بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دخلت الجلود في كثير من الصناعات، فتصنع منها الحقائب، والمعاطف، والأحذية، والأحزمة، وغيرها. و «الجلد الصناعي» سواء كان من المنتجات البترولية أو غيرها: مباح طاهر؛ لأن الأصل في الأشياء الطهارة والإباحة.
وأما الأشياء المصنوعة من جلود الحيوانات، فيختلف حكمها بحسب جلد الحيوان الذي صنعت منه. والجلد الحيواني له أحوال:
1/ أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، وقد ذُكي (ذبح) ذكاةً شرعية.
فهذه جلود طاهرة بإجماع أهل العلم، لأنها صارت طيبةً بالذكاة، كجلود الإبل، والبقر، والغنم، والظباء والأرانب وغيرها، سواء دبغت أم لم تدبغ.
قال ابن حزم رحمه الله: " وَاتَّفَقُوا أَن جلد مَا يُؤْكَل لَحْمه إذا ذكي: طَاهِر، جَائِز استعماله، وَبيعه "
2/ أن يكون جلد حيوان مأكول اللحم، ولكن الحيوان لم يذكَّى ذكاةً شرعية، بل إما أن يكون ميتة، وإما أن يكون قد ذبح ولكن بطريقة غير شرعية. فهذا الجلد يكون نجسًا، لأنه جزء من حيوان ميت والحيوان الميت نجس، ولا يطهر إلا بالدباغ، فإذا دبغ صار طاهرًا.
والدباغة هي: معالجة الجلود بمنظفات ومطهرات ليزول ما بها من نتن وفساد ورطوبة، وكان يستعملون لذلك القَرَظ [ورق شجر السَلَم]، والعَفْص، والشَّب [نبت طيب الرائحة]، وقشور الرمان..
وفي العصر الحديث يتم دباغة الجلود في المصانع الكبرى بواسطة بعض المواد الكيماوية التي تنقي الجلد وهي تؤدي الغاية نفسها... فالدباغة تحصل بأي شيء يزيل النتن والخبث عن الجلد.
وجميع الجلود المستخدمة اليوم في الحقائب والملبوسات والأحذية ونحو ذلك، قد تم دباغها وتنظيفها من الرطوبة والدماء.
ويدل على طهارة هذه الجلود بالدباغة ما رواه مسلم عن أبي الخير أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قُلْتُ: إِنَّا نَكُونُ بِالْمَغْرِبِ وَمَعَنَا الْبَرْبَرُ وَالْمَجُوسُ، نُؤْتَى بِالْكَبْشِ قَدْ ذَبَحُوهُ، وَنَحْنُ لَا نَأْكُلُ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَأْتُونَا بِالسِّقَاءِ يَجْعَلُونَ فِيهِ الْوَدَكَ [الشَّحْم] فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَدْ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: (دِبَاغُهُ طَهُورُهُ).
وروى مسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما – أيضا - أنه قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مَوْلَاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ، فَمَاتَتْ، فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ، فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ) فَقَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ. فَقَالَ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
فهذا يدل على أن جلد ميتة الحيوان الذي يؤكل لحمه، يطهر بالدباغ.
قال ابن بطال رحمه الله: "وعلى هذا جمهور العلماء وأئمة الفتوى، وذكر ابن القصار أن هذا آخر قول مالك، وهو قول أبي حنيفة والشافعي "
3/ أن يكون من جلود السِّباع، مثل جلد الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والدب، وابن آوى، وابن عرس.
فجلود هذه الحيوانات نجسة، سواء ذبحت، أو ماتت، أو قتلت، لأنها وإن ذبحت لا تحل، ولا تكون طيبة، فهي نجسة في جميع الأحوال.
واختلف العلماء هل الدباغة تطهر هذه الجلود أم لا؟
وسواء قلنا بطهارة هذه الجلود بالدباغة أم لا، فلا يجوز استعمالها على كلا الحالين؛ لما ورد من النصوص الصحيحة في النهي عن استعمالها.
ويدل على هذا: ما جاء عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ أَنْ تُفْتَرَشَ" رواه الترمذي، وصححه النووي، والألباني.
وعن الْمِقْدَام بْن مَعْدِي كَرِبَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا" رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فهذه الأحاديث تدل على أن جلود السباع لا يجوز الانتفاع بها مطلقًا.
قال الترمذي: "وقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ إِنَّهُمْ كَرِهُوا جُلُودَ السِّبَاعِ وَإِنْ دُبِغَ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَقَ، وَشَدَّدُوا فِي لُبْسِهَا وَالصَّلَاةِ فِيهَا" انتهى
وقال بعض العلماء: إن النهي عن جلود السباع المقصود به استعمالها قبل دباغتها.
قال النووي رحمه الله: " وهو ضعيف، إذ لا معنى لتخصيص السباع حينئذ، بل كل الجلود في ذلك سواء".
والعلة في النهي عن استعمال هذه الجلود: لما فيها من الكبر والخيلاء، ولأن فيها تشبهًا بالجبابرة، ولأنها زي أهل الترف والإسراف.
وعلى هذا، فلا يجوز استعمالها سواء قلنا بطهارة جلدها بالدباغ أم لا.
4/ أن يكون جلد حيوان غير مأكول اللحم من غير السباع، مثل جلود الثعابين، والفيلة، والحمير، والقرود، والخنازير، ونحو ذلك.
فهذه الجلود وما أشبهها: نجسة، سواء ذبحت، أو ماتت، أو قتلت، لأنها وإن ذبحت لا تحل، ولا تكون طيبة، فهي نجسة في جميع الأحوال.
ولكن، لو دبغت هذه الجلود هل تطهر؟ في هذه المسألة خلاف بين العلماء:
فقيل: إن الدباغة تُطهر جميع الجلود، إلا جلد الكلب والخنزير.
وهذا القول كما قال ابن عبد البر رحمه الله: " عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ وَالْأَثَرِ بِالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَالشَّامِ "
ويدل لهذا المذهب قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا دُبِغَ الْإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ) [مسلم]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) [رواه الترمذي، وقد صححه البخاري، والترمذي]
والإهاب هو الجلد قبل أن يُدبغ، وهي صيغة عموم تشمل جميع أنواع الجلود
واستثني من ذلك الكلب والخنزير؛ لأنهما نجسان في حال الحياة، فإذا كانت الحياة - وهي أقوى من الدباغة في التطهير - لم تطهرهما، فمن باب أولى الدباغة. "فالدَّبْغَ يُزِيل سَبَبَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ الرُّطُوبَةُ وَالدَّمُ " [الموسوعة الفقهية]
والكلب والخنزير كل منهما نجس العين، "أَيْ أَنَّ ذَاتَهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا نَجِسَةٌ حَيًّا وَمَيِّتًا، فَلَيْسَتْ نَجَاسَتُهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّمِ أَوِ الرُّطُوبَةِ كَنَجَاسَةِ غَيْرِهِ مِنْ مَيْتَةِ الْحَيَوَانَاتِ، فَلِذَا لَمْ يَقْبَل التَّطْهِيرَ" [الموسوعة الفقهية]
قال ابن عبد البر رحمه الله: "قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كل إهاب دبغ فقد طهر) قد دخل فيه كل جلد، إلا أن جمهور السلف أجمعوا على أن جلد الخنزير لا يدخل في ذلك ".
وقال رحمه الله – أيضًا -: " وَأَمَّا قَوْلُهُ: (أَيُّمَا إِهَابٌ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ) فَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَمِيعَ الْأُهُبِ، وَهِيَ الْجُلُودُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ جَاءَ فِي ذَلِكَ مَجِيءَ عُمُومٍ، وَلَمْ يَخُصَّ شَيْئًا منهَا... وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى إِلَّا جِلْدَ الْخِنْزِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: (أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ)؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَجِلْدُهُ مِثْلُ لَحْمِهِ، فَلَمَّا لَمْ تَعْمَلْ فِي لَحْمِهِ وَلَا فِي جِلْدِهِ الذَّكَاةُ، لَمْ يَعْمَلِ الدِّبَاغُ فِي إِهَابِهِ شَيْئًا".
والقول الثاني: أن الدباغة لا تطهر إلا جلد الحيوان الذي يؤكل لحمه، وأما الحيوان غير مأكول اللحم، فلا تطهر الدباغة جلده، وهذا هو مذهب الأوزاعي، ورواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أحد قوليه.
واختار هذا القول: جمع من العلماء المعاصرين، كالشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين رحمة الله على الجميع.
واستدلوا بحديث سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ دَعَا بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ، قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ دَبَغْتِهَا، قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: (فَإِنَّ دِبَاغَهَا: ذَكَاتُهَا)
[رواه النسائي وصححه الدارقطني، والنووي، والألباني]. " فَشَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ؛ وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ" [المغني" لابن قدامة]
وتظهر ثمرة الخلاف في حكم الانتفاع بالأشياء المصنوعة من جلد حيوان غير مأكول اللحم، فمن يرى أن الدباغة تطهره يجيز الانتفاع بهذه الجلود، ومن يرى أن الدباغة لا تطهر جلود الحيوانات غير مأكولة اللحم لا يجيز الانتفاع بهذه الجلود، ولا الجلوس عليها ولا استعمالها.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ما هو الضابط في استخدام الجلود وما يحل من ذلك وما يحرم؟
فقال: " من المعلوم أن الجلود في السوق هي جلود مدبوغة، والجلود المدبوغة عند كثير من العلماء طاهرة، وإن كانت من حيوان نجس. والصحيح أنها ليست بطاهرة إذا كانت من حيوان نجس؛ لأن نجس العين لا يطهر لو غسل بماء البحر.
أما إذا كانت الجلود مما هو مباح الأكل ولكن لا تدري أنت هل هي جلود مذبوحة أو ميتة فلا يهمنك؛ لأنه حتى لو كانت جلود ميتة أو جلود حيوانٍ مذبوح على غير الطريقة الإسلامية فإنها إذا دبغت تكون طاهرة مثل بعض الفراء، تكون مبطنة بجلد من جلود الضأن الصغار، فنقول: البسها ولا حرج عليك، حتى لو فرض أنها من ميتة أو فرض أنها مما ذكي ذكاة غير شرعية؛ لأنه إذا دبغ فإنه يطهر" والحاصل:
أنه لا حرج في استعمال الأشياء المصنوعة من جلد الحيوان المأكول اللحم، وأما المصنوع من جلود السباع، فلا يجوز استعماله مطلقا. وأما ما صنع من جلد حيوان غير مأكول اللحم، فالأولى ترك استعماله؛ لقوة الخلاف فيه.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: " ولا شك أن ما دبغ من جلود الميتة التي تحل بالذكاة كالإبل والبقر والغنم طهور يجوز استعماله في كل شيء في أصح أقوال أهل العلم.
أما جلد الخنزير والكلب ونحوهما مما لا يحل بالذكاة، ففي طهارته بالدباغ خلاف بين أهل العلم؛ والأحوط ترك استعماله، عملا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)".
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد