بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
طوبى لمن وفقه الله فداوم على الصيام، وكان صيامه صيام جوارح عن الذنوب والعصيان، فحظي برضا الرحمن، وفاز بالجنان، والعتق من النيران.
للسلف أقوال كثيرة في الصيام، يسّر الله الكريم فاخترت بعضًا منها، أسأل الله الكريم أن ينفع بها الجميع.
· معاني في صوم شعبان أكثر من غيره:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: في صوم شعبان أكثر من غيره ثلاث معان:
أحدها: أنه كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما شغل عن الصيام أشهرًا، فجمع ذلك في شعبان، ليدركه قبل الفرض.
الثاني: أنه فعل ذلك تعظيمًا لرمضان، وهذا الصوم يشبه سنة فرض الصلاة قبلها تعظيمًا لحقها. الثالث: أنه شهر تُرفع فيه الأعمال، فأحبَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم.
· العابد من يكون صاحب صيام:
• قال ثابت البناني رحمه الله: لا يسمى عابد أبدًا عابد، وإن كان فيه كل خصلة خير، حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم، والصلاة.
· الصوم يعين على طلب الحديث:
• عن إبراهيم عن إسماعيل رحمه الله قال: كان أصحابنا يستعينون على طلب الحديث بالصوم.
· السائحون هم الصائمون:
• قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما:﴿السائحون﴾ هم الصائمون.
• عن عائشة رضي الله عنها قالت: سياحة هذه الأمة الصيام.
• قال سفيان بن عيينة: إنما سُمي الصائم سائحًا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والمنكح.
• قال أبو عمر العبدي:﴿السائحون﴾ الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
• قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: وأما قوله:﴿السائحون﴾ فإنهم الصائمون.
• قال الإمام القرطبي رحمه الله: الصائم مستمر على الطاعة في ترك ما يتركه من الطعام وغيره، فهو بمنزلة السائح.
· الصوم المشروع:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الصائم هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعًا صالحًا، وكذلك أعماله. فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته له، وأُمِن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم، هذا هو الصوم المشروع، لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب.
فالصوم هو صوم الجوارح عن الآثام، وصوم البطن عن الشراب والطعام، فكما أن الطعام والشراب يقطعه ويفسده، فكذلك الآثام تقطع ثوابه وتفسد ثمرته، فتُصيره بمنزلة من لم يصُم.
· الصوم ومن أكبر العون على كسر الشهوة:
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: الشهوة... أن ينظر إلى مادة قوتها، وهي الأغذية الطيبة المحركة للشهوة، فلا بد من قطعها بالصوم، مع الاقتصاد عند الإفطار على طعام قليل.
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة، إما بنوعها وإما بكميتها وكثرتها، فليحسم هذه المادة بتقليلها، فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم، فإنه بُضيق مجاري الشهوة ويكسر حدتها، ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلًا.
وقال رحمه الله: الصوم ناهيك به من عبادة تكُفُّ النفس عن شهواتها، وتخرجها عن شبه البهائم إلى شبه الملائكة المقربين،... وأي حسن يزيدُ على حسن هذه العبادة التي تكسرُ الشهوة، وتقمعُ النفس... وتزهدُ في الدنيا وشهواتها، وترغبُ فيما عند الله.
• قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: ليس المقصود من شرعية الصوم نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة.
• قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة.
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: ومن حِكَمِ الصيام: كسر حِدَّة النفس، لأن النفس إذا كمَل لها نعيمُها، من أكل وشرب ونكاح، حملها ذلك على الأشَر والبَطَر ونسيان الآخر، وأصبح الإنسان كالبهيمة ليس له همٌّ إلا بطنه وفرْجه فإذا كبَح جماحَ نفسه وعوَّدها على تَحمُّل المشاقِّ وتحمُّل الجوع وتحمُّل الظمأ وتحمُّل اجتناب النكاح صار في هذا تربية عظيمة.
· الصوم من أكبر أسباب التقوى:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها، ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى، كما قال الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].
وقال رحمه الله: وبالجملة فعون الصوم على تقوى الله أمر مشهور، فما استعان أحد على تقوى الله وحفظ حدوده واجتناب محارمه بمثل الصوم.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى... أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه باطلاع الله عليه.
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: الله لم يُشرَعِ الصيام إلا لحِكَمٍ عظيمة، أهمُّها وأجلُّها وأعظمُها: التقوى: تقوى الله عز وجل؛ لقول الله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183]، هذه هي الحكمة من أجل تقوى الله عز وجل، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للصائم:"إذا سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقُلْ: إنِّي صائمٌ"؛ أي: لا يسبُّه ويرُدُّ عليه بالمثْل، وليَقُل: إني امرؤ صائم، والصائم لا يسبُّ ولا يشتُمُ ولا يَصخَبُ، بل عنده الطمأنينة والوقار والسكينة، وتجنُّب المحرمات والأقوال البذيئة؛ لأن الصوم جُنَّة يتَّقي به الإنسانُ محارمَ الله، ويتقي به النارَ يوم القيامة، وهذه أعظمُ حِكَم.
· تعويد الصغار على الصيام إذا أطاقوا:
• عن هشام عن أبيه قال: كان يعلّم بنيه الصلاة إذا عقلوا، والصوم إذا أطاقوا.
· الصيام دليل على صحة الإيمان:
• قال الحافظ ابن رجب: إذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطلع عليه إلا الله، كان ذلك دليلًا على صحة الإيمان، فإن الصائم يعلم أن له ربًا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهوته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره واجتنب نهيه خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه، فشكر الله تعالى له ذلك واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله.
· الصوم يذهب وغر الصدر:
• عن الحارث رحمه الله قال: صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن بلابل الصدر. قال أبو إسحاق ومجاهد رحمهما الله: يذهبن وغر الصدر، قيل: وما وغر الصدر؟ قال: غشه.
· الصوم جنة من النار:
• قال الإمام ابن العربي رحمه الله: إنما كان الصوم جنة من النار لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوظة بالشهوات. فالحاصل أنه إذا كف نفسه عن الشهوات في الدنيا كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة.
· في الصوم فرح للقلب:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الصوم... وفيه خاصية تقتضي إيثاره، وهي تفريحه للقلب عاجلًا وآجلًا. وقال رحمه الله: الصوم... أي حسن يزيدُ على حسن هذه العبادة التي تحيي القلب وتفرحُه.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: الصوم، وبقية الأعمال،... فيها فرحًا للقلب.
· الصوم زكاة البدن يطهره من الأخلاق الرديئة:
• قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: الصوم زكاة البدن، أي: يزكيه ويطهره وينقيه من الأخلاط الرديئة طبعًا وشرعًا.
· في الصوم رياضة للبدن والنفس:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وفي الصوم الشرعي من أسباب حفظ الصحة ورياضة البدن والنفس.... الصوم... له تأثير عجيب في حفظ الصحة، وإذابة الفضلات، وحبس النفس عن تناول مؤذياتها، ولا سيما إذا كان باعتدال وقصد في أفضل أوقاته شرعًا، وحاجة البدن إليه طبعًا.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها، كالجهاد... والصوم، وبقية الأعمال،... فإنها وإن كان المقصود الأعظم منها نيل رضى الله، وقربه، وثوابه... فإن فيها صحة للأبدان، وتمرينًا لها، ورياضة، وراحة للنفس... وأسرار خاصة تحفظ الصحة، وتنميها، وتزيل عنها المؤذيات.
· في الصوم تمرين للنفس على قوة العزيمة والصبر والإخلاص:
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: الصوم نصف الصبر.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: في الصوم من تمرين النفوس على ترك محبوبها الذي ألفته، حُبًا لله، وتقربًا، وتعويد النفوس وتمرينها على قوة العزيمة والصبر.
وفيه تقوية داعي الإخلاص، وتحقيق محبته على محبة النفس.
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: من حِكَمِ الصيام: تعويد الإنسان على تحمُّل المشقَّات والتعب؛ لأن التَّرَف والنعيم وتيسُّر الأكل والشرب، لن يدوم؛ فيُعوِّد الإنسانُ نفسَه على تحمُّل المشاقِّ.
· الصوم من أسباب علاج الفتور الذي يعتري المؤمن:
• قال العلامة عبدالله بن حسن القعود: من الأمراض التي قد تعترى أحدنا بينما هو شعلة متحرك وإذا هو بدأ يتغير... علاج مثل هذه الأشياء: أن يتعاهد الإنسان نفسه بالقرآن، يقرأ القرآن يتعاهد نفسه بالسنة، يتعاهد نفسه بالأعمال الصالحة، يكثر من نوافل العبادة مع نفسه، يقوم الليل بينه وبين ربه، ويسأل الله أن يشد من أزره، يصوم ما تيسر.
· تلبيس إبليس على بعض الصائمين:
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: وفرقة... اغتروا بالصوم، وربما صاموا الدهر، وهم فيها لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة، وبطونهم عن الحرام عند الإفطار، وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير، فيهمل الفرائض، ويطلب النفل، ثم لا يقوم بحقه، وذلك غاية الغرور.
• قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: منهم من يلازم الصوم ولا يبالي على ماذا أفطر، ولا يتحاشى في صومه عن غيبة ولا عن نظره ولا عن فضول كلمة، وقد خيَّل له إبليس أن صومك يدفعُ إثمك، وكل هذا من التلبيس.
· من علامات قبول الصيام:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: قد تكون هناك علامات لمن تقبل الله منهم من الحُجَّاج والصائمين والمتصدِّقين والمصلِّين، وهي انشراح الصدر، وسرور القلب، ونور الوجه، فإن للطاعات علامات تظهر على بدن صاحبها، بل هي ظاهره وباطنه أيضًا.
· تطهير الصيام:
• كان أبو هريرة وأصحابه إذا صاموا قعدوا في المسجد وقالوا: نطهر صيامنا.
· تأثير من يكثر من الصيام على غيره:
• قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: لقيت... ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول،... وكان كثير الصوم والصمت، فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
· من حكم الصيام معرفة نعمة الله عز وجل:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: ومن حِكَمِ الصيام أنَّ الإنسان يذكرُ به نعمة الله عز وجل بتيسير الأكل والشرب والنكاح لأن الإنسان لا يعرف الشيء إلا بضدِّه،
· كراهية إفراد يوم الجمعة بالصيام:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كان من هديه صلى الله عليه وسلم، كراهةُ تخصيص يوم الجمعة بالصوم فعلًا منه وقولًا.
· الصيام للوقاية من حرّ يوم النشور:
• قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: يا أيها الناس، إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق... صوموا الدنيا لحر يوم النشور.
· تذكر الصائم للمصابين بالجوع والعطش:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: ومن حكمة الله عز وجل في إيجاب الصيام أن يذكر إخوةً له مُصابين بالجوع والعطش وفَقْد النكاح فيرحمهم ويَحنو عليهم ويُعطيهم مما أعطاه الله عز وجل.
· أحسن مصنف في فوائد الصيام:
• قال العلامة العثيمين رحمه الله: للصيام فوائد تكلم عليها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من تكلم عليها الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه* اللطائف*.
فليجاهد المسلم نفسه في صيام ما تيسر له من أيام في كل شهر، فالصيام من أسباب الوقاية من النار، ومن سبقونا كانوا يصومون حتى في أيام الحر الشديد، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: حج الحجاج فنزل بين مكة والمدينة، ودعا بالغداء، وقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي... فنظر فإذا هو بأعرابي، فقال له: ائتِ الأمير.
فقال له الحجاج: تغدّ معي. فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته.
قال: من هو؟
قال: الله عز وجل دعاني إلى الصوم فصمت.
قال: في هذا الحر الشديد؟!
قال: نعم صمت ليوم هو أشد حرًا من هذا اليوم.
قال: فأفطر وتصوم غدًا.
قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غدٍ؟
قال: ليس ذلك إليَّ.
قال: فكيف تسألني عاجلًا بآجل لا تقدر عليه؟
لقد بكى بعض السلف عند موته على الصيام، فعبدالرحمن بن الأسود رحمه الله، بكى عند موته وقال: وأسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات.
وختامًا فطوبى لمن أكرم الله الكريم فمات وهو صائم، قال هشام بن عروة رحمه الله: كان أبي [عروة بن الزبير، رضي الله عنه] يسرد الصوم، ومات وهو صائم. وقال الإمام الذهبي رحمه الله: خالد بن معدان مات صائمًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد