بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
جلس عالم الاقتصاد الإيطالي باريتو Paretoفي َمْنحل يتأمل حركة النحل، ووجد أن %20فقط من النحل يقومون بـ %80من العمل. والعكس. ثم راح يتأمل في باقي الظواهر الاجتماعية فوجد أن هذه الملاحظة مضطردة، فدائمًا قلة (%20) تُغني عن كثرة (%80): في العلاقات الشخصية، والملابس، والطعام، والعمال.تعرفت على قاعدة (80/20) من خلال علماء البرمجة العصبية/ التنمية البشرية. يتكئون عليها في حث
الناس على توفير جهدهم ووقتهم بالتعرف على النافع ومحاولة الاقتصار عليه. وكم وضعت باريتو Pareto الإيطالي والذين يحاضرون في التنمية البشرية بين يدي وجلست طويًلا أنظر إليهم وأفكر في حالهم، ومقالهم، والسياق الذي أفرزهم وأفاد منهم، وأطرح الأسئلة، وأبحث عن إجابات، وحدثت تفاعلات كثيرة بيني وبين أشخاصهم وأطروحاتهم، ومن ثمرة ذلك: أن قاعدة باريتو- مع انتشارها وكثرة المرددين لها تحتاج إلى تعديل؛ فبمزيدٍ من التأمل نلاحظ أن القاعدة يمكن تعديلها إلى (99/1)، (98/2)، (97/3)، (96/4)، (95/5) إلى أن نصل إلى50-50؛ بمعنى أن في كل ظاهرة اجتماعية شخص واحد يبدأ ويكون وزنه النسبي بين الجموع يساوي ما عداه من الأشخاص، وهو ما نقول عنه رجل بأمة. يقول الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ﴾(النحل:121). ومحمدصلى الله عليه وسلم يعدل الأمة بأكملها، وأبو بكر يعدل ما سواه بعد النبي، صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن أبي بكر والصحابة؛ وعمر يعدل سائر الأمة بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر. والصحابة رضوان الله عليهم بمن خلفهم ويزيدون، والأئمة الأربعة في كفة ومن خلفهم من أهل الفقه في كفة. وقد تجد بين ألف رجٍل رجًلا يعدلهم. فتكون القاعدة (1000/1)، وفي الحديث:" لَيْسَ شَيْءٌ خَيْرًا مِنْ أَلْفٍ مِثْلَهُ إِلا الإِنْسَانَ".
استقر الأمر عندي بعد إعادة النظر في باريتو والذين يبحثون عن أرزاقهم في نشر قاعدة باريتو، أن دائمًا شيء ما يغني عن الجميع، أو يبدأ ويتبعه الجميع. ولا يحرك هو الجميع بشخصه، فقط يبدأ ثم يأخذ كل حظه في تغيير الواقع. وذلك مضطرد في الأشخاص، والصفات، والأشياء. ولأني منذ كنت مراهًقا أعقد العزم على إنتاج أسرة نافعة بحول ربي وقوته ومحض فضله، رحت أطبق هذه الملاحظة على الأسرة، وطرحت هذا السؤاال: ما الذي أعلمه أطفالي ويغني عن الباقي؟، أو يكون سببًا في باقي المكارم؟؛ أو: ما هو الشيء الذي إن تعلمته وأبنائي كان بابًا لغيره من المكارم؟
بعد أخذ ورد، ودخول وخروج، وتأملٍ في الأفكار والأشياء بالأيام والساعات استقر عندي أن هذا الشيء هو التفكر والتأمل، هو أن نُعمل النظر فيما نرى ونحاول أن نفهم الرسائل الكامنة في الأشياء والأشخاص، وأن نفكر في مآلات الأمور.
التفكر هو باب كل خير. وفي رأسي حشد هائل من الشهود على أن التفكر والتأمل فيما تراه أو يرد على خاطرك هو باب كل خير، وقد بينت أن هذه هي منهجية الإسلام في مقال سابق بعنوان*التدبر حالة*، وعلي هنا أن أكمل لأبين الطريقة التي اتبعتها مع أطفالي كي يتدبروا، وهذا بعض ما فعلت:
كنت آخذ ولدي البكر (جلال) معي للمسجد في صلاة الفجر، وهو صغير لا يستطيع أن يمسك من يدي إلا أصبعي الصغير، ومرة بجواري ومرة على ذراعي يضرب الأشجار ويداعبها حتى نصل للمسجد، وفي الطريق أسأله: أيهما أكبر: النجوم أم القمر؟، وكان يبادر سريًعا بالإجابة: القمر أكبر. وكنت أقول له: بل النجوم أكبر، لأنها أبعد. وهو يرد علي بأن ما يشاهده عكس ذلك. وظلت هذه قضية ثائرة بيننا شهوًرا.
وكنت حين أغدو به للمدرسة، أسأله: تأخرنا أم لم نتأخر؟ (وكنا نتأخر غالبًا). ونفكر سويًا في الشواهد (الأمارات) على التأخير من عدمه فأقول: أول الأمارات وأقربها: الساعة التي في يديك، وثانيها: أشرقت الشمس بنور ربها وكانت تشرق عليك في الطابور، والشارع قد خفت فيه حركة السير... إلخ. وكم جلسنا نحاول قياس حجم أحدنا في الكون.. نستخدم حصيرة بلاستيك مرسوم عليها خريطة للعالم نتقافز عليها لعبًا وتأملًا، ونستخدم الأطلس، والأفلام التسجيلية عن الكون، والخرائط، وكلها موجودة تباع ضمن الأدوات التعليمية في المولات الكبيرة المنتشرة في كل مكان. وذلك ليعلم حجمه في ملك سيده، وليعلم شيئًا من قدرة ربه وخالقه﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾. وحين كبر أكثر كنت أكلفه بكتابة جمل عن الشوارع، وعن بعض الحيوانات التي يراها.. وأرصد له مكفاءات كبيرة على كل جملة يكتبها؛ وأسأله بعد أن نخرج من المسجد: ماذا قرأ الإمام؟، كم كان عدد الناس (صفوفًا وأفرادًا)؟ هل شاهدت في المسجد شيئًا جديًدا؟. ولا زلنا للآن مستمرين في طرح الأسئلة ونحن في طريقنا لصلاة الفجر وغيره.
وفعلت هذا مع سارة ومريم بعده، وأعتقد أن التفاصيل لاتهم، ولكن، من باب الترفيه: أعلّمهم قراءة العيون، ويحدث سجالات بيننا، أقول: هذه عين محب، وهذه عين حاقد، وغالبًا ما أصيب فالعين لا تكذب.. تفضح صاحبها. وحدث أن أحد الحقدة ممن يظهرون مودة كاذبة يعمل أستاذًا في مدرسة ابنتي، وحصلت هي على المركز الأول في القرآن الكريم على المستوى المدرية (وكانت تحصل عليه في كل مرة)،والتقاها وتمتم ببعض الكلمات يهنئها، فسألتها: كيف ترينه؟ فقالت: غير محب، وكنت أذكره لها بخير لتأنس به ولكونه محسوبٌ علينا ظاهرًا، قالت: ليس على ما تقول يا أبي.. لا يبدو سعيدًا بنجاحي. وتلت بعض الشواهد.. كلها خلف ما يظهر هو.. كلها لا يُفهم إلا بتأمل!!
وما يشغلني الآن كطامح في مشروع تربوي يغير الله به بناء الشخصية لتناسب التحديات التي نواجهها كمسلمين مستضعفين- هو تحويل تعليم التفكر والتدبر إلى مهمة تربوية في البيوت، فأكاد أمتلئ يقينًا أن البيت ضرورة للنهوض، وخاصة في هذه الأيام. وأعني أن يتحول البيت لفصل دراسي، ونقطة البدء من تعلم أحد الآباء ويصبح معلًما لأبنائه شيئًا محدًدا، وتحدث عملية تبادل خبرات/ مهارات بين البيوت، فبيت متخصص في تعليم القرآن، وبيت متخصص في التفسير (التدبر)، وبيت متخصص في السيرة والحديث، وبيت به حكيم يجالس الأطفال مرة كل أسبوع أو أسبوعين في سمر هادف، يسألونه ويجيب عليهم..كصالون ثقافي مرح يناسب أعمارهم. ويتنقل الأطفال بين هؤلاء وهؤلاء. وهذا المطلب ضروري الآن بعد أن أصبح تشييد المؤسسات مكلف مادًيا وسلطوًيا.
والسؤال:كيف نبدأ عمليًا؟
نقطة البدء العملية في التوجه-كمرحلة أولى ضرورية- إلى الآباء بالتعليم، من أجل تخصيصهم.. من أجل إنتاج نخبة متخصصة، وقد جف حلقي من الحديث عن ضرورة النخبة المتخصصة (انظر مقال:الحل يبدأ من صناعة نخبة متخصصة). ويدعي الكل الانشغال، مع أن الغالبية تنفق وقتًا وجهًدا فيما لا ينفع، أمام الشاشات الصغيرة والكبيرة، وعمليًا لا أحد يصبر على تخصصيةٍ لن تكلفه نصف ما أنفق من وقت وجهد في المرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية. الكل متعجل والكل مصاب بمرض العصر: العجلة والشيء الخفيف السهل.
النخبة المتخصصة سيحل الله بها مشكلة المناهج، فإلى الآن لا نمتلك مناهج للعملية التربوية التعليمية، وعامة الموجود نقل أو تعريب أو أسلمة لمناهج المخالف، وبدهي أن مناهج غيرنا لا تنتج الفرد المطلوب لنهضتنا. والنخبة المتخصصة تحل مشكلة الأبنية، إذ أن وجود أب أو أم معلمة يغني بالضرورة عن الحاجة لمبنى رسمي (حضانة/ مدرسة) ويحول البيت إلى فصل دراسي طول اليوم، يحتسبه أهله مجلس علم منعقد على مدار الساعة كالمحاضر الشنقيطية.
وأهم مما مضى كله أن لا تتحول العملية التعليمية إلى مصدر للتربح، فالتربح من مفسدات العملية التعليمية، الأصح أن ينفق قوم على قوٍم، رجل على زوجته.. يفرغها.. يقوم هو بعبء السعي على الرزق ويتركها لما تصلح له (تربية الأبناء).. ويكرمها بلسانه ويده؛ أو ميسورون ينفقون على المحافل التربوية وأدوات التربية محتسبين الأجر من الله، أو نسعى لإعادة الوقف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد