من وحي الشيطان


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

بدأ النبش عن آثار الهالكين مع العلمانية. فبعد أن قضى العلمانيون على الكنيسة ونُظِمٍ (جمع نظام) الحكم المصاحبة لها (الإمبراطوريات)، أسسوا لمرحلة جديدة تعادي الدين جملةً وتتخذ من نموذج الدولة القومية الحديثة وسيلة للحكم، وراحوا يبحثون عن مصدرٍ معرفي بديلٍ "لـلعهد القديم والعهد الجديد"، وذلك بعد أن ثبت كذبهم في كثير مما تحدثوا به عن الأولين؛ ومحاولةً لبناء ذاكرة خاصة بهم بعيدًا عن الديانات السماوية؛ ومحاولةً لطمس هوية الشعوب التي احتلوها وخاصة الشعوب الإسلامية؛ وإرباكًا للمعرفة الإنسانية بحديث عن ماضٍ لم يثبت مطلقًا، أو لم يثبت بيقين، أو قرئ بشكل مجتزء.

ومن أهم ما يمكن رصده في الكشوفات الأثرية هو التشابه بينها، وخاصة التماثيل والأنصاب، فالأهرامات وجدت في "أمريكا الوسطى"، ووجدت في أفريقيا، ووجدت في الصين. وكذا الرواية النصرانية عن التجسد والصلب من أجل الفداء تكررت أكثر من مرة على مدار التاريخ، وموزعة على صفحات الأيام والأماكن، ففي كل مكان وزمان ذات القصة.. وقوم يقولون أن "مخلصهم" هو المخلص الوحيد!! 
ذهب عباس العقاد إلى أن سبب ذلك هو تمدد الحضارات، وراح يتحدث عن بطولات خارقة لشعب من الشعوب جعلت أصنامه وأنصابه تتواجد عند شعوب أخرى[1]!!
يفسر عباس وجود تماثيل مشابه لتماثيل الفراعنة في الهند بأن المصريين (الفراعنة) بلغت دولتهم الهند[2]!! ويفسر الغربيون تواجد تماثيل الإغريق في الهند بأن اليونانيين غزوا الهند واستقروا فيها حينًا من الدهر وشيدوا أصنامهم ونصبوا حولها أنصابهم (الأسكندر المقدوني
(!!

ووقف ابن خلدون في مقدمته عند هذه الأخبار ومثلها (كالقول بتمدد تتابعة اليمن تجاه المغرب العربي)، ولكنه أراح نفسه من عناء التفسير. راح ينكر تلك الأخبار ويتهم من نقلها بأنه ينقل الكذب بقصد أو بدون قصد، واتكئ في مقدمته على أن عامة كتاب التاريخ (الإخباريين) ينقلون ما يجدون دون تدبر، ولم يحاول تفسير هذه الظاهرة، فقط شكك فيها واتهم من نقلها بالتساهل في نقل الأخبار الكاذبة!!

وفي القرآن الكريم أن الشيطان سبب ذلك كله.

في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة، أن الشيطان هو الذي حرض البشر حتى نصبوا الأوثان (التماثيل والبيوت) وشيدوا الأنصاب (منصات) وجعلوا حرمًا آمنًا حول أوثانهم. وأن ذلك مرَّ بمراحل: كان بدايتها تعظيم السادة والكبراء، ثم تصويرهم على الجدران، ثم نصب أصنام لهم، وأنصاب حولهم يذبح عليها من شاء أن يتقرب إليهم. ويكتمل المشهد بوضع الأصنام وأنصابها في حرمٍ يخلعون عليه "قداسة" كي يتخلى الداخل إليه عن يقظته الفكرية والإنسانية فيهريق عقله ومروءته بدعوى أن لا عقلانية في "التعبد"!!

أفكار الكفر وتطبيقاته العملية محدودة جدًا، وتتكئ كلها على فكرة واحدة هي: تعظيم شيء في الأرض لذاته أو وصولًا لمن في السماء، سبحانه وتعالى وعز وجل. فهذا التشابه في التصوير على الجدران، والتمثيل بأحجار، و"الحرم الآمن"، أمارة في "المخبر عنه" بأنه خرج من رأس واحدة.. إبليس لعنه الله. وليست كما يدعى العجلى أنها حالة من اجتياح الحضارات بعضها بعضًا.. ليست بصمة تتركها كل حضارة على غيرها حين تستحل حرامها.

وشيء آخر في المخبر عنه يدل على أنه إبليس.كان ولايزال. وهو أن النابشين عن تماثيل الأمس والمسوقون لها اليوم يخفون تمامًا ذكر الرسل والأنبياء في تلك الأمم،والله يقول:{وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ}[فاطر: 24].

إنه إبليس وإنهم جنود إبليس. عظموا شيئًا، ثم صوروه على الجدران، ثم تماثيل تُحس ليأنس بها الغبي البليد، ويتخذها الملأ أداة للسيطرة على المال والسلطان؛ ثم جعلوها أفكارًا يعظمها ويضل بها الذين من بعدهم؛ فطبعي أن ينزعوا ذكر الرسل وأتباعهم من إفكهم.
 يقول الله تعالى:{
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام: 121]، فأثبت للشيطان وحي، وهذا يعني أتباع وشرع وواقع يتحرك في مواجهة الأنبياء والمؤمنين بالله ورسله.

اللهم لا أقول بقولهم، ولا أقف في صفهم، اللهم إني أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحي ويميت، وهو على كل شيء قدير عدد خلقك ورضاء نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك.

محمد جلال القصاص

12/10/2015

بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف العمارة؟

تكملة لمقالٍ سابق (القيمة العليا في الإسلام) وفيه أن القيمة العليا في الإسلام هي تعبيد الناس لله، وأن عمارة الأرض ثمرة من ثمرات الإلتزام بشرع الله وليست هدفًا ولا قيمة عليا في الإسلام، نحاول الإجابة على سؤال: كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف عمارتها بدايةً؟

أحاول الإجابة من خلال عدد من النقاط:

أولها: أن الناس متخصصون بطبعهم، ولا يتحركون في اتجاه واحد إلا في الأزمات فقط، والنموذج الإسلامي يراعي هذا الأمر بخلاف النموذج العلماني المادي المعاصر. وذلك أن الإسلام يطالب الفرد المؤمن بتعلم التوحيد وتحقيق العبودية الحقة لله}فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ{(محمد:19)؛ وقيمة التوحيد في توطين أسماء الله وصفاته في حس كل مؤمن،وأول ما يثمر مبدأ المراقبة والعمل للآخرة، فالله يرى ويسمع ويحاسب، والله يجزي على الإحسان إحسانًا، وحقوق العباد لابد أن تؤدى إليهم..

والشريعة تأمر الناس بالسعي وإتقان العمل، وفي الحديث:"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه"، والتفاضل بالتقوى}إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{(الحجرات: 13)، والتقوى قيمة خلقية وليست وظيفة أو مهنة، ما يعني أنها لا تعيق أحدًا من الاتجاه لما يحسن أو إلى ما يحب، فكل ينافس من حيث يحسن أو من حيث يحب.. ينافس في تحصيل التقوى واتقان العمل. وكل يدعو إلى الله في مجاله بحسن خلقه أو بما تعلم من كتاب ربه وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم. وإن ثمة ثغر فالكل مطالب بسده عن طريق فروض الكفآيات، والتي أوجدت التكافل الاجتماعي وبني عليها المجتمع كله، أو جله.

ثانيها: الإلتزام بالنص الشرعي أوجد عمرانًا من حيث لا يشعر الناس، بمعنى أن مجرد الإلتزام بتعاليم الشريعة أثمر عمرانًا؛ وفي كل مجالٍ من مجالات الحياة شهود على ذلك، ولأن المقام مقال نستعرض بعض الشهود:

-1القتلى في معارك الإسلام والقتلي في معارك الأمم الأخرى:

في معارك الأمم الأخرى تبرز فكرتين أساسيتين حول كل معركة: الأولى: أن المعركة كانت بمثابة كارثة تحل بأهل المنطقة التي يحدث فيها القتال، والثانية: أن عدد من يموت بعد المعركة أضعاف من يموت في القتال المباشر حال المعركة. بخلاف المعارك الإسلامية التي لم تكن تسبب أي ضررٍ للمنطقة التي ينشب فيها القتال ولم يكن يقتل في المعركة إلا من يجهز عليه حال القتال. والسبب هو أن الفرد المسلم امتثل لأمرٍ رباني وهو: التعجيل بدفن الميت }ثم أماته فأقبره{ (عبس: 21)، فكان المسلمون يدفنون القتلى (منهم ومن غيرهم) يومًا بيوم.. امتثالًا لأمر الله دون أن يفتشوا في الحكمة الخفية وراء هذا الأمر.. فقط يمتثلون للأمر كونه من الله العليم الحكيم، وبالتالي لا تتعفن الجثث ولا تنتشر الأمراض المعدية كما حدث في معارك الأمم الأخرى، فقد كانوا يتركون الجثث تتعفن وتنشر الأمراض في المنطقة فيصاب أهلها بالطاعون. فمعالجة هذا الأثر السيء للمعارك لم يأتِ بعد التعرف على خطورة ترك الجثث تتعفن، وإنما جاء بالتأدب بأدب رباني تم الإلتزام به دون أن يعرف سببه. بمعنى أن المقاتل المسلم ل وهو يسارع لدفن القتلى بعد يومٍ طويلٍ من القتال لم يفعل ذلك طلبًا للعمران وإنما امتثالًا لأمر الله وحدث العمران دون قصدٍ.. جاء ثمرة للامتثال لأمر الله.

-2المنهج التجريبي:

أوجد المسلمون تحولًا في العلوم، وذلك بظهور المنهج التجريبي: الانطلاق من المشاهدة لا معالجة مسائل نظرية.. فلسفية. وهذا التحول جاء كثمرة مباشرة للإلتزام بأمر الله ونهية.. جاء ثمرةً مباشرة لتطبيق نص شرعي؛ وذلك أن الله أمر عباده أن يتفكروا فيما يمرون عليه من آيات الله المشاهدة سواءً أكانت مخلوقات أو كانت آثارًا للأمم السابقة، جاء ذلك بالأمر المباشر}قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا{ وجاء بأسلوب الحض والحث}أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا{، وغير ذلك من الأساليب..
 ولأن الفرد المؤمن يسعى لتحقيق العبودية والتي هي الذل والخضوع لله عز وجل، والتي هي طاعة الله ورسوله، فإنه امتثل للأمر وراح يتدبر في كل ما يرى ويسمع؛ وكلٌ حيث يحسن أو يحب؛ فحدث تطوير في جميع مجالات الحياة، حدثت نقلة نوعية في العلوم التقنية والعسكرية. وبين عيني الآن عشرات الأمثلة التي تبين كيف حسم المسلمون المعارك الكبرى مع الفرس والروم ببركة التدبر والتفكر فيما تقع عليه أعينهم وفيما يقع على أسماعهم ولعل الله أن ييسر مقالًا خاصًا لهذا.

-3بناء المدن:

يظهر في فكر الذين يتحدثون بأن القيمة العليا في الإسلام هي الاستخلاف من أجل عمارة الأرض قيمة أخرى مرتبطة بقولهم أن عمارة الأرض هي المقصد الأعلى في الشريعة الإسلامية هذه القيمة هي: أن الإسلام امتداد للحضارات السابقة، يقولون بتراكم الخبرات وأن كل حضارة استفادت من التي قبلها، مع أن الحضارات تباد، ومع أن الحضارة الإسلامية لم تخالط غيرها إلا بعد أن سادت ومخالطة غير المسلمين ثقافيًا في بداية القرن الثالث الهجري كانت في العلوم الفلسفية وليست التقنية المتعلقة بالعمران، وكانت بداية الانحدار في الأمة. وسئل المفكر الفرنسي الشهير جارودي عن مدى صحة القو بأن الحضارة الإسلامية امتداد لما سبقها من الحضارات، فنفى هذا القول وتعجب منه واستدل بأن حضارة المسلمين حضارة دوائر وأقواس بخلاف حضارة غيرهم (خطوط مستقيمة). وهو ما أقصده.
المسلمون ارتكزوا على المسجد بدايةً.. يؤسسوه في أول يومٍ ينزلون فيه مكانًا ما، وبجواره السوق تسهيلًا على الناس في قضاء حوائجهم، بمعنى أن تكون الأغراض اليومية بجوار المسجد الذي يؤتى إليه كل يوم ٍخمس مرات، ثم يستديرون حول المسجد في حلق، من هنا جاءت فكرة جديدة للعمران (تعمير المدن)، في هيئة دوائر وأقواس، كما وصفها جارودي، وأصبح الفن الإسلامي يتكئ على فكرة الدوائر في البنيان وفي تشييد المدن، وظهر بركة هذا الأمر في قرب الوصول لمركز المدينة من أطرافها، وعدم تمركز الشمس في طول الشارع فيشق على من يسير فيه، وغير ذلك..
وانعكست المفاهيم على طريقة بناء البيوت ذاتها؛ فالبيت كبير يحوي ثلاثة أجيال (الجد وأبنائه وأحفاده).. مستدير يفتح للداخل من أجل الستر..

بمعنى أن العمران (البنيان) جاء من قيمة أخرى.. العبودية.. جاء ثمرة لها.. محققًا لها... نبت من الإلتزام بالنص الشرعي.

كادت تنفد الكلمات المخصصة للمقال ولم تنتهِ المحاور الأساسية التي تبين أن العمران أو الاستخلاف ليس هو المقصد الأساسي للشريعة الإسلامية، وأن عمران الأرض (تعميرها) ثمرة للإيمان بالله وأن الكافر مفسد وأن الكفر والعصيان فساد محض، علينا أن ندور حول الفكرة مرة ثالثة نبين نشأتها وسياق تمددها في الفكر الإسلامي في مقال قادم إن شاء الله وقدر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

[1] وهذا المعنى موجود عند سيد القمني وهو يتحدث عن أصول "العماليق وجرهم" انظر: سيد محمود القمني، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، (المملكة المتحدة، هندواي للنشر والتوزيع، 2017)، ص90، وقبل- هذه الصفحة- صفحات طوال يتحدث فيها عن هجرة المصرين للجنوب. 

[2] وكذا فعل سيد القمني وهو يتحدث عن وجود مقابر ذات شكل هرمي في أماكن متفرقة من الجزيرة العربية، يستدل بذلك على تمدد المصريين (الفراعنة) في الجزيرة العربية، وكأن الجزيرة العربية كانت قبل خليه حتى انتشر فيها المصريون وعمروها، انظر: سيد محمود القمني، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول، (المملكة المتحدة، هندواي للنشر والتوزيع، 2017)، ص97-99.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply