شهر رمضان


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185)

{شَهْرُ رَمَضَانَ} الشهر التاسع من شهور السنة القمرية، المفتتحة بالمحرم؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم؛ لأن نهاية العام عندهم هي انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم. ورمضان مشتق من الرمضاء وهي شدة الحرارة. لأنه أول ما سميت الشهور بأسمائها صادف أنه في وقت الحر والرمضاء.

{الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}هذه آية فضله على غيره من سائر الشهور، حيث أنزل فيه القرآن في ليلة القدر جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل منجما على الحبيب محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكان ابتداء نزوله على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في رمضان أيضًا.

قال ابن عثيمين: روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في رمضان، وصار جبريل يأخذه من هذا البيت، فينزل به على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لكن هذا الأثر ضعيف؛ ولهذا الصحيح أن «أل» هنا للجنس؛ وليست للعموم؛ وأن معنى:{أنزل فيه القرآن} أي ابتدئ فيه إنزاله، كقوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان:3]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] أي ابتدأنا إنزاله.

{هُدًى لِّلنَّاسِ} أي القرآن هاديًا للناس إلى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدارين، والناس المراد بهم البشر؛ لأن بعضهم يأنس ببعض، أي كل الناس يهتدون به -المؤمن، والكافر- الهداية العلمية؛ أما الهداية العملية فإنه هدًى للمتقين فقط، كما في أول السورة؛ فهو للمتقين هداية علمية، وعملية؛ وللناس عمومًا فهو هداية علمية.

{وَبَيِّنَاتٍ} آيات بينات، كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]؛ والمعنى: أن القرآن اشتمل على الآيات البينات أي الواضحات؛ فهو جامع بين الهداية، والبراهين الدالة على صدق ما جاء فيه من الأخبار، وعلى عدل ما جاء فيه من الأحكام.

{مِّنَ الْهُدَى} صفة لبينات، والهدى الإرشاد، يعني أنها بينات من الدلالة والإرشاد

{وَالْفُرْقَانِ} يفرق بين الحق والباطل؛ وبين الخير والشر؛ وبين النافع والضار؛ وبين حزب الله وحرب الله؛ فرقان في كل شيء؛ ولهذا من وفق لهداية القرآن يجد الفرق العظيم في الأمور المشتبهة؛ وأما من في قلبه زيغ فتشتبه عليه الأمور؛ فلا يفرق بين الأشياء المفترقة الواضحة.

قال ابن عاشور: والمراد بالهدى الأول: ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العادة، وبالبينات من الهدى: ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية. والفرقان -مصدر فرق- وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام، فالمراد بالهدى الأول: ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني، فلا تكرار.

قال أهل العلم: والذنوب في هذا الشهر مضاعفة، والسبب: أن الاصطفاء والاختصاص موجب لمضاعفة الحسنات، ومضاعفة السيئات، سواء كان الاختصاص في: الأشخاص، أو الأمكنة، أو الأزمنة:

فالله تعالى اصطفى واجتبى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وكان هذا الاختصاص سببا في مضاعفة حسناته، ونيله أجور من عمل بهديه، لا ينقص من أجورهم شيئا، حتى صار أعلى الناس درجة، كذلك أخبره الله تعالى أن ما يكون منه من خطأ فعقوبته مضاعفة، وحاشاه ذلك، لكن هذا بيان شرعي لأحكام أهل الاجتباء والاختصاص، قال تعالى:{وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذًا لاتخذوك خليلا ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا* إذًا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا}، أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات.

ومثل هذا ما جاء من خطاب في حق أمهات المؤمنين زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى:{يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا * ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما}.

فهن قد اصطفاهن الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، فلهن من الحظ والنعمة ما ليس لغيرهن، في الإيمان والدرجة والعيش في بيت النبوة، فلا يليق بهن العصيان، كما ثواب طاعتهن مضاعف.

والحكم نفسه ينطبق على الأمكنة المختصة بالشرف والحرمة مثل مكة، فالأعمال فيها أعظم من غيرها، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وكذا الذنب هو فيها مضاعف، قال تعالى:{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}.

والحكم نفسه يعمل به في الأزمنة المشرفة المحرمة، كشهر رمضان، ودليل حرمته النصوص الدالة على عظمته، وبيان عظم الثواب فيه، ورحمة الله عباده فيه، وفتح أبواب الجنة، وغلق أبواب النيران، وتصفيد الشياطين، واختصاصه بليلة هي خير ألف شهر، فالحسنات فيه إذن مضاعفة، وإذا ثبتت مضاعفة الحسنات، فذلك دليل على مضاعفة السيئات أو تعظيمها، لما سبق من أن التضعيف في حال الاختصاص والاجتباء يكون في الحسنات، ويكون في السيئات.

ثم إنه مع ذلك: قد نص الدليل على عظم الذنب في رمضان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما معلقين بعراقيبهم، مشققة أشداقهم، تسيل دماؤهم، فسأل عنهم؟ فقيل له: (الذين يفطرون قبل تحلة صومهم) [ابن خزيمة، صحيح الترغيب 1/420]

وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي وقع على امرأته نهار رمضان بأعظم الكفارات، وهي كفارة القتل والظهار: عتق رقبة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا، وغلظ الكفارة من غلظ الذنب، وقد استوجبها لما واقع حليلته (زوجته) في نهار رمضان، في الوقت المحرم، فدل هذا على أن الذنب في رمضان ليس كغيره، وإذا كان هذا التشديد والوعيد والعقوبة في حق من انتهك الشهر مع حليلته، فكيف بمن انتهكه مع حليلة جاره أو مع أجنبية لا تحل له؟.

{فَمَن شَهِدَ} حضر، وليس شهد بمعنى رأى؛ لا يقال:{شَهِدَ} بمعنى رأى، وإنما يقال شاهد{مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فمن كان حاضرًا غير مسافر لما أعلن عن رؤية هلال رمضان، فليصمه على سبيل الوجوب إن كان مكلفًا.

{وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] إلخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها، فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وصار الصوم واجبا على التعيين، خيف أن يظن الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحصر والصحة لا غير.

فليست هذه الجملة من الآية تكرارًا محضًا؛ بل تكرار لفائدة؛ لأنه تعالى لو قال:{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ولم يقل:{ومن كان....} الآية، لكان ناسخًا عامًا.

{مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فعليه القضاء بعدد الأيام التي أفطرها مريضًا أو مسافرًا، ثم علل تعالى للقضاء بقوله :{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} ثم أكدها بقوله :{وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} بين به حكمة الرخصة، أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة

{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} وجب القضاء من أجل إكمال عدة الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين يومًا، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها.

{وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وذلك عند إتمام صيام رمضان ابتداء من رؤية هلال شوال إلى العودة من صلاة العيد، والتكبير مشروع وفيه أجر كبير، وصفته المشهورة: «الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد».

فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر، والمشهور في السنة أنه يكرر «الله أكبر» ثلاثا، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك والشافعي: إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال: لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عباس، وقال أحمد: هو واسع، وقال أبو حنيفة: لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.

وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء، فكان لقول المسلم: «الله أكبر» إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.

{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} على أمور أربعة؛ إرادة الله بنا اليسر؛ عدم إرادته العسر؛ إكمال العدة؛ التكبير على ما هدانا؛ هذه الأمور كلها نِعَم تحتاج منا أن نشكر الله عز وجل عليها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply