شيوخه فذَكَرني.

فجلَسْنا إلى الشيخ نسمع مِن سيرته وسيرةِ أبيه، وقلبُنا متشوِّقٌ للنظرِ إليه والسماعِ مِن فِيه، فأُعجِبْنا باطلاع الشيخ على الأسانيد والتراجم، وأخبرَنا أنه قرأ «إمدادَ الفتاح» وغيرَه مِن المعاجم !

ثم سمعْنا منه الحديثَ المسلسلَ بالأولية وهو أوَّل، وقرأتُ عليه الأحاديثَ الأربعةَ الأُولَ مِن «مسلسلات ابن السنوسي»، وعامَّةً بفضل الله أجازنا، وأخبرنا مؤكِّدًا بشدَّةٍ سرورِه بزيارتنا.

ثم أتيتُ في اليوم التالي بعدَ العصر، وقرأتُ على شيخنا ثلاثياتِ البخاريِّ وأبي داودَ والترمذيِّ وابنِ ماجه، والأربعينَ المسلسلةَ بالأشراف، ولزوجةِ الشيخ حفظها الله منَّةٌ عليَّ في تيسير ذلك.

ثم بقيتُ أتواصل مع شيخنا هاتفيًّا بينَ الحينِ والآخر، وقرأتُ عليه عدَّةَ أشياءٍ جزاه الله خيرًا.

وشيخنا رحمه الله رجلٌ متواضع، لا يُحبُّ الظُّهورَ البتة، ليِّنٌ مع الطَّلبة رفيقٌ بهم، هادئٌ خافضُ الصَّوتِ والجانبِ إليهم.

وقد عُرف شيخنا بصلاحِه وبرِّه وبوالدِه وخدمتِه له، وقد عاش ممتَّعًا بعمره نحوًا مِن (107) عامًا !

إلى أنْ فُجِعت الأمةُ الإسلامية بوفاته عصرَ يومِ الثلاثاء، 12 جمادى الأُولى 1444هـ، الموافق: 6 كانون الأول 2022م.

وتُنظر ترجمةُ الشيخِ وأسانيدُه في كتاب: (نيل الأماني بفهرسةِ مسندِ العصر عبدِ الرحمن الكتاني)، تأليف الأستاذ الرَّحالةِ المسنِد المحقِّق محمد زياد التكلة حفظه الله تعالى.

وقد كان شيخنا بحقٍّ أسندَ أهلِ الأرض، وملحقَ الأحفادِ بالأجداد، رحمه الله تعالى وجعله في جنات النعيم.

وعزاؤنا لأسرته الكريمة وطلابه والآخذين عنه وأحبابِه ...

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply