بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في هذا النص النفيس يقص علينا أبو بكر الجصاص رحمه الله (٣٧٠) طرفًا من تاريخ استعمال لفظ (الدليل) في اللسان العربي، وفي ثنايا ذلك يقوّي رأيًا يتأسس على فهم المخاطَب العادي وقت التنزيل، لا على ما أُحدث لاحقًا:يقول رحمه الله:
الدليل: هو الذي إذا تأمله الناظر المستدل أوصله إلى العلم بالمدلول.
وسُمي دليلًا لأنه كالمنبِّه على النظر المؤدي إلى المعرفة والمشير له إليه.
وهو مشبَّه بهادي القوم ودليلهم الذي يرشدهم إلى الطريق، فإذا تأمَّلوه واتبعوه أوصلهم إلى الغرض المقصود من الموضع الذي يؤمُّونه.
ألا ترى أنا نقول: "إن في السموات والأرض دلائل على الله تعالى"؟ لأنها توصل المتأمل بحالها إلى العلم بالله عز وجل.
ومن الناس من يقول:
الدليل هو فاعل الدلالة في الحقيقة، كما أن دليل القوم هو فاعل الدلالة، فيقولون على هذا: إن الله عز وجل هو الدليل على الحقيقة إلى العلم به.والأول أظهر في اللغة.
لأن أحدًا لا يُطلق أن الله تعالى دليل، ولا يدعوه بأن يقول: يا دليل!
إلا أن يقيِّدوه، فيريدوا به: المُنجي من الهلكة، على معنى الدليل الذي ينجيهم بهدايته، فيقولون: "يا دليل المتحيرين، يا هادي المضلين" وقال الله عز وجل ﴿وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم﴾ [الحج ٥٤] يعني يدلهم عليه، ويقول الناس: إن الله تعالى قد دلنا على نفسه بآثار صنعته، فيقيِّدون اسم الدليل في هذه المواضع، إذا وصفوا الله تعالى. والمراد به: المنجي والمبين، ونحو ذلك.
والأول أظهر وأبين.لأن إطلاق لفظ الدليل موجودٌ فيه من غير تقييد.
وقد يقول الناس للأعلام المنصوبة لمعرفة الطريق -نحو الأميال المبنية في البادية-: إنها دلائل على الطريق.
ولا يُسمُّون الذي بناها هناك (دليلًا)، وإنما يُسمُّون ما يستدل به المتأمل لها (دليلًا)، دون الواضع لها.
ويدل على صحة ما ذكرنا:
أن المستدل يقول: "الدليل على صحة قولي: كيت وكيت"
وهو يريد به الدلالة، والأعلام المنصوبة للاستدلال بها.
ويقول السائل للمجيب: "ما الدليل على صحة قولك؟"
ولا يجوز أن تقول: "من الدليل على صحة قولك؟"
فثبت بما وصفنا: أن الدليل هو الذي يوصل المتأمل له والناظر فيه إلى العلم بالمدلول.
ومن الناس من يزعم:أن الدليل هو علمك بالشيء ووجودك له، قال: لأنه إذا قيل له: "ما الدليل على كذا؟" جاز أن يقال: علمي بكذا، ووجودي لكذا.
وليس فيما ذكرنا من وصف الدليل شيء أبعد من هذا، ولا أضعف! لأن قائلًا لو قال: "ما الدليل على حَدَث الأجسام؟
لم يصح أن يقول: "علمي بأنها لا تنفك من الحوادث".
بل يقول: "الدليل على حدثها أنها لا تنفك من الحوادث".
ويوجب هذا أيضًا أن تكون المحسوسات معلومة من جهة الدليل، لعلمنا بها ووجودنا إياها، والعلم عند هذا القائل هو الدليل.
وليس الدليل مُوجبًا للمدلول عليه، ولا سببًا لوجوده.
وكما أن دليل القوم: الذي يهديهم ويرشدهم إلى الطريق، ليس هو سببًا لوجود الموضع المقصود الذي يوصِل إلى علمه بدلالته، وإنما هو سببٌ للوصول إلى العلم به ]الفصول في الأصول ٤/ ٧[
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد