أحوال الناس في العرصات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الحمدُ للهِ العزيزِ الجبارِ،{خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}،{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}، سبحانهُ وبحمده،{يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ}... وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك لهُ،{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}... وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ، المصطفى المختارِ... صلَّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى... وزكاةُ ربي والسَّلامُ مُعطرا... يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى... أزكى الأنامِ وخيرُ من وَطِئَ الثَرى... يا ربِّ صلِّ على النبيِّ وآلهِ... تِعدادَ حباتِ الرِمالِ وأَكثَرا... والآلِ والصحبِ وكُلُّ من اقتفى، وسلِّمْ تسليمًا كثيرًا أنورا...

اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والتزموا سنَّةَ نبيكم تهتدوا، وأخلِصوا نياتِكم للهِ تبارك وتعالى تُفلِحوا، وابتعدوا عن المنكرات تسْلموا، واستبِقوا الخيراتِ تربحوا وتغنموا... {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}...

أيَّها المؤمنون الكرام: هذه هي الحلقةُ الثانيةَ عشرةَ, من سلسلة دروسِ الدارِ الآخرة، وكنا قد ذكرنا في الحلقة الماضية:أنَّ اللهَ قبلَ نفخةِ البعثِ يُنْزِلُ ماءً تنبُتُ منهُ الاجساد، كما يَنْبُتُ الزرع، وذكرنا أنَّ الأرضَ تُمدُّ مدَّاً عظيمًا، وتسوى حتى تكونَ كأنَّها سبيكةُ فضة، وجاء في تفسير قولهِ تعالى:{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}، أي:فإنَّما هي نفخةٌ واحدة، فإذا هم أحياءٌ على وجه الأرضِ, بعد أن كانوا في بطنها... والساهرةُ هي الأرضُ الواسعةُ المستوية، وسميت بهذا لأنه لا ليل فيها ولا نوم... في الحديث الصحيح: قال :"يُحْشَرُ الناسُ يومَ القيامةِ على أرضٍ بيضاءَ عَفْرَاءَ، كقُرْصَةِ النَّقِيِّ، ليس فيها مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ"... نعم يا عباد الله: فيومُ القيامةِ يختلفُ عن أيامِ الدنيا، فلقد مضى زمنُ الامتحانِ والابتلاء، وجاءَ زمنُ الحسابِ والجزاء، وأفاقَ الخلقُ من سكرة الغفلةِ والعِنادِ والهوى، يقولُ قائلهم:{يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}،{يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}... فيومُ القيامةِ يومٌ رهيبٌ طويلٌ، عسيرٌ ثقيلٌ، طولهُ خمسون ألف سنة، ولطوله وكثرةِ أحداثهِ يمكنُ تقسيمهُ إلى مراحلَ مُتتابعة... فالمرحلةُ الأولى: نمو الاجسام، وخروجُ الناسِ من قبورهم كما مرَّ معنا في الحلقة الماضية... قال تعالى:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ}، وقال تعالى:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا}..

والمرحلةُ الثانية: جمعُ الناسِ وسوقُهم, وتصنيفُهم إلى فئاتٍ ودرجات... حيثُ يُساقُ كُلٌّ إلى مكانهِ المخصَّصِ لهُ في أرض المحشرِ، قال تعالى:{وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}، فكلُ نفسٍ سيكونُ معها في المحشر ملكانِ، مَلكٌ يقودُهُ لمكان وقوفهِ المحدَّدِ، والآخرُ ليشهدَ عليهِ بعمله... فكما أنَّ الجنةَ درجات, بعضها أعلى من بعض، وكما أنَّ جهنمَ عياذًا بالله دركات, بعضها أسفلُ من بعض، فإنَّ مواقفَ الحشرِ مُقسَّمةٌ إلى أُممٍ وفئات، فلا يمكنُ لمؤمنٍ أن يُحشرَ مع الكفَّار، ولا يمكنُ لكافرٍ أن يُحشرَ مع المؤمنين، تأمل:{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا * وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}،{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا}، وجاء في حديثٍ حسَّنهُ بعضُ أهلِ العلم، قال عليه الصلاة والسلام: "أَنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ ثَلَاثَةَ أَفْوَاجٍ: فَوْجٌ رَاكِبِينَ طَاعِمِينَ كَاسِينَ، وَفَوْجٌ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ، وَفَوْجٌ يَمْشُونَ"، قال تعالى في شأن الكافرين: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}... وأهوالَ ذلك اليومِ تعمُّ الكفَّارَ جميعًا, كما تعمُّ العُصاةَ على قدر ذنوبهم، وأمَّا المؤمنونَ الصالحون: فقد قالَ تعالى عنهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، وقال تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، فمنهم من يُظلهُ اللهُ في ظله يومَ لا ظلَّ إلا ظلهُ، كالسبعة الذين جاءَ ذكرهم في الحديثِ المشهور، وكُلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقتهِ يومَ القيامةِ حتى يُفصلَ بين الناس، وكذلك من أنظرَ مُعسرًا أو وضعَ عنه، والمشائينَ في الظُّلم إلى المساجد لهم نورٌ تامٌ يومَ القيامة، والمؤذنونَ يومئذٍ أطولُ الناسِ أعناقًا، ومن ماتَ على عملٍ صالحٍ بُعثَ عليه، والمتحابون بجلال الله على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء، وإنَّ يومَ القيامَةِ على المؤمنينَ كقدْرِ ما بينَ الظٌّهرِ والعصرِ... كُلُّ ذلك ثبتَ في الاحاديث الصحيحة...

وأمَّا من ماتَ عاصيًا مُصرًا على معصيته فبحسب أعمالهِ وإيمانه، يقولُ الحقُّ جلَّ وعلا:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ}، ويقولُ سبحانه:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}، وقال تعالى:{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، أي:يأتي به يحملهُ على ظهره، يُعذبُ بحمله ويُفضح، و{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، والمتكبرونَ يُحشرونَ أمثالَ الذر في صور الرجالِ تطؤهم الخلائق بأقدامها, ويغشاهم الذُّلُ من كلِّ مكان، والمجرمونَ يُحشرونَ زُرق العيونِ, وجوهُهُم مُسودة،{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ}، وفي الصحيحين:"ولا يزالُ الرجلُ يسألُ الناسَ حتى يأتي يوم القيامةِ وليس في وجهه مُزعةُ لحمٍ"، "ومَن كانَت لَهُ امرأتانِ فمالَ إلى إحداهما جاءَ يومَ القيامةِ وشِقُّهُ مائِلٌ"، "ومَنْ سُئِلَ عِلْمًا فكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ"، حديثانِ صحيحان، "وثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، "شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ"، وفي رواية:"الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ"، والروايتانِ في مُسلم، وفي صحيح البخاري: "إذَا جَمَعَ اللّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاء، فَقِيلَ: هَـذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ"... وفي صحيح مُسلم: قال : "ما مِن صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْها حَقَّها، إلَّا إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ صُفِّحَتْ له صَفائِحُ مِن نارٍ، فَأُحْمِيَ عليها في نارِ جَهَنَّمَ، فيُكْوَى بها جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظَهْرُهُ، كُلَّما بَرَدَتْ أُعِيدَتْ له، في يَومٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ، حتَّى يُقْضَى بيْنَ العِبادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ؛ إمَّا إلى الجَنَّةِ، وإمَّا إلى النَّارِ"... وفي صحيح البخاري: "مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ"... وفي البخاري ايضًا: "مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ؛ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ، وَلَنْ يَفْعَلَ، وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ، وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا وَلَيْسَ بِنَافِخٍ"... وفي صحيح مسلم: "النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا، تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ، وَدِرْعٌ مِنْ جَرَب"... وغيرها من صور العذابِ والنَّكالِ عياذًا بالله... اعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا * رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا * ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا * إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}...

أما المرحلةُ الثالثة: فسأذكرها في الخطبة الثانية بإذن الله...

هذا واستغفرُ اللهَ لي ولكم, إنهُ هو الغفور الرحيم...

الحمد لله وكفى, وصلاةً وسلامًا على عباده اللذين اصطفى...

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}...

أيها المؤمنون الكرام: المرحلةُ الثالثةُ من مراحل يومِ القيامة: مرحلةُ الانتظارِ الطويل... فبعدَ أن يأخذَ الناسُ أماكِنَهم، ويقفُ كُلُّ منهم في موضِعه المحدَّدِ بحسبَ عملهِ... وليس للإنسان يومَ القيامةِ إلا موضعَ قدميه، حتى يبدو للناظر من علوٍ, أنهُ ليس في أرضِ المحشرِ إلا رؤوسٌ فقط... ويُصِيبُ الكفارَ والعُصاةَ من الأهوالِ والشدائدِ مالا يُحتملُ، ولكنَّ اللهَ تعالى قضى أن لا موت، جاء في حديثٍ صحيح: قال : "تُعطى الشمسُ يومَ القيامةِ حرَّ عشرَ سنين ثم تُدنى من جماجم الناس"... وفي صحيح البخاري: قال : "يَعْرَقُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ حتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرْضِ سَبْعِينَ ذِراعًا، ويُلْجِمُهُمْ حتَّى يَبْلُغَ آذانَهُمْ"... وجاء في حديثٍ صحيح:"تدنو الشمسُ يومَ القيامةِ من الخلقِ، حتى تكونَ منهم كمقدارِ مَيلٍ، فيكونُ الناسُ على قدرِ أعمالهم في العَرقِ، فمنهم من يكونُ إلى كعبَيه، ومنهم من يكونُ إلى ركبتَيه، ومنهم من يكونُ إلى حِقْوَيه، ومنهم من يُلجِمهُ العرقُ إلجامًا"...

لا إله إلا اللهُ يا عباد الله: أرضٌ صلبةٌ تمنعُ العرقَ من التَّسرب، وأجسادٌ عاريةٌ مُتلاصِقة، وشمسٌ قريبةٌ قوية، وعرقٌ يبلغُ الآذان ويلجِمهم إلجامًا، ويخنقهم برائحته النتنة، ويجعلُهم يعانونَ آلامًا لا تُطاق، حتى أنهم من هول الأمرِ وشدَّةِ المعاناة، يصرخونّ قائلين:خذونا ولو إلى النار، فلا يجابون... ولقد وصفَ الله تعالى هذا اليومَ العظيم في كتابه فقال:{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}،{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}، وسماه:{يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا}، وسماه:{يَوْمًا ثَقِيلًا}، و{يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، هذا اليومُ سيطولُ على الكفَّار والعُصاةِ طولًا بعيدًا... وقد أبصروا الحقيقة، فتطولُ حسراتهم، ويشتدُّ ندمُهم، ويعظُمُ ألمهم،تأمَّل:{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}،{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا}،{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}... ومن شدَّةِ الأمرِ وهولِهِ،ينشغلُ كلٌ منهم بنفسه، وينسى غيرهُ، فلا يلتفتُ إلى قريبٍ ولا إلى حبيب،{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}،{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}... فها قد ظهرت الحقيقةُ يا عباد الله: الحقيقةُ التي طالما كذَّبَ بها المجرمون،{هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}،{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ}... ومن أكرمهُ اللهُ بالتفكرُ في هذا الموقف الرهيبِ المهول، وذلك اليومِ الثقيل الطويل، البالغِ خمسين ألفَ سنة، وتلك الشمسُ القريبةُ الحارقةُ, التي لا تغادرهم ولا ترتفعُ عنهم، والناسُ تحتها يسبحونَ في عرقهِم النتن، ويعانونَ من الآلام والنَّكال مالا يُحتمَلُ ولا يُطاق... من يتفكرُ في كلِّ هذا ألا يحقُّ لهُ أن يتساءل؟... كم سيدفعُ الكفَّارُ ثمنًا لفِكاكِهم من هذا الكربِ العظيم، وكم سيدفعُ العُصاةُ ثمنًا لاستنكافِهم عن طاعة الله، وكم سيدفعُ من فرَّطَ واضاعَ الصَلاة، وكم سيدفعُ من وضعَ كتابَ اللهِ وراءهُ ظِهريًا واتبعَ هواهُ... لا إله إلا الله:{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}... فهذا يا عباد الله هو يومُ الصَّاخَّةِ والحاقَّةِ والقارعةِ والطَّامَّةِ الكبرى... {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى}،{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}...

اخوتي الكرام: وبقي معنا في هذا اليومِ الطويلِ مراحلُ كثيرة، نتحدثُ عنها في حلقاتٍ قادمةٍ بإذن اللهِ...

فاتقوا الله عباد الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}... {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}...

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين... ودمر أعداءك أعداء الدين...

سبحان ربك ربِّ العزة عما يصفون.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply