ألا لعنة الله على المخدرات


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إنّ خيرَ الوصايا هي الوصيةُ بالتقوى، فاتقوا الله يا عباد الله،{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]...

معاشر المؤمنين الكرام: بين يديِّ حديثنا اليوم، قصةٌ حقيقية، إلا أنها قصةٌ مؤلمةٌ مأساوية، وهي عينةٌ من آلاف القصص, والتي تفوقها المًا ومأساوية... فقد وقفت امرأةٌ عجوز أمام القاضي، وبجوارها ابنتها وحفيدتها، فسألها القاضي: كيف لأمٍ أن تقتلَ ولدها، وفلذة كبدها... فقالت الأم بعد تردد طويل: دخلت عليه ذات يوم غرفته، فوجدته يحقنُ نفسه بالهيروين، فثرت عليه أنصحه وأصرخُ في وجهه، ولكنه قام وصفعني على وجهي، ثم غلبني على كل ما كان عندي من المال والذهب فأخذه مني، ثم خرج, ليعود في الساعة الثالثة ليلًا، وكان منظره بشعًا، يثير الغثيان، ثقيلُ اللسان، أصفر الوجه، يهذي بكلامٍ لا يُفهم، فدخل علي غرفتي، ثم أقترب مني بلا وعي، وأخذا يمزقُ ثيابي، وحاول الاعتداء علي وأنا أمه، ولكني تمكنت من الإفلات منه ولله الحمد، وخرجت من البيت مذعورة، واسرعت وأنا بتلك الحال حتى وصلت إلى بيت ابنتي، ولم يشاهدني أحدٌ ولله الحمد، وبعد قرابة الشهر عدت أنا وابنتي وحفيدتي إلى البيت، ونحن نقول: لعله مات أو هاجر، ولكني وجدته قد باع أغلب الأثاث، وفي الساعة الثالثة ليلًا عاد إلى البيت، فلما عرف بوجودنا انقض على حفيدتي هذه بوحشية، فحاولنا تخليصها منه فلم نتمكن، فذهبت مسرعة إلى المطبخ، وجئت بالسكين فغرستها في ظهره مرارًا حتى مات...

إنها المخدرات يا عباد الله... ألا لعنةُ الله على المخدرات...

فلقد كرّمَ اللهُ الإنسانَ وفضلهُ على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلًا، وميزهُ بالعقل، فبه يرقى ويتعلَّم، وبه يتبينُ ويفهم، وبه يميّز بين الخير والشرّ، والنافع والضّارّ، والصالح والطالح... فإذا أزال الإنسانُ عقله ضلَّ وغوى، وانحطَّ إلى اسفل الدركاتِ وهوى، يقول الحقُّ جلَّ وعلا عن أمثال هؤلاء:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]... فما الإنسانُ بعد زوال عقلهِ إلا مجنونٌ صائل، أو أحمقٌ جاهل، قريبٌ شرّه، بعيدٌ خيره... وبعض التائهين المخذولين يأبى إلاّ أن ينحطَّ إلى درَكات الذلِّ والهوان... وأن ينحدرَ إلى درجةٍ أقل من الحيوان... فمن أجل حُقنةِ مخدرٍ تعمى بصيرته، وينسلخُ من إنسانية، وتظلمُ نفسه، وينسى ربه، ويفقدُ عقله، ويتحولُ إلى شيطانٍ في صورة انسان، لا يردعه دينٌ ولا عقلٌ ولا ضمير، يمزقُ عرضهُ ورجولته، ويخسرُ مالهُ وصحته، ويشرِّدُ أطفالهُ وأسرته، ويدمرُ مُستقبلهُ وآخرته... يجني على نفسه فيخسرُ الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين... ففي صحيح الامام مسلم، قال رسول الله : "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ خمرٍ حرامٌ"، وفي الصحيحين أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ شرابٍ أسكر فهو حرامٌ"، وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، قال، قال رسول الله : "ما أسكرَ كثيرُهُ فقليلُهُ حرامٌ"، وعن ام سلمة رضي الله عنها قالت: نَهى رسولُ اللهِ عن كلِّ مُسكِرٍ ومفتِّر، وعن جابر رضي الله عنه أنَّ النبي قال: "كلُّ مسكرٍ حرام، إنّ على الله عزّ وجلّ عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيَه من طينةِ الخبال"، قالوا: يا رسول الله، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عرقُ أهل النار أو عصارة أهل النار"، والحديث في مسلم، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ قال: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ، وكلّ مسكرٍ حرامٌ، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يُدمنها لم يتُب، لم يشربها في الآخرة" رواه مسلمُ، وفي الحديث الصحيح أنّ النبيّ قال: "مُدمن الخمر إن مات لقِيَ الله كعابدِ وثنٍ"... وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعتُ رسولَ الله يقولُ: "أتاني جِبريلُ، فقال: يا محمدُ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لعَنَ الخَمرَ، وعاصِرَها، ومُعتَصِرَها، وشارِبَها، وحامِلَها، والمَحمولَةَ إليه، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وساقيَها، ومُستَقيَها"، وفي رواية صحيحة: "لعَنَ اللهُ الخَمْرَ، ولَعَنَ شارِبَها، وساقيَها، وعاصِرَها، ومُعتَصِرَها، وبائِعَها، ومُبتاعَها، وحامِلَها، والمَحمولةَ إليه، وآكِلَ ثَمَنِها"...

ولاشك يا عبادَ الله، أنَّ المخدّرات بأنواعها أشرُّ من الخمر وأضرُّ، لأنها تشارك الخمرَ في الإسكار, وتزيد عليها في كثرة الأضرار، فهي تُفسدُ العقلَ، وتُدمّرُ الجسدَ، وتُذهبُ المالَ، وتقتُلُ الغيرةَ، وقد أجمعَ الناس كلّهم مسلمين وكفّار على فداحة ضررها، وشدَّةِ خطرها، وقال العالمون بواقع الحال:إنّها أشدُّ فتكًا, وأعظمُ تدميرًا من الحروب والأمراض...وتنادى القاصي والداني لحربها والقضاء عليها..وليس هذا خاصٌ بهذا الزمان،فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها ومستحلوها، الموجبةِ لسخط الله تعالى, وسخطِ رسوله, وسخطِ عبادهِ المؤمنين، المعرّضةِ صاحبها لعقوبة الله، تشتملُ على ضررٍ في دين الإنسانِ وعقله، وخُلقهِ وطبعهِ, حتى جعلت خلقًا كثيرًا مجانين، وتورثُ مهانة آكلِها ودناءة نفسه, ما لا تورثه الخمر، ومفاسدها أكثرَ من الخمر، فهي بالتحريم أولى...

ومما تجدُرُ الإشارةُ إليه أنَّ انتشارَ الحبوبِ المنبهِة بين شبابنا أمرٌ مُخططٌ له من قبل أعداءِ الملةِ والدين... فقد صرَّحَ مديرُ عامِ مكافحةِ الجريمةِ بالمملكةِ بأنَّ هناك أطرافًا دوليةً تعملُ بشكلٍ مكثفٍ على غزوِ المملكةِ بالمخدراتِ والحبوب الممنوعة، وإنَّ المملكةَ كغيرِها من البلادِ العربيةِ والإسلاميةِ مستهدفةٌ بتلك المواد الممنوعةِ لتدميرِ أفراد المجتمع واتلافِ مقوماتِه... وإنَّ مما يزيدُ الأمرَ خطورةً، أنَّ هذه الحبوب والمخدرات غالبًا ما تحتوي على شوائبَ وإضافاتٍ خطيرةِ السُّميةِ، تُضافُ إمَّا بقصدِ الغشِ، أو لتقويةِ مفعولِها، أو لزيادة الإدمان، أو للفتكِ بشبابِ المسلمينَ وتدمير صحتهم, والضحيةُ في النهاية هو هذا المتعاطي المسكينُ الذي يُفرّطُ بعقلِه وصحته، ويفرِّطُ بدينِه وعرضه وأعزِّ ما يملكه...

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90-91]...

اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك....

معاشر المؤمنين الكرام: إنَّ من مكر الأعداء بأمّةِ الإسلام, وحرصهم على تدميرها والقضاء عليها، أن وجهوا أشدَّ سِهامهم إلى أغلى مقدرات الأمَّةِ وهم شبابها... فغزوهم بالمخدرات التي تفننوا في تصنيعها، واستماتوا في إيصالها إلى كافة المجتمعات الإسلامية بشتى الصور والأساليب، حتى أضحت حرب المخدّرات هي الحرب الأخطرُ والأفتكُ والأشرس... وكل من وقفَ على شيءٍ من وقائع هذه الحرب، يُدرك مدى خطرِها وخِستها، وشدة فتكها وقساوتها، وكثرة ضحاياها وشراستها...وبالرغم من وجود القوانين القوية الصارمة، والتشريعات الحازمة،فلا يزالُ طوفان المخدّرات ينخرُ ويفتك في صفوف شبابنا وفتياتنا, وبصورة عميقة مؤلمة،يصل صداها إلى مكاتب الأمن، ومخافر الشرطة، وأروقةُ المحاكم، وأسِّرة المستشفيات، وجدرانُ السجون؛ مما يشعرك بضخامة المشكلة، وفداحة الضرر، وعمق المأساة... فكم مزَّقت المخدرات من صِلات وعلاقات، وكم افسدت من صداقات، وكم شتَّتت من أسرٍ وجماعات، وكم أشعلت من أحقادًا وعداوات... وكم أرهقت كاهل الأمة بما تجلبه عليها من مآسيٍ ونكبات، وبما يُهدرُ في سبيل مكافحتها من أموالٍ ومقدرات...

ولا يخفى على أحدٍ, أنَّ كلَّ من يقعُ أسيرًا في أوحالِ المخدرات فلن يكونَ في حسه شيءٌ أهمَّ من الحصول عليها، ولذا يسهلُ عليه أن يبذلَ من أجلها كل غالٍ ونفيس، وأن يُضحي بكل عزيزٍ ومقدس من أجلِّ أن لا تفوتهُ الجرعةُ التي أدمنها، ولو أن يسلك من أجلها طريقَ الإجرام، أو أن يرتكبَ في سبيلها كلَّ حرام، أو يتخلى عن عرضه وقيمه وأخلاقهِ ومبادئه... ويظل ينحدرُ في هذا المسلك الوعر، والمنحدرِ الخطر، إلى أن تضعُفَ قواه الجسدية والعقلية، وإلى أن يفقدَ كل مقوماته الاجتماعية، ويخسر كل مكتسباته الشخصية، بل ويفقدُ علاقته بأهله وعشيرته وأصدقاءه، وينتهي دوره الفعالَ في المجتمع، ويصبحُ بلا عملٍ ولا أمل، ويمسي عالةً على أسرته ومجتمعه، يسيرُ نحو الهاوية والنهاية البئيسة...

ومن ناحية أخرى، فإن تَهريب المخدرات وترويجها وتعاطيها يؤدي إلى سلسلة من الجرائم المتتابعة، ففي سبيل تحقيق أهدافهم الخبيثة، وتحصيل المكاسب القذرة، فإنَّ المهربَ والمروجَ لن يتورعوا عن ارتكاب أبشعِ الجرائم, وسلوك أسوأ الطرق للإيقاع بفرائسهم، وتجنيد أكبر عددٍ من المروجين لبضاعتهم، وكلاهما لن يتردد لحظةً في أن يتعاون حتى مع الشيطان، فضلًا عن الأعداء وكلِّ من يحرصُ على فساد شبابِ الأمةِ والإضرارِ بهم... وفي المقابل فإنَّ المتعاطي لن يرتدع عن توفير الثمن... ولو كان ذلك على حساب دينه أو عرضه أو قوت أهله وعياله... إلى غير ذلك من الجرائم المتتابعة... حمانا الله وأياكم ومجتمعاتنا من كل شرٍّ وبلاء...

ألا وإنَّ غرسَ الإيمانِ ومراقبة الله جلَّ وعلا في نفوس النشءِ هو أساسُ الصلاح, وبلسمُ الوقاية من كل فسادٍ وشرٍّ... إذا علم هذا فيجب على كل فردٍ مسلم، أيًا كان مكانه ومكانته، أنَّ يُساهم بما يستطيع في تعميق روح الإيمان والمراقبة، وتقوية الاستجابة لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، والبعدِ عن مواطن الريبةِ ومسالك السوء، فالسلامةُ لا يعدلها شيء، وأن يأخذَ المسلمُ نفسهُ بالآداب الإسلاميةِ الفاضلة، ويُزكي نفسهُ ويُحلِّيها بالأخلاق الحسنة، وأن يختار الصحبة الصالحة، فالصاحبُ ساحب، والمرءُ على دين خليله، وأن يُكثرَ من الصدقة والدعاء, فصنائعُ المعروفِ تَقِي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ، وأن يجتهدَ عمومًا في السير على منهج السلف الصالح، والاتصافِ بصفات أهلِ الإيمان والتقوى... فذلك بإذن الله هو الذي يحفظُه ويحميه، ويجنبهُ الوقوعَ في أوحال المسكراتِ والمخدرات، ويصرفهُ بحول اللهِ عن الاستجابة لدعوات أصحابها، ويكفلُ له بكرم اللهِ سعادة الدنيا والآخرة، فالحقُّ جلَّ وعلا هو الذي يقول:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل : 97]... وهو سبحانه الذي وعد عباده المؤمنين المستقيمين بقوله:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}...

فيا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان...

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply