بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عُرِفَ جوردانو برونو (1600) أساسًا باقترانه بحادثة إحراقه حيًّا على يد محاكم التفتيش من قبل الكنيسة الكاثوليكية لاتهامه بالهرطقة، وارتبط اسمه في كتب تاريخ الفلسفة والإصلاح بتأييده لنظرية كوبرنيكوس عن دوران الأرض، وصار من أشهر الأمثلة على شهداء العلم في العصور العقلانية التالية.
لكن كثيرًا من الذين يعرفونه بشهرته تلك، لا يعرفون أنه كان راهبًا كاثوليكيًا، تابعًا لتنظيم جماعة الدومينيكان، وهو أشرس تنظيم كنسي كان يشرف على إدارة محاكم التفتيش، ويتميز أفراده بمعرفة عميقة بالجدل وعلم الكلام المسيحي والفلسفة، وكان أشهرهم: توماس الأكويني.
لكن الراهب الكاثوليكي جوردانو برونو من خلال معايشته الواقعية لحياة الرهبنة تلك ومع ذلك التنظيم على وجه الخصوص، لاحظ جملة من الأمور التي تأنف عنها النفس السوية الطيبة، من الخبث والمكر، وإرادة الشر بالناس، وممارسة الحيل للإيقاع بهم، وهذا ما جعله يصف تنظيمه بـ: "كلاب الصيد الإلهي"!
وقال جوردانو برونو في وصف الرهبنة الكاثوليكية التي عاشها وخبر حقيقتها كواحد منها: "كل من يذكر الرهبنة يتخاطر في ذهنه فورًا: الخرافات والبخل المتجسد بالجشع، وكل ما يخطر في البال من النقائض والرذائل، وإذا أردتَ إجمال هذه الصفات جميعها بكلمة واحدة، فقل: (راهب) وكفى".
وقال جوردانو برونو خصوصًا عن تنظيمه الدومينيكاني: "إنه ذلك الصنف من البهائم الذي يكشر عن أنيابه على الدوام دون أن يفهم لماذا؟ ومن السهل التعرف إليها؛ لأن هذه الكلاب الحقيرة تلاحظ من مظهرها الخارجي، فهي تعوي بشكل لئيم وشرس على كل شخص لا تعرفه، رغم أنهم قد يكونوا من الناس الطيبين".
بدأ جوردانو برونو يشك في جملة من أصول الاعتقاد المسيحي، كالتثليث وكيف يكون ثلاثة واحد!، وشك فيما يتعلق بالتجسد، وقداسة مريم، وأبدى سخطه من الرهبنة وكبت الرغبة الجنسية الغريزية، وظهر قلق كبار رجال الدين من أساتذته الذين بدأوا يلاحظون أسئلته وشكوكه حول العقائد المحورية للمسيحية.
ولما أدرك جوردانو برونو أنه في خطر، هرب متخفيًا إلى الديار التي يوجد بها البروتستانت (الكلفينية)، واشتغل هناك بالكتب وإصلاحها، لكنه في أحد الأيام استمتع لمحاضرة قسيس إصلاحي فاستهجنها وانتقدها، فقدم للمحاكم البروتستانتية، واكتشف أنهم لا يقلون عنفًا وتعصبًا عن الكاثوليك، فهرب منهم!
تفرغ بعدها جوردانو برونو للتعمق في الفلسفة، وأخذ ينتقد فلسفة أرسطو ويكتب ضدها، فاثار غضب الفلاسفة الذين يتعصبون لأرسطو، وكذلك أثار غضب مدارس الكلام المسيحية، خصوصًا تيار التوماوية الفلسفي-الكلامي، الذي كان تجمع ما بين تعظيم فلسفة أرسطو وبين علم الجدل المسيحي، مما اضطره إلى الهرب.
كَثَّفَ جوردانو برونو نقده لفلسفة أرسطو بصورة منظمة، وهدد صرحه الفلسفي بين المعجبين به، ومال جوردانو برونو إلى آراء أبيقور، ووقف قبل ذلك على مصادر عديدة بالعربية والعبرية في مكتبات عامرة، لم يقبل كل آراء كوبرنيكوس، حيث رفض فكرة مركزية الشمس، وقال بنسبية المركزية في الكون.
فالشمس ليست إلا مركزًا لجموعتنا فقط، وهناك شموس لا نهائية، وأن الأرض مثل القمر تعكس الضوء، وأن هناك مخلوقات في كواكب أخرى مثل الأرض. واستمر بالإضافة إلى ذلك في انتقاد الأسس الأرسطية للكنيسة الكاثوليكية، ممهدًا لمن بعده النقد الفلسفي والديني. ولذا أرسل البابا خلفه الجواسيس لصيده!
وتم استدراج برونو بذكاء إلى أحد النبلاء الكاثوليك بحجة التعليم والتدريس، فقبضت عليه محاكم التفتيش وقامت بسجنه. حقق معه طويلاً، ولبث في السجن سنوات، وفي نهاية المطاف حكم عليه بالإعدام، ونزعت رتبه الكنسية، وأمر بحرق جميع كتبه. وظل حكم تحريم قراءة كتابه حتى عام 1948م.
يقول جوردانو برونو مخاطبًا البابا بعد أن حكم عليه بالإعدام حرقًا:"لعل خوفكم من إصدار الحكم عليَّ أشد من خوفي أنا عند استقبالي الحكم".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد