بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا الله عباد الله، فالوقتُ يمرّ مرَّ السحاب، والعُمُر محسوب، والعمَل مسجلٌ مكتوب، علاج الذنوب أن نستغفر ونتوب، والعاقبةُ للتقوى،{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ويقول الحق جلَّ وعلا:{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون}...
معاشر المؤمنين الكرام: الأدب الرفيع والخُلُق الحسن والتعامل الراقي هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة بين جميع الناس، يفهَمُها كلُّ أحد، ويقدرها كل شخص، وينجذِبُ إليها كل كريم...ألا وإنَّ من علامات الإيمان ومن دلائل السعادةِ والتوفيق: أن يُرزَقَ العبدُ ذوقًا راقِيًا، وأدبًا عاليًا،وخُلقًا مُهذبًا، يحترِمُ مشاعر الناس، ويقدرُ الآخرين من الأقرَبين والأبعَدين، وهذا الأمر على يسره وسهولته وعظم أجره ومنزلته، وجميل أثره وعاقبته، إلا أنَّ القليل من الناس من يفعله، والأقلُ من يجاهد نفسه ليتحلى به...{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}...كيف يا عباد الله والدين كله هو الخلق، وفي الحديث الصحيح:"أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا"... بل لقد تظافرت نصوص الوحيين على ذلك، فحثّت وحضّت ورغّبت ففي التحلي بمحاسن الأخلاق، وحذّرت ونفّرت، ورهّبت من مساوئ الأخلاق، بل لقد حصر الرسول ﷺ مهمته العظيمة في تحسين الأخلاق، فقال ﷺ:"إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق"، وحين أثنى الله على رسوله بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، أكدها بخمس مؤكدات: الواو وإنَّ واللام والكاف والتعظيم... ولما وسئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه ﷺ قالت: كان خلقهُ القرآن... ولما أنزل الله جلّ وعلا على رسوله قوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، سأل ﷺ جبريلَ عن معناها قال:لا أدري حتى أسأل، ثم قال: إن الله يأمرك أن تصلَ من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك... ولقد أخبر ﷺ أنَّ البرّ هو حُسن الخلق، وقال ﷺ:"ما مِن شَيءٍ أثقلُ في ميزانِ المؤمِنِ يومَ القيامةِ من حُسنِ الخُلُقِ، وإنَّ اللهَ يُبغِضُ الفاحِشَ البَذيءَ"، والحديث صححهُ الألباني، وفي الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: "إن المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِهِ درجةَ قائمِ الليلِ، وصائمِ النهارِ"، وقال ﷺ:"أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنَّةِ لمن ترك المراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتٍ في وسطِ الجنةِ لمن ترك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنّةِ لمن حَسُنَ خُلُقُه"، والحديث حسنه الألباني... وقال ﷺ: "ألا أُخبِرُكم بأحبِّكم إليَّ وأقربِكم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ؟ قالها ثلاثَ مرَّاتٍ، قُلْنا: بلى يا رسولَ اللهِ قال: (أحسَنُكم أخلاقًا)"... وفي رواية صحيحة: "ألا أخبرُكم بخيارِكُم؟ قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ، قال: أطوَلُكم أعمارًا، وأحسَنُكُم أخلاقًا"... والحديث عن الأخلاق لا يكتمل إلا بالحديث عن صاحب الخلق العظيم، وأكملُ الناسِ خلقًا، فقد كان صلوات ربي وسلامه عليه أحسنَ الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، وكان عليه الصلاة والسلام: دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب، كثير التبسم، وكان ﷺ هينًا لينًا متواضعًا يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويجلسُ على الأرضِ، ويجالس المساكين، ويأكل مع الفقراء، ويمشي مع الأرملة واليتيم، ويجيبُ دعوةَ الخادمِ، وينامُ على الحصيرِ حتى يؤثر في جنبه، وكان من دعائه: اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين... وكان يقول عليه الصلاة والسلام:"خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي"... هذا هو الرسول القائد، الآمر الناهي، الذي عُرج به إلى السماء، وتنزّلَ عليه الوحي، ومع كل هذه الألقاب والمناصبِ والمسؤوليات والوظائف، يأتي إليه أعرابيٌ فيجذبه جذبة شديدة، وكان ﷺ عليه لباسٌ متين، حتى أثرت الجذبة في صفحة عاتق الرسول ﷺ، ثم يقول الأعرابي بكل غلظةٍ وجفاء: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فيلتفت إليه ويضحك، "ثم يأمر له بعطاء"، والحديث في البخاري... هذه واللهِ هي العظمةُ البشرية في أسمى معانيها، هذه مدرسة محمد ﷺ، فتعلموا يا طلاب الجنة... ثم تأمّل سيرته ﷺ حين دخلَ مكةَ فاتحًا مُنتصرًا عزيزًا مؤيدًا على أولئك الذين طردوه وآذوه وحاصروه، حتى أكل مع أصحابه ورق الشجر فما رحموه، ووضعوا سلا الجزور فوق ظهره وهو ساجد لله، فلما دخلَ مكة دخلها وهو مُطأطئٌ رأسهُ مُتذللًا لله، مُتواضعًا لعباد الله، قائلًا لأولئك: "ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟" قالوا:أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال:"اذهبوا فأنتم الطلقاء"... مرةً أخرى إنها مدرسةُ محمد بن عبدالله... بأبي هو أمي ﷺ... ومع كل ما كان يحمله على كاهله ﷺ من هموم ومسؤوليات الأمة، وتبليغِ الرسالة، وأعباءِ القيادة، وهمومِ الفقراء وتربصِ الأعداء،ومع كونه أبٌا وزوجًا لعدة نساء، وإمامًا وقاضيًا ومفتيًا ومُعلمًا وقائدًا وحاكمًا عامًا، ومع ذلك كله يقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: ما رأيت أحدًا أكثرَ تبسمًا من رسول الله ﷺ... وكان ﷺ يمازح أصحابه ويخالطهم، ويداعب صبيانهم ويلاعبهم، ويجيب دعوة الحرِّ والعبدِ والأمةِ والمسكين، ويعودُ المرضى في أقصى المدينة، ويقبَلُ عذرَ المعتذر... ولكم كان في قلبه ﷺ من الرأفة والرحمة، وفي خلقهِ من الإيناس والبر والملاطفة، وفي طبعه من السهولة والرفق واللين، وفي يده من السخاوة والكرم والندى... يقول أنس رضي الله عنه:"إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله ﷺ فتنطلق به حيث شاءت"، رواه البخاري... وكان يبدأُ من لقِيَهُ بالسلام، ويبدأ أصحابَهُ بالمُصافحَة، ولا ينزِعُ يدَهُ حتى يكون الرجلُ هو الذي ينزِعُ، ولا يصرِفُ وجهَهُ حتى يكون الرجلُ هو الذي يصرِفُ وجهَه."ولم يُرَ مُقدِّمًا رُكبتَهُ بين يدَي جليسِه"... فما هو نصيبنا أيها الكرام من هذه الأخلاق الراقية؟! وما الذي تعلمناهُ من هذه المدرسة المحمدية السامية؟! أين موقعنا من هذه الخلال الحميدةِ والخصالِ الفريدة؟!. ووالله إنه لا صلاح لحالنا وحال أمتنا، إلاّ أن ننهلَ من معين أخلاقهِ الصافية، ونصعد إلى مستوياتها العالية... وصدق الله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}...
الحمدُ للهِ تمَّ نورُك فهديتَ، وعَظمَ حلمُك فعفوتَ، وبسطتَ يدَكَ فأعطيتَ... اللهم فلك الحمد كما ينبغي لجلالك......
اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين،{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ}...
معاشر المؤمنين الكرام: الذَّوقُ الراقي والأدب الجميل: مسلكٌ لطيفٌ، وفعلٌ حميدٌ، يجسِّدُ حُسن التربية، وكمالَ الخلق، وروعةُ التصرُّف... والناسُ تُحبُّ ليِّنَ الجانِب، مُنبسطَ الوجه، والقلوبُ بطبعها تميل لمن تواضَعَ لها، فالمقابلة بالوجه الجميل، والمُصافحةُ بالكفِّ النبيل، والتحدُّثُ باللسان الفضيل، يفتحُ القلوب ويُمهِّدُ السبيل... والأدبُ زادكم الله من فضله وسيلةٌ إلى كل فضيلةٍ... فما أجمل أن يسيرَ المرءُ بين الناس وعطرُ أخلاقهِ يفوحُ منه... فالمرء بفضيلته لا بفصيلته، وبكماله لا بجماله، وبآدابه لا بثيابه... ومن قعَدَ به أدَبُه... لم يرفعه حسَبُه... وشرُّ الناسِ من تركَه الناسُ اتِّقاء فُحشِه... وفي محكم التنزيل:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}... وحاول يا عبد الله أن تدخل السرور إلى قلب كل من تقابله، واعلم أنها من أحبَّ الاعمال إلى الله... وأنَّ من تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم أكرموه...واعلم أنَّ البشاشةُ مصيدةُ المودة، وأنَّ البرَّ شيءٌ هينٌ... وجهٌ طليقٌ وكلامٌ لين..{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}... والجزاُء من جنس العمل، فمن سترَ مسلمًا ستره الله، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبرَ وضعه، ومن أحسنَ إلى عباد اللهِ أحسنَ اللهُ إليه، ومن تجاوزَ عن غيره تجاوزَ اللهُ عنه، والراحمون يرحمهم الرحمن... وازرع جميلًا ولو في غير موضعهِ... فلن يضيعَ جميلٌ أينما وضعا... إنَّ الجميلَ وإن طالَ الزمانُ به... فليسَ يحصدهُ إلا ألذي زرعا... وفي محكم التزيل:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}... والعقلاءُ يعلمونَ أنَ كسبَ القلوبِ مُقدمٌ على كسب المواقف، وأنَّ الجوابَ الرقيق يُطفئ الغضب، وأنَّ الصوتَ الهادئ أقوى من الصُّراخ... وإنَّ الذوقَ يهزمُ الوقاحةَ... ومن أراد أن يكونَ ذا ذوقٍ مرتفع، فليتذوق كلامهُ قبلَ أن يُخرجهُ من فمه، فإن وجدَ كلمةً مُرةً، فليستبدلها بأخرى حلوة، فإنما هي كلمةٌ مكان كلمة،{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}... وإذا أردتم ميزانَ عدلٍ لا يحيف، ومنهجَ إنصافٍ بلا تطفيف... فأحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّون لأنفسكم، واكرهوا لهم ما تكرهون لأنفسكم، وأحسِنوا لغيركم كما تُحبُّون أن يُحسَنَ إليكم، ولا تقولوا لغيركم ما لا تُحبُّون أن يُقال لك، وافعلوا الخيرَ مع أهلهِ ومع غير أهلهِ؛ فإن لم يكونوا من أهله، فكونوا أنتم من أهلِه، ففي الحديث:"لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبهُ لنفسه"... ألا فلنتق اللهَ في أنفسنا يا عباد الله، ولنَّسمُ بأخلاقنا، ولنلتزم بآداب ديننا، ولنحترم حقوقَ غيرنا، ولنراعي مشاعرَ بعضنا، ولنحرص على البر والتقوى، وليكن لنا من محاسن الأخلاقِ ما يجعلنا على مستوى المسؤولية في كل أحوالنا، وجميع أوقاتنا... اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرف عنّا سيئَها لا يصرف سيئَها إلاّ أنت....
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد