بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إسرائيل لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ{(83).
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ} الميثاق: العهد الشديد، وسمي ميثاقًا؛ لأنه يوثق به المعاهد، كالحبل الذي توثق به الأيدي والأرجل؛ لأنه يُلزمه{بَنِي إِسْرَائِيلَ} هذه الآية مناسبة للآيات الواردة قبلها في ذكر توبيخ بني إسرائيل وتقريعهم، وتبيين ما أخذ عليهم من ميثاق العبادة لله، وإفراده تعالى بالعبادة، وما أمرهم به من مكارم الأخلاق، من صلة الأرحام والإحسان إلى المساكين، والمواظبة على ركني الإسلام البدني والمالي: ثم ذكر توليهم عن ذلك، ونقضهم لذلك الميثاق، على عادتهم السابقة وطريقتهم المألوفة لهم.
{لاَ تَعْبُدُونَ}"العبادة" معناها: الذل، والخضوع؛ مأخوذة من قولهم طريق معبَّد. أي مذلَّل {إِلاَّ اللّهَ} فأمرهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. وبهذا أمر جميع خلقه، ولذلك خلقهم كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:25] وقال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].
والآية خبر في معنى الأمر، ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه.
وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى، أن يعبد وحده لا شريك له، ثم بعده حق المخلوقين، وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي وأمرناهم إحسانا بالوالدين. وهو برا بهما وعطفا عليهما ونزولا عند أمرهما، فيما لا يخالف أمر الله تعالى.
وقرن الله عز وجل في هذه الآية حق الوالدين بالتوحيد، لأن النشأة الأولى من عند الله، والنشء الثاني - وهو التربية - من جهة الوالدين، ولهذا قرن تعالى الشكر لهما بشكره فقال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان:14].
{وَذِي} صاحب {الْقُرْبَى} القرابة، ويشمل: القرابة من قِبَلِ الأم؛ والقرابة من قِبَلِ الأب. ولكن يجب أن نعلم أن الإحسان يتفاوت؛ فكل من كان أقرب فهو أولى بالإحسان؛ لأن الحكم إذا عُلِّق بوصف قوي بحسب قوة ذلك الوصف؛ فمثلًا يجب عليك من صلة العم أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد العم؛ ويجب عليك من صلة الخال أكثر مما يجب عليك من صلة أولاد الخال.
{وَالْيَتَامَى} جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ من ذكر أو أنثى، وأوصى الله تعالى باليتامى؛ لأنه ليس لهم من يربيهم أو يعولهم؛ إذ إن أباهم قد توفي؛ فهم محل للرأفة والرحمة والرعاية.
وهو يشمل الإحسان إليهم أنفسهم؛ والإحسان في أموالهم؛ لقوله تعالى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام:152].
{وَالْمَسَاكِينِ} الفقير الذي أسكنه الفقر؛ لأن الإنسان إذا اغتنى فإنه يطغى، ويزداد، ويرتفع، ويعلو؛ وإذا كان فقيرًا فإنه بالعكس، وهنا يدخل الفقراء مع المساكين؛ لأن "الفقراء"، و"المساكين" من الأسماء التي إذا قرنت افترقت؛ وإذا افترقت اجتمعت؛ فكلمة "الفقراء" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ و"المساكين" إذا كانت وحدها شملت الفقراء، والمساكين؛ وإذا قيل: فقراء ومساكين. مثل آية الزكاة:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ}[التوبة:60] صار "الفقراء" لها معنى؛ و"المساكين" لها معنى؛ لما اجتمعت الآن افترقت: فـ"الفقير": من لا يجد شيئًا من الكفاية، أو يجد دون النصف؛ و"المسكين": من يجد نصف الكفآية دون كمالها.
وكان تقديم الوالدين لأنهما آكد في البر والإحسان، فجاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد. وتأخرت درجة المساكين، لأنه يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام، ويصلح معيشته، بخلاف اليتامى، فإنهم لصغرهم لا ينتفع بهم، وهم محتاجون إلى من ينفعهم.
{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا} كلموهم طيبًا، ولينُوا لهم جانبًا، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف.. ولما كان القول سهل المرام، إذ هو بدل لفظ، لا مال، كان متعلقه بالناس عمومًا إذ لا ضرر على الإنسان في الإحسان إلى الناس بالقول الطيب.
فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع،من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون:{فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]. فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. وقال طلحة بن عمر: قلت لعطاء إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل في حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل! يقول الله تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}. فدخل في هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحنيفي؟؟
قال القشيري: التعبد بهذه الخصال حاصل لنا في شرعنا، وأولها التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة والطاعة، ثم ردّك إلى مراعاة حق مثلك، إظهارًا أن من لا يصلح لصحبة شخص مثله، كيف يقوم بحق معبود ليس كمثله شيء؟ فإذا كانت التربية المتضمنة حقوق الوالدين توجب عظيم هذا الحق، فما حق تربية سيدك لك؟ كيف تؤدي شكره؟ ثم ذكر عموم رحمته لذي القربى، واليتامى والمساكين، وأن يقول للناس حسنًا.. وحقيقة العبودية الصدق مع الحق، والرفق مع الخلق.
{وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} أي ائتوا بها قائمة. أي قويمة ليس فيها نقص؛ وذلك بأن يأتوا بها بشروطها وأركانها وواجباتها؛ وكمال ذلك أن يأتوا بمستحباتها.
{وَآتُواْ الزَّكَاةَ} هي النصيب الذي أوجبه الله لمستحقه في الأموال الزكوية.. أطلقت الزكاة على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال وليس المراد الكنآية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه السلام.
فالآية أفادت وجوب الزكاة على من كان قبلنا؛ ولكن لا يلزم أن يكونوا مساوين لنا في الأموال التي تجب فيها الزكاة، ولا في مقدار الزكاة، ولا في أهلها الذين تدفع إليهم.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} التولي: ترك الشيء وراء الظهر؛ وهذا أبلغ من الإعراض؛ لأن الإعراض قد يكون بالقلب، أو بالبدن مع عدم استدبار.
{إِلاَّ قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} جملة حالية؛ أي توليتم في إعراض؛ وذلك أن المتولي قد لا يكون عنده إعراض في قلبه. فقد يتولى بالبدن، ولكن قلبه متعلق بما وراءه؛ ولكن إذا تولى مع الإعراض فإنه لا يرجى منه أن يُقْبِل بعد ذلك.
والمعنى: توليتم وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد