بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ{(152)
{وَلِكُلٍّ} أهل ملة كالإِسلام واليهودية والنصرانية{وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}متجه إليها.. أي: قبلة يستقبلون ويولون وجوههم لها في صلاتهم، الله تعالى موليها إياهم وشارعها ومكلفهم بها، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها، فقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس، وقبلتك الكعبة، وفي ذلك تنبيه على شكر الله، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك.
وليس المراد بهذه الجملة إقرار أهل الكفر على كفرهم؛ وإنما المراد -والله أعلم- تسلية المؤمنين، وتثبيتهم على ما هم عليه من الحق؛ لأن لكل أحد وجهة ولَّاه الله إياها حسب ما تقتضيه حكمته.
وقيل: لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق جهة وجانب من الكعبة يستقبلها ويوليها وجهه، كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها.
وقال ابن عاشور: بعد أن بين الله تعالى للمسلمين فضيلة قبلتهم، وأنهم على الحق، وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة، ذيل ذلك بهذا التذييل الجامع لمعان سامية، طيا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة.. والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق. وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق.
وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم، وفي معناه قوله تعالى:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}[البقرة:177] الآية، ولذلك أعقبه بقوله:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}وناسب هذا أن من جعل الله تعالى له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: "الاستباق في أمر الكعبة رغمًا لليهود بالمخالفة". والآية تدل على أن المنافسة تكون في مصادفة الحق، وأن تعجيل الطاعات عامة أفضل من تأخيرها.
{أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا}جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات، وتتضمن أيضا وعظًا وتحذيرًا وإظهارًا لقدرته{يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا}يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب، فأنتم لا تعجزونه، وافقتم أم خالفتم، ولذلك قال ابن عباس: "يعني يوم القيامة". وهو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح، أي: فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت.
{إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}أي لا يستبعد إتيان الله تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة، فإن قدرة الله تتعلق بالممكنات، وهذا منها.
وهذه الجملة المصدرة بإن تجيء دوما كالعلة لما قبلها، فكان المعنى: إتيان الله بكم جميعًا لقدرته على ذلك.
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}وفي أي مكان حللت في سفر{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ}جهة{الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}الذي فيه الكعبة، وصِف بالحرام لاحترامه وتعظيمه. حتى ما حوله صار محترمًا معظمًا؛ فالبلد كله آمن حتى الأشجار التي لا إحساس لها آمنة في هذا المكان.
وذكر خروج السفر لأنه مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه، فهو إعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تهاون في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر.
{وَإِنَّهُ}توليك شطر المسجد الحرام{لَلْحَقُّ}هو الشيء الثابت؛ لأنه محقوق ــــ أي مثبت؛ ومنه قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ}[يونس:96]{حقت}بمعنى ثبتت ووجبت{مِن رَّبِّكَ}زيادة اهتمام بامر القبلة، فاستقبال هذه القبلة ليس لمجرد أن نرضيك، بل هو الحق الثابت الذي لا يعرض له نسخ ولا تبديل.
{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو التحويل من جهة إلى جهة، وذلك هو محض التعبد. وفيه زيادة تحذير من التساهل في أمر القبلة.
فالجهات كلها بالنسبة إلى البارىء تعالى مستوية، فكونه خص باستقبال هذه زمانًا، ونسخ ذلك باستقبال جهة أخرى متأبدة، لا يظهر في ذلك في بادي الرأي إلا أنه تعبد محض.
فلم يبق في ذلك إلا امتثال ما أمر الله به، فأخبر تعالى أنه لا يغفل عن أعمالكم، بل هو المطلع عليها، المجازي بالثواب من امتثل أمره، وبالعقاب من خالفه.
ولما انتهى إلى ذكر الوعيد، ذكر لفظ{الله} المقتضي للعبادة التي من أخل بها استحق أليم العذاب.
ثم كرّر الحق تعالى الأمر بالتوجه إلى الكعبة{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}لأن قوله:{فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}[البقرة:144] ظاهره أنه أمر له باستقبال الكعبة وهو مقيم بالمدينة. فبين بهذا الأمر الثاني تساوي الحالين إقامة وسفرًا في أنه مأمور باستقبال البيت الحرام، ثم عطف عليه بقوله:{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ}وحيثما حللتم سفرا{فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}ليبين مساواتهم له في ذلك، أي في حالة السفر، والأولى في حالة الإقامة.
وظاهر هذه الجملة أنها كررت توكيدًا لما قبلها في الآية التي تليها فقط، لا أن ذلك توكيد للآية الأولى، لأنا قد بينا أن الأولى في الإقامة، والثانية في السفر، وأما الثالثة فهي في السفر، فهي تأكيد للثانية.
وحكمة هذا التأكيد تثبيت هذا الحكم، وتقرير نسخ استقبال بيت المقدس، لأن النسخ هو من مظان الفتنة والشبهة وتزيين الشيطان للطعن في تبديل قبلة بقبلة، إذ كان ذلك صعبًا عليهم، فأكد بذلك أمر النسخ وثبت. ولهذا المعنى رفع التكرير في القصص.
وقيل: لما كانت هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا، كررت للتأكيد والتقرير وإزالة الشبهة.
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبة مرتين. وتكرر أنه الحق ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات، والقصد من ذلك كله التنويه بشان استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرا للحق في نفوس المسلمين، وزيادة في الرد على المنكرين التأكيد.
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}أي احتجاج، والحجة هي: الدليل القوي الذي يظهر به صاحبه على من يخاصمه، فالحجة لا تطلق حقيقة إلا على البرهان والدليل الناهض المبكت للمخالف.
{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}إلا من ظلم منهم، باحتجاجه فيما قد وضح له، والمعنى: لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم ومخاصمتهم.
وإنما أطلق عليه حجة لمشابهته للحجة في سياقهم إياه مساق البرهان، كما تقول: ما لك عليّ حجة إلا أن تظلمني، أي ما لك حجة ألبتة، ولكنك تظلمني.
ولا يلزم من الاحتجاج قبوله، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ}[الشورى:16] أي باطلة.
وقد احتج على المسلمين بتحولهم في القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة: اليهود، والمشركون، والمنافقون؛ فالحجة التي احتج بها اليهود لها جهتان:
الأولى: أنهم قالوا: إن الرجل ترك ملتنا إلى ملة آبائه.
والجهة الثانية: أنه لو بقي على استقبال بيت المقدس لقالوا: ليس هذا هو النبي الذي جاء وصفه في التوراة.
وأما حجة المشركين فقالوا: إنه متبع هواه؛ فقد داهن اليهود أول أمره، ثم عاد، واستقبل الكعبة؛ وقالوا: "هذا الرجل خالفنا في عقيدتنا وخالفنا في ملتنا حين هاجر إلى المدينة، ثم رجع إلى قبلتنا؛ فسيرجع إلى ديننا".
وأما حجة المنافقين فقالوا: إن هذا الرجل لا يثبت على دينه؛ ولو كان نبيًا حقًا لثبت على دينه.
وهذه عادة أهل الباطل يموِّهون، ويقلبون الحق باطلًا؛ لأنهم يريدون غرضًا سيئًا؛ بل إن تحوله إلى استقبال الكعبة مع هذه الاعتراضات، والمضايقات دليل على أنه رسول الله حقًا فاعل ما يؤمر به.
{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}هذا فيه تحقير لشأنهم، وأمر باطراحهم، ومراعاة لأمره تعالى. ونهى عن خشيتهم فيما يزخرفونه من الكلام الباطل، فإنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر. وأمر بخشيته هو في ترك ما أمرهم به من التوجه إلى المسجد الحرام.
و«الخشية»، و«الخوف» متقاربان؛ إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن «الخشية» لا تكون إلا عن علم؛ لقوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر:28] بخلاف «الخوف»: فقد يخاف الإنسان من المخوف وهو لا يعلم عن حاله.
والفرق الثاني: أن «الخشية» تكون لعظم المخشيّ؛ و«الخوف» لضعف الخائف ــــ وإن كان المخوف ليس بعظيم، كما تقول مثلًا: الجبان يخاف من الجبان ــــ يخاف أن يكون شجاعًا.
{وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}«النعمة» هي ما ينعَم به الإنسان؛ ويقال: «نِعمة» بكسر النون؛ ويقال: «نَعمة» بالفتح؛ لكن الغالب في نِعمة الخير أن تكون بالكسر؛ و«النَّعمة» بالفتح: التنعم من غير شكر، كما قال تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}[الدخان:27]، وقال تعالى:{وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}[المزمل:11]
وإتمام النعمة بما هداهم إليه من القبلة، أو بما أعدّه لهم من ثواب الطاعة، أو بما حصل للعرب من الشرف بتحويل القبلة إلى الكعبة، أو بإبطال حجج المحتجين عليهم، أو بإدخالهم الجنة، أو بالموت على الإسلام، أو النعمة سنة الإسلام، والقرآن، ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والستر، والعافية، والغنى عن الناس؛ أو بشرائع الملة الحنيفية، أقوال ثمانية صدرت مصدر المثال، لا مصدر التعيين، وكل فيها نعمة.
والمراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافرا من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصا، فهو قريب من قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}[البقرة:124] أي امتثلهن امتثالا تاما، وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضا آخر، فمعنى الآية: ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال{وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}رجاء الهداية مطلقًا.
{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ}ولأتم نعمتي عليكم إتمامًا مثل إتمام إرسال الرسول فيكم، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا، وهي نعمة امتن الله بها، قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}[آل عمران:164]{يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}يطهركم من الذنوب والأخلاق السيئة والملكات الرديئة، وينمي أخلاقكم، ودينكم.
وأصل التزكية تطهير النفس، مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقه النفوس كمالات وطهارات تعترضها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، وفي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة.
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ}يعلمكم الشريعة، فالكتاب هنا هو القرآن باعتبار كونه كتاب تشريع لا باعتبار كونه معجزا{وَالْحِكْمَةَ}ويعلمكم أصول الفضائل، فالحكمة هي التعاليم المانعة من الوقوع في الخطأ والفساد.
وقدم هنا التزكية على التعليم، باعتبار القصد؛ لأنها القصد من الإرسال، وهي التطهير، وأخره في دعوة إبراهيم{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} [البقرة:129] باعتبار الفعل، لأن الإرسال والتعليم مقدم على التطهير.
{وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}وهو ذكر عام بعد خاص، لأنهم لم يكونوا يعلمون الكتاب ولا الحكمة.
وقيل: تعميم لكل ما كان غير شريعة ولا حكمة من معرفة أحوال الأمم من قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب، وأحوال سياسة الدول وأحوال الآخرة وغير ذلك.
والمعنى: أنكم كنتم على حالة لا تقرأون كتابًا، ولا تعرفون رسولًا، ومحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجل منكم، أتاكم بأعجب الآيات الدالة على صدقه.
وتشعر الآية بالامتنان بإنه لم يسبق أن يرسل ولا يبعث في العرب رسول غير نبينا محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولذلك أفرده فقال:{رسولًا منهم}ووصفه بأوصاف كلها معجز لهم، وهي كونه منهم، وتاليًا عليهم آيات الله، ومزكيًا لهم، ومعلمًا لهم الكتاب والحكمة وما لم يكونوا يعلمون.
وقدم كونه منهم، أي يعرفونه شخصًا ونسبًا ومولدًا ومنشًا، لأن معرفة ذات الشخص متقدمة على معرفة ما يصدر من أفعاله.
وأتى ثانيًا بصفة تلاوة الآيات إليه تعالى، لأنها هي المعجزة الدالة على صدقه، الباقية إلى الأبد.
وأتى ثالثًا بصفة التزكية، وهي التطهير من أنجاس الضلال، لأن ذلك ناشىء عن إظهار المعجز لمن أراد الله تعالى توفيقه وقبوله للحق.
وأتى رابعًا بصفة تعليم الكتاب والحكمة، لأن ذلك ناشىء عن تطهير الإنسان، باتباع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فيعلمه إذ ذاك ويفهمه ما انطوى عليه كتاب الله تعالى، وما اقتضته الحكمة الإلهية.
وأتى بهذه الصفات فعلًا مضارعًا ليدل بذلك على التجدد، لأن التلاوة والتزكية والتعليم تتجدد دائمًا. وأما الصفة الأولى، وهي كونه منهم، فليست بمتجددة، بل هو وصف ثابت له.
وكما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلًا{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}فاذكروني بالشكر، أذكركم برحمتي، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}[البقرة:198]
وكون الله يذكرك أعظم من كونك تذكره؛ ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي؛ ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)؛ وذكر الله يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح.. فالمدار على ذكر القلب؛ لقوله تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28]؛ وذكر الله باللسان، أو بالجوارح بدون ذكر القلب قاصر جدًا، كجسد بلا روح؛ وصفة الذكر بالقلب التفكر في آيات الله، ومحبته، وتعظيمه، والإنابة إليه، والخوف منه، والتوكل عليه، وما إلى ذلك من أعمال القلوب.
وأما ذكر الله باللسان فهو النطق بكل قول يقرب إلى الله؛ وأعلاه قول: «لا إله إلا الله»
وأما ذكر الله بالجوارح فبكل فعل يقرب إلى الله: كالقيام في الصلاة، والركوع، والسجود، والجهاد، والزكاة، كلها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعًا لله؛ وحينئذٍ تكون ذاكرًا لله بهذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}[العنكبوت: 45] أي أكبر من غيره من الطاعات.
{وَاشْكُرُواْ لِي}الشكر: إظهار النعمة بصرفها فيما من أجله وهبها الله تعالى لعباده.
{وَلاَ تَكْفُرُونِ}وهو من كفر النعمة، على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: "ولا تكفروا"، أو "ولا تكفروا بي".
وهو نهى عن الكفران للنعمة، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد