الذاتية سبب الطلاق وفشل تعدد الزوجات


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لا يكاد يخلو مجلس من حديث عن انتشار الطلاق وخاصة بين المتزوجين حديثًا، وعادة ما يقرن بحديثٍ عن رغبة شديدة في التعدد؛ ويتحرك المتحدثون في نواحيها بحثًا عن سببٍ رشيد لكثرة الطلاق في هذه الأيام؛ ومنهم من يقول: انتشار العري وسهولة التواصل عاطفيًا وجسديًا دون تكاليف الزواج، ومنهم من يقول: ضعف التربية وعدم الوعي بالمسئولية.. ونحو ذلك. وهنا ملحوظتان:

الأولى: أن الأسباب وإن تعددت فغالبًا ما يكون هناك سبب رئيسي، ما يقال له (متغير مستقل) يكون بمثابة المدخلات التي تؤدي إلى الظاهرة التي نرصدها؛ ولذا علينا أن نعيد النظر مرة بعد مرة لاكتشاف هذا السبب المتسبب بشكل كبير في الظاهرة محل البحث والتحليل، وأزعم أني وضعت يدي عليه، وجئت أدل عليه، والله أسأل رشدًا وعزيمة على الرشد.

الثانية: أن الأهم في ظاهرة انتشار الطلاق وصعوبة تعدد الزوجات، الأهم هو البحث عن السياق العام الذي ولَّد هذه الظاهرة، وكذلك البحث عن مآلات الظاهرة. فالسياق والمآلات مهمان تمامًا كما الأسباب.

هل ما يحدث طلاق؟!
يبدو طلاقًا. ويتحدث الناس عنه كطلاقٍ، وحين تدور حوله وتعيد النظر فيه مرة بعد مرة..حين تنظر إليه من أعلى وتحاول أن تفهم السياق الذي أخرج هذه الظاهرة ومآلات الظاهرة، تجد أن كثرة الطلاق عرض لمرضٍ آخر، هو التحول في مفهوم الأسرة المسلمة، تجده أحد مفردات سياقٍ أكبر هو: زحف العلمانية الملحدة على الثقافة الإسلامية. تجده تصديرًا لنموذج الأسرة الغربي. تجده ترجمة للقاعدة الرئيسية التي بني عليها الإلحاد: (الذاتية) أو (عبادة الفرد نفسه) (اتباع الهوى).

تكمن المشكلة في حالة التحول التي حدثت للفرد المسلم (ذكر أو أنثى). فبعد أن كان المجتمع أسر (جمع أسرة)، تحول إلى أفراد.. كل يبحث عن ذاته. تمكنت منه الذاتية. جاءته من كل مكان حتى أعادت صياغته.
تعرض هذا الجيل للتغذية بالتنمية البشرية فكانت النتيجة هي تمكن الفردانية (عبادة الذات)، وتعرَّض لأحاديث العشق والهوى التي تتمحور حول الذات.. الجسد، فغدا كل واحدٍ لصاحبه يبحث عن ذاته. هي تبحث عن ذاتها في الزواج، وهو أضاع في عرض الصحراء قافلته.. تسرَّب من أسرته وجاء لعينيها يبحث عن ذاته!!

كل يفكر بشكلٍ مستقلٍ عن الآخر. وكل واحدٍ يريد أن يأخذ من صاحبه أكثر مما يعطيه، وعلى فرض أن أحد الطرفين يريد العطاء للآخر فمحال. لأن الطلبات عاطفية والعاطفة تتقلب وتخمد بعد قليل، وأهداف هذا النوع من اللقاء (الزواج) قصيرة تنتهي بعد أيام. على عكس نموذجنا الحضاري. كان الرجل والمرأة يلتقيان على أهداف مشتركة طويلة المدى (مشروع حياة)، هذا المشروع هو الأسرة: أبناء، وأحفاد، وبر للآباء؛ ويجتمعان متكاملان لا متساويان: المرأة في بيتها ترعى وتربي، والرجل يدافع الناس بحثًا عن قوت أسرته.. ورفعة أسرته. وكل في مجاله، وكل يكمل عمل الآخر، وكل مشغول عن صاحبه، والذات حاضرة ضمن إطار كلي يضبطها ويحفزها للعمل.

وذات السبب (الذاتية) يقف خلف كثيرٍ من الحالات التي تسعى للتعدد، قدرت عليه أم لم تقدر. ما يحدث هو أنه امتلئ بحب ذاته، وكبرت زوجته وشغلت بأولادها وترهل جسدها، وهو يريد ذاته فقط، ولذا يحوم حول (مراهقة عزباء)؛ وهي مثله امتلأت بحب ذاتها ولذا لا ترضى بأن يعدد زوجها؛ أو لا ترضى بالزواج من متزوج.. تبحث عن خلي بلا زوجة ولا أبناء.

ومن صور تمكن الذاتية: ان أحدهم يبحث عن ثانية وثالثة وأبناؤه في سن الزواج، أليس الأولى به أن يزوج أبناءه مبكرًا ليحقق لهم حلمًا كان يشتهيه هو حين كان شابًا؟!
إنه ممتلئ بحب الذات ولذا لا يفكر إلا في نفسه.

فالسبب الرئسي وراء الطلاق وفشل تعدد الزواجات هو تمكن الذاتية.

 أين تسير الظاهرة؟، وأين ستستقر؟!

الظاهرة تقرأ في سياق موجة الإلحاد (العلمانية) التي تجتاح الأمة الإسلامية. فكثرة الطلاق (الانهيار السريع للأسرة)، وفشل تعدد الزوجات حتى عند السلفيين أنفسهم، وانتشار العلاقات المحرمة شرعًا، وانتشار ثقافة الانحلال والعري، كلها ظواهر لتمكن القيمة العليا في الإلحاد وهي (الأنا/ الذاتية). كلها تشير بوضوح إلى أننا نتحول سريعًا للنموذج الغربي الملحد فحالنا اليوم كحال المجتمعات الغربية قبل أقل من مئة عام، مع الأخذ في الاعتبار سرعة التحول هذه الايام بفعل التطور التكنولوجي وما أثمره من سهولة تدفق المعلومات وسهولة التواصل الاجتماعي.
ومن الظلم، ومن الخطأ البين، أن نستدعي النص الشرعي الذي يبيح التعدد لتوطين تجارب فاشلة ترسخ على المدى المتوسط والبعيد الذاتية، أو الإلحاد، وتنفر الناس من الشريعة، فالتعدد في المنظومة الإسلامية له سياق مجتمعي وفردي مختلف، أقل ما فيه هو توفير الأمان المادي والمعنوي والمجتمعي للمرأة، علينا أن نوفره ابتداءً قبل أن ننادي بتعميمه وإلا فنحن نعبث وندعم عدونا من حيث لا نشعر.

 ومن الظلم أن نتحدث عن أن سبب انفجار الأسرة مبكرًا هو خلل في التربية. ونصمت. علينا أن نبحث عن القيم التي غُرست في شبابنا من أين جاءت، ماذا يُفعل بأبنائنا؟، وكيف تم إعادة صياغتهم بأموالنا وجهدنا؟، وكيف يتحولون، رغمًا عنا، لخلق آخر؟، كيف تسرق منا مجتمعاتنا؟ كيف تمزق مخالب العلمانية (مؤسساتها) أجسادنا الثقافية وتهضمنا.

نعم تصلح الذاتية (الأنا/الفردانية) كمقولة تحليلية لبيان سبب فشل الزواج وفشل تعدد الزوجات في واقعنا المعاصر. وفي صلاح هذه المقولة للتفسير. إشارة واضحة إلى أن مجتمعاتنا ترحل غربًا.. أو رحلت.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply