بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن إستغلال حوائج الناس من الأمراض التي لُوحِظت في مجتمعاتنا الشرقية، لابتزازهم أو إستجلاب مصالح مادية أو معنوية. وقد رأينا هذا في التعامل بين الناس، لا سيما في مكاتب العمل. حيث تجد من أعطاه الله سلطة في شركة أو مكتب لا يتوانى عن تصعيب الأمور على من هم أدنى منه رتبة. ومن المدهش أن في بعض الأحيان لا نجد لذلك مبرر غير تحقير الناس والتلذذ بضررهم وإذلالهم بتعسير أمورهم. حيث لا نفع دنيوي يعود على الفاعل أو حتى يكلفه شيء مادي ليسهل أمور الموظفين. ولا شك أن هذا يخالف تعاليم ديننا الحنيف الذي أمرنا بالتيسير على المسلمين ومساعدتهم وفك كربهم. فقد قال الله تعالى في التيسير على المديون:
}وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ ۚ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ{.
ووجهنا صلى الله عليه وسلم إلى تنفيس الكربات عن المسلمين وتيسير أمورهم ومعونتهم، وذلك في قوله:"من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه"[i]. وغيرها من التوجيهات المتناثرة في أرجاء السنة النبوية والتي تحثنا على مساعدة الناس والتخفيف عنهم والوعد بالثواب الجزيل لم يقوم بذلك. ولكن بالرغم من ذلك نجد أن كثير من الناس يعانون من مضايقات من الآخرين سواء في أماكن العمل أو الدواوين الحكومية والجامعات والدور العامة وغيرها. بل نجد بعضهم يلجأ لرفع المقاطع في مواقع التواصل الاجتماعي للبحث عن النصرة على من ظلمهم أو عسر أمورهم أو عاملهم بسوء ونحوه. ومن المؤسف أن نجد معظم الظالمين يكونون من المسلمين.
ولا نشك في عظم ظلم أهل الكتاب والملاحدة للمسلمين، كظلم اليهود للفلسطينيين، وظلم الهندوس لمسلمي الهند، ونحوه، فهذا ظلم كبير ومصير فاعليه النار. ولكن ما نبحث عنه هنا هو موضوع يقل طرقه من أصحاب الأقلام، إلا وهو ظلم المسلمين بعضهم لبعض. ونرى هذا في صور ومواضع عدة، مثل أماكن العمل وبين طبقات المجتمع.
استغلال حوائج الناس في أماكن العمل:
كثير من صور إستغلال حوائج الناس يحدث في أماكن العمل. وكثيرا ما يصدر هذا ممن خولهم الله أمور الناس ورزقهم المناصب التي يستطيعون بها التحكم في الغير. وذلك بإبتزازهم بالمال وغيره لأجل قضاء مصالحهم. ولا أقصد هنا من يقوم بمهام بمقابل مادي، ولكن من بيده سلطة لقضاء مصلحة مأجور مسبقًا للقيام بها من قبل الدولة أو صاحب العمل ونحوه. ومن أمثلة ذلك:
- ظلم المدير للموظفين الذين تحت رتبته.
- ظلم موظفين الحكومة للعملاء الذين بيدهم تخليص الأوراق الرسمية لهم. وذلك بتأخير مصالحهم لأجل التسلي أو الكسل أو الإبتزاز أو غيرها من الأغراض.
- ظلم الأستاذ للتلاميذ، والمشرف للبحث ونحوه.
- ظلم الكفيل للمكفول. فنجد الكفيل الذي خوله الله السلطة ليكون في يده مصير إنسان لا يتوانى من أن يخون هذه الأمانة ويظلم مكفوله بشتى الطرق دون أن يراقب الله أو يتذكر أن الظلم ظلمات يوم القيامة.
ونجد هذا في المجتمعات التي لا تزال تتبع الطبيقة. ومن أمثلتها:
- ظلم الأغنياء للفقراء.
- ظلم الإمام للرعية.
- ظلم الشريف للوضيع.
- ظلم أصحاب العمل للعمالة، لاسيما من فئات الخدم والسائقين وعمال النظافة والبناء والمصانع والورش ونحوها.
- ظلم أعضاء الحكومة للمواطنين، وظلم المواطنين للوافدين، وظلم أغنياء الوافدين لفقرائهم.
إستغلال حاجة الناس وظلمهم داخل البيوت:
ومن المؤسف أن نجد هذه الظاهرة حتى في داخل البيوت بين افراد الأسرة. وفي هذا النوع أذى أكبر، لأنه يجر للخلاف وقطع الأرحام التي يجب وصلها. وكثيرا ما يكون المظلوم عاجزًا عن التكلم وشكوى من ظلمه لأجل الستر على الأسرة أو الخوف من الضرب أو الطرد أو الأذى الجسدي. وأحيانا لتحكم الظالم بالمظلوم ماديا، أو معنويًا. ويكون هذا في صور مختلفة، منها:
- ظلم الآباء أو الأمهات لأبنائهم.
- ظلم الكبار للصغار.
- ظلم الرجال للنساء.
- كما نجده بين الأقارب كظلم الأعمام والعمات والجد والخال وزوج الأم والحماة ونحوها.
- ظلم الأصحاء للمرضى، كظلم المعاقين وذوي الإحتياجات الخاصة، وأصحاب الأمراض المزمنة، كمرضى القلب والكلى والسرطان وغيره. وكذا ربما يكون المظلوم مقعد لا يستطيع الإعتماد على نفسه، فيكون تحت رحمة راعيه الذي يسئ معاملته وهو لا حول ولا قوة له للدفاع عن نفسه. وقد رأينا هذا من بعض ممرضين رعاية كبار السن في المنازل الذين كشفت كاميرات المراقبة سوء معاملتهم التي قد تصل لحد الضرب والأذى الجسدي والمعنوي.
وقد يصدر الظلم بين الأقران ومن يتقاربون في المراتب أو العمر أو المنزلة. ومن أمثلته:
- ظلم زملاء وزميلات العمل لبعضهم البعض.
- ظلم الأصدقاء لبعضهم البعض.
- ظلم الأخوة والأخوات لبعضهم البعض.
إستغلال حاجة الناس والتلذذ بظلمهم من منظور مقاصد القرآن الكريم والشريعة الإسلامية:
- إستغلال حوائج الناس فيه ظلم لهم. وقد نهانا ديننا الحنيف عن ظلم الناس أو التعسير عليهم. فقد روى عبد الله بن عمر في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال:"الظلم ظلمات يوم القيام"[ii]. وهو يتناقض مع مقصد التشريع.
- وهو أمر ينافي الأخلاق والمبادئ الإسلامية ويتنافى مع مقصد تهذيب الأخلاق. وبين صلى الله عليه وسلم أنه بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، فقال:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[iii].
- إستغلال حوائج الناس فيه تعسير عليهم وينافي مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية.
- إستغلال حوائج الناس قد يؤدى إلى الغضب والتعارك وارتكاب الجرائم وينافى بذلك مع مقصد التشريع، والمقصد العام للشريعة من حفظ النفس والمال والدين.
التوصيات المقترحة:
- يجب التيسير على الناس وتسهيل أمورهم، لأنه من هدى النبي صلى الله عليه وسلم. كما أنه سبب في تفريج كربات يوم القيامة والنجاة من النار.
- على الدولة مراقبة موظفيها ممن تولوا مناصب عالية للتأكد من عدم إستغلالهم لهذه المناصب بسوء للتعسير على الناس وإذلالهم.
- على الإنسان مخافة الله من ظلم الناس، وتذكر أن الظلم ظلمات يوم القيامة، وأن أصحاب المظالم سيقتصون منه يوم القيامة ليرتدع عن ظلم الناس وإستغلالهم.
- على الإنسان أن ييسر على الناس أمورهم حتى ييسر الله عليه أموره.
- على من ظلم غيره التوبة إلى الله وطلب العفو ممن ظلمهم ورد حقوقهم كاملة، ويستحسن بزيادة إن استطاع لكسب عفوهم ورضاهم.
- على الآباء والأمهات مراقبة أبنائهم ونهيهم عن ظلم بعضهم البعض.
- على الإمام تيسير أمور رعيته وتسهيلها بوضع القوانين التي تحمي الأفراد. كما على الدولة الإستماع لشكاوى الناس وإنصاف المظلومين منهم إن ثبت ذلك.
- على المدراء العدل مع الموظفين، وعلى الكفلاء التيسير على المكفولين، وعلى أرباب العمل التلطف بالعمال، وعلى ربات البيوت الترفق بالخادمات، وهكذا. فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. وليتيقن الإنسان أن لا معروف يضيع عند الله، فهو الشكور الحليم. وما من عمل صالح يُنسى أو يضيع، بل يُكتب في صحيفته، ليكون نجاة وذخر ليوم تشخص فيه الأبصار.
- نسأل الله النجاة والهداية والعمل الصالح والقبول وحسن الخاتمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[i] أخرجه مسلم عن أبي هريرة، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، وعلى الذكر، جزء ٤، صفحة ٢٠٧٤، حديث رقم ٢٦٩٩.
[ii] أخرجه البخاري (٢٤٤٧)، ومسلم (٢٥٧٩).
[iii] صححه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤٥، مجموع فتاوى بن باز، جزء ٢، صفحة ٢١٥، مختصر المقاصد ١٨٤، ومجمع الزوائد، جزء ١٨، صفحة ٩، لطائف المعارف ٣٠٥.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد