الاستماع إلى القرآن والتوبة من سماع الغناء


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

تبارك الذي أنزل القرآن شفاء وهدآية للمؤمنين، قال الله جل وعلا:﴿قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء[فصلت:44] فما من عبد مسلم يتلو القرآن الكريم، ويستمع إليه بتدبر، إلا كان لذلك تأثير نافع عليه، من زيادة في الإيمان، ورقة في القلب، وزكاة في النفس، وانشراح في الصدر، وقوة في البدن، فمن حُرم هذه المنافع، فالسبب هو عدم حضور القلب، فلو كان القلب حاضرًا، وطاهرًا من المعاصي القلبية لاستلذ بقراءة القرآن، والاستماع إليه، ولم يشبع منه.

والمسلم لا يقتصر على تلاوة القرآن، بل يستمع إليه من غيره، فأحيانًا يخشع الإنسان ويتأثر إذا سمع آيات القرآن من غيره أكثر مما لو قرأها بنفسه، فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرأ عليَّ القرآن" فقلتُ: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أُنزل، قال:"إني أشتهي أن أسمعه من غيري" فقرأت حتى إذا بلغت:﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا[النساء:41] فبكي.[متفق عليه] قال الإمام النووي رحمه الله: في الحديث... فوائد منها: استحباب استماع القراءة والإصغاء لها. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ، لاشتغاله بالقراءة وأحكامها. وقال العلامة العثيمين رحمه الله: الإنسان يحب أن يسمع القرآن من غيره، ولذلك تجده يخشع إذا سمع القراءة من غيره أكثر مما يخشع لو قرأها بنفسه.

ومن تدبر ما يسمع من آيات تأثر، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قرأ عليه عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه، قوله تعالى:﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا تأثر وبكى. وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يبكون عند قراءتهم أو استماعهم للقرآن، قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرئ عليهم القرآن، كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم.

إن للاستماع للقرآن الكريم تأثير على يعانون من التوتر والقلق وغيرها، يقول الدكتور مالك بدري: كان يوجد فتاة كانت تعاني من قلق عام،وإحساس بعدم الكفاءة واكتئاب،وبعض الأعراض الرهابية، وقد مكثت بالمستشفى عامًا كاملًا، ولم ينجح علاجها عن طريق العلاج الفردي أو الجماعي ولم تؤثر فيها المهدئات كثيرًا، وفي إحدى الجلسات بدأت أقرأ عليها آيات من كتاب الله التي تتحدث عن مغفرة الذنوب، وهي قوله تعالى:﴿وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران: 133 - 136] وعند الانتهاء من تلاوة الآيات، انفجرت الفتاة باكية، وكانت هذه بدآية تحسن، تبعها مزيد من العلاج السلوكي حتى تم شفاؤها.

وسماع القرآن بقلب حاضر يخفف التوتر، يذكر الدكتور محمود يوسف عبده، أن فريقًا طبيًّا قام بإجراء تجارب عملية في ولآية فلوريدا الأمريكية لمدى تأثير سماع القرآن الكريم، وقد ثبت من التجارب بنسبة 97% وجود أثر مهدئ مؤكد للقرآن ظهر في شكل تغيرات فسيولوجية، تدل على تخفيف درجة توتر الجهاز العصبي التلقائي.

والاستماع للقرآن الكريم يجعل القلوب تطمئن، والنفوس تهدأ، والإيمان يزيد، فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: إذا اجتمعوا واشتاقوا إلى حادٍ يحدُو بهم ليطيب لهم السيرُ، ومُحركٍ يحرك قلوبهم إلى محبوبهم، أمروا واحدًا منهم يقرأ والباقون يستمعون، فتطمئن قلوبهم، وتفيض عيونهم، ويجدون من حلاوة الإيمان أضعاف ما يجده السماعاتيه من حلاوة السماع.

وسماع القرآن لا يقتصر تأثيره على المسلمين، بل له أثره العظيم على أعداء الدين، قال قوام السنة الإمام الأصفهاني رحمه الله: كم من عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا إليه يريدون اغتياله، وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم، أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيمانًا.

والاستماع للقرآن الكريم أجره عظيم، سئل العلامة عبدالعزيز بن باز: إذا استمعت إلى القرآن الكريم من شريط أو من الإذاعة، فهل لي أجر؟ فأجاب الشيخ رحمه الله: نعم، إذا استمعت للقراءة؛ فأنت مأجور، داخل في قوله تعالى:﴿وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا [الأعراف:204]، فأنت على خير عظيم، والمستمع شريك للقارئ بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فنوصي جميع إخواننا المسلمين العنآية بسماع القرآن، بالاستماع له من القراء، ومن إذاعة القرآن.

إن من تلبيس الشيطان على بعض الناس أن يُزهده في استماع القرآن، ويُزين له سماع الموسيقا والغناء، وأن سماعها يجلب له السعادة ويطرد عنه الهموم والغموم، وما علم أنه لا يزداد بالاستماع إليها إلا مرضًا على مرضه، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الهم والحزن والغم، هذه المكروهات قد تنوع الناس في طرق أوديتها والخلاص منها، وتباينت طرقهم في ذلك تباينًا لا يحصيه إلا الله، بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يُخلصه منها، وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة، كمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها، وكمن يتداوى منها باللغو واللعب والغناء، وسماع الأصوات المُطربة، وغير ذلك، وكلهم قد أخطأ الطريق.

يقول أحد التائبين من سماع الغناء: كنت ألجأ مِثلَ الكثيرين إلى الغناء لأتناسى به همومَ الدنيا ومشاكلها، ولكنني في حقيقة الأمر لَم أزدَدْ إلا همًّا على هم، وغمًّا على غم؛ مضت الأيامُ، وتوالت الأشهرُ والسنوات، لتتوثَّق علاقتي بالقرآن - بفضل الله، عزَّ وجلَّ... فكان أن وجدتُ في كتاب الله جلَّ وعلا - وسنَّة رسولِه - صلوات الله وسلامه عليه - ما أغناني عن كلِّ غِناءٍ وكلِّ صخَبٍ، وما أراحني من الهمومِ والغموم والأحزان التي كانت تُلاحِقُني، فلا أستطيع منها فَكاكًا، وكما قال الله تعالى ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28] وشيئًا فشيئًا وجدتُني أقلِّلُ الاستماع إلى الأغاني، إلى أن تخلَّيْتُ عنها تمامًا في آخر الأمر، بل صرتُ أشمئزُّ من صوت المغني الذي صار يُشعِرُني بالضِّيق والغثيان، وكأنه يمزِّق أحشائي بصوته، فسبحانَ مغيِّر الأحوال! وقد صدَق القائل: اثنان لا يجتمعانِ في قلب مؤمنٍ: القرآن والغِناء،فمَن يستحسن الغناء يشمئز من القرآن، والعكس صحيحٌ.

والاستماع إلى الغناء والمعازف، يجعل سماع القرآن ثقيلًا، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ما اجتمع في قلب محبة الغناء ومحبة القرآن إلا وطردت إحداهما الأخرى، وقد شاهدنا نحن وغيرنا ثقل القرآن على أهل الغناء وسماعه، وتبرُّمهم به.

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: المقبل على اللهو واللعب والطرب، إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها، أعرض وأدبر، وتصامم وما به صمم كأنه ما سمعها، لأنه يتأذى بسماعها، إذ لا انتفاع له بها، ولا أرب له فيها،: ﴿فبشره بعذابٍ أليمٍ﴾ [لقمان7] أي: يوم القيامة، يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: اعلم أن سماع الأغاني يضادُ سماع القرآن، من كل وجهٍ، فإن القرآن كلام الله، ووحيه ونوره، الذي أحيا به القلوب الميتة، وأخرج العباد به من الظلمات إلى النور والأغاني ولآتها مزامير الشيطان

ومن كان يحب سماع الغناء ويكره سماع القرآن فهو على خطر عظيم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إذا كان الشخص... يكره سماع القرآن، ويفر منه،... ويؤثر سماع مزامير الشيطان على سماع كلام الرحمن فهذه علامات أولياء الشيطان.

اللهم تب علينا من سماع ألحان الغناء وحبب إلينا سماع آيات القرآن، يا كريم يا رحمن.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply