بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عاش ابن خلدون وعر الأخلاق، قلقًا، يرى أن ما هو فيه أقلَّ مما ينبغي أن يحصل عليه. ومات ولم يهتم أحد بما ترك، حتى جاء الغربيون وفتشوا في تراثنا فوجدوا ما كتب ابن خلدون فأخرجوا بعضه (المقدمة في التاريخ) واحتفوا به احتفاءً كبيرًا، ثم انتشر الاحتفاء بابن خلدون بين المسلمين. من وافق الغرب ومن عارضه!! والسؤال: ماذا وجد الغربيون عند ابن خلدون ليحتفوا به هكذا؟ وإن كان احتفاء الغرب بابن خلدون مبررًا فلماذا يحتفي به بعض المنتسبين للصحوة الإسلامية وهم يعلنون رفضهم للغرب، بل ومنهم من يعاديه؟!
أحاول تفكيك المشهد لنفهم سياقات الفعل التي تعمل في منظومتنا الفكرية ونتلقى مخرجاتها شئنا أم أبينا.
مارس الغربيون النقد النصي على الكتاب "المقدس" وكانت النتيجة أن عامة ما دون في الكتاب "المقدس" غير مقدس، بمعنى أن كثيرًا من النصوص التي بين دفتي الكتاب "المقدس" لم يثبت نسبها للمسيح، عليه السلام، ولا يُعرف، على وجه الدقة، كاتبها؛ وكانت الفاجعة في عدم صحة ما ورد من أخبار تتعلق بتاريخ نشأة العالم، والأمم السابقة. مما أدى إلى أن فقد الغربيون الثقة فيه كمصدر من مصادر المعرفة، وجنح القوم لرفض كل ما جاء من المتدينين، ومن ثم اتجهوا للكفر الصريح (الإلحاد)، وظهرت الوضعية Positivism، وهي (أي الوضعية) الإيمان بالمشاهد والكفر بالغيبيات التي تتحدث عنها الكتب السماوية، وكانت المشكلة الأكبر عندهم في إيجاد مصدر يأخذون منه قيمهم ومبادئهم التي يديرون بها المجتمع. وهنا كان الحل عند ابن خلدون، في مقدمته للتاريخ تحديدًا. وجدوا عنده ضالتهم.
ابن خلدون وحتمية الواقع:
ابتدع ابن خلدون في مقدمته شيئًا جديدًا وافق هواهم، وهو "قوانين الاجتماع الإنساني"، وذلك حال نقده لأخبار السابقين له من المؤرخين، يقول الأخبار منها إنشائي ومنها وقائع (أحداث)، وأن الإنشاء يعتبر فيه الجرح والتعديل للراوي، وأن الأحداث لابد أن تحاكم لما سماه "قانون الاجتماع الإنساني"، وأن سبب وجود أخبار كاذبة في كتب التاريخ هو الجهل بقوانين الاجتماع الإنساني. بمعنى أنه يرى أن قوانين الاجتماع الإنساني ثابت يحاكم إليه غيره. من هنا كانت بداية علم الاجتماع الحديث. من حتمية الواقع. من أن الواقع هو مصدر القيم. من أن الواقع (البيئة) هو الذي ينشئ الأخلاق ويؤسسها. وحتمية الواقع تفيد، أيضًا، النسبية، وذلك أن لكل واقع حتميته، فما تعارف عليه الناس هنا غير ما تعارفوا عليه هناك... وهكذا!!
وإن عامة ما ترى تفريع على هذه المقولة، فمثلًا عباس العقاد يقرأ كل شخصياته في ضوء مقولة ابن خلدون هذه (تأثير البيئة) ويضيف إليها العوامل الوراثية؛ وقدمت شرحًا مفصلًا لهذه الفكرة (تأثير البيئة) حال مناقشتي لعباس العقاد وذلك في كتاب "مناقشة هادئة لإسلاميات عباس العقاد"، وفي مقالٍ بعنوان "خطيئة ابن خلدون"، ومقالٍ ثالث أهم بعنوان "من وحي الشيطان" وكلها في الصفحة الخاصة بطريق الإسلام وصيد الفوائد.
وصدّر الغربيون هذا المفهوم (أو المقولة التفسيرية) التي تتمحور حول: حتمية الواقع، أو سيادة الواقع، أو قوانين الاجتماع الإنساني، صدَّروها لمن تبعهم كمسلمة غير قابلة للتفكير، وفي ذات الوقت تتحدث نخبتهم عن أن "الواقع مصنوع" وأن هذا العالم الذي نعيش فيه "عالم من صنعنا"، وأن القيم والأخلاق تتطور من خلال تفاعلات الأشخاص مع الهياكل المجتمعية (المؤسسات)، فالحقيقة أن ثمة نخبة تصنع الهويات...ثمة نخبة تعالج المجتمعات حتى تحدث تحولات جذرية فيها فتنقلها من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار كما حدث في التعامل مع الجنس، فمن تحريم التحدث فيه في العلن إلى ممارسته على رؤس الأشهاد، والله يسمع ويرى وإنا إليه راجعون ومحاسبون. فالهوية تصنع ولابد، وعامة الناس تبع لنخبتهم (سراتهم.. الملأ منهم)، والنخبة المتحكمة تخضع لمنظومة قيم، ومنظومة القيم هذه هي التي تصوغ الواقع، هذه هي الحقيقة التي لا مراء فيها.
وقبل ابن خلدون بمئتي عام، وحال تفسير قول الله تعالى:}وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٍ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ{(البقرة:من الآية251) انتبه الإمام الفخر الرازي، رضي الله عنه، لما دندن حوله ابن خلدون، ولكنه تحدث حديثًا آخر غير ما قاله ابنُ خلدون. تحدث عن ضرورة الاجتماع البشري، وذكر هذه الجملة بنصها:"الإنسان مدني بالطبع"، وذكر أن الاجتماع يؤدي إلى التعاون وإلى المنازعة المفضية إلى المخاصة أولًا، والمقاتلة ثانيًا. ولكنه لم يتحدث عن توافق اجتماعي (عقد اجتماعي) كما فعل ابن خلدون والذين جاءوا من بعده من "علماء" عصر "التنوير" الأوروبي، وإنما تحدث عن ضرورة الشريعة الإسلامية لتنظيم شئون الإنسان. فالله هو الذي خلق وهو أعلم بخلقه}أَلَا يَعۡلَمُ مَنۡ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلۡخَبِيرُ{(الملك:14)، وأن الناس إن تركوا فسد حالهم كما هو حادث اليوم (انتشار الخوف، والجوع، والمرض... إلخ، مع تمكنهم من أسباب الفعل المادية).
وهنا سؤال لابد من إثارته: لماذا لم ينصرف الغربيون عن ابن خلدون، بعد أن أخذوا الفكرة منه، ويردموا عليه كما فعلوا مع علماء الطبيعة (الفلك والحساب..)، السبب هو تضخيم هذه النماذج في حسِّنا.. كأن ما هم عليه بضاعتنا وبالتالي نحن أحق بها منهم. وفعلوا مثل ذلك مع علماء الاجتماع والتأويلات الفقهية كابن رشد الحفيد، ولم يفعلوا ذلك مع علماء الطبيعة.
وهذا ما حدث بالفعل، فغير قليل من نخبتنا، وخاصة تلك التي ترتوي من المصادر الغربية عظَّمت ابن خلدون واحتفت به كثيرًا وتعاملت مع نصوصه ومفاهيمه كأنها وحي يستقى منه. وزاد الأمر في العقود الأربعة الأخيرة، وذلك بعد ظهور موضة فكرية ترفع شعار إعادة تشكيل العقل العربي، وهي مقولة غربية عبرت إلينا عن طريق "محمد عابد الجابري"، ووجد فيها الدكتور محمد عمارة ذاته، فقد كان يبحث عن منطقة خليّة يقف فيها منفردًا، أو كما يقول هو:"خلق قارئ جديد"،فراح تحت مظلة هذه المقولة (إعادة تشكيل الموجود) يعيد قراءة ما اشتهر في الساحة ويقدمه بطريقة جديدة، فعمد إلى رموز العلمانية وراح يثبت أنهم لم يكونوا علمانيين كطه حسين!!؛ ونشط،رفقة ثلة ممن يبحثون عن مسارٍ مستقل بوعٍ أو بدون وعي،لإعادة قراءة شيخ الإسلام ابن تيمية وعامة مرجعيات الحركة السلفية،وكانت المحصلة أنهم افتعلوا معركة وهمية قضوا فيها نحبهم،فلا تدري من كانوا يصارعون؟ وقدمتُ مناقشة هادئة لهؤلاء الكرام تحت عنوان (مداخلة مع الدكتور عبد الوهاب المسيري ورفاقه)، و (مناقشة هادئة لتفسيرات المسيري).
وعظَّم المتحمسون من السلفيين والإخوان ابن خلدون لشيءٍ آخر، هو أنه يتحدث عن ضرورة تحصيل الشوكة (العصبة) من أجل إنشاء دولة، ويتحدث عن أن الدول تهرم وتشيخ ثم تموت بعد طفولة وشباب في ثلاثة أجيالٍ أو أربع. وأحدث هذا الكلام حالة من الطرب عند هؤلاء، خاصة مع السياق "الثوري" الذي يعيشه المتحمسون من الصحويين، فهشُّوا وبشُّوا للحديث عن الشوكة وعن موت الدول، وسكن الوهم صدورهم بأن ما قاله ابن خلدون عن دولةٍ أو دولتين مضطرد على الدولة القومية الحديثة، وغاب عنهم أنهم في سياق غربي يطور نفسه ويهضم المنطقة العربية والإسلامية (الجنوب والشرق الأوسط) بعد أن هضم أوروبا الغربية (مشروع مارشال) ثم أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وغاب عنهم أن استخدام القوة متآخر على ترسيخ المنظومة القيمية (العقيدة)، وأن استخدام القوة محدود جدًا ولابد، وأن السلطة في واقعنا المعاصر تتجلى في كل شيء تقريبًا ولم تعد كما قد كانت في العسكر وحدهم. نعم: غاب عنهم أن منظومة الفعل حاليًا علمانية والحركات الصحوية في سياقها..توظفها القوى المهيمنة من أجل تحقيق أهداف علمانية، وأهم الأدوات المعاصرة (في القرنين الآخرين) في التغيير هي الثورة وهي أداة علمانية بحتة (انظر للكاتب: ثورة جديدة شدة جديدة)، فالواقع أن الحركات أدوات في الصراع بين الدول لا أنها تصارع الدول!!
ابن خلدون والتطور:
ومما جعل الغرب يحتفي بابن خلدون ظهور فكرة التطور في نصٍ صريح، بل في سياقٍ كامل في مقدمته. ولا تقلْ فكرة التطور، عند الغربيين، أهميةً عن القول بحتمية الواقع، وذلك أن التطور يرسخ مفهوم استمرارية الحياة الدنيا، فالتطور يعطي تصورًا مفاده أن حياة الإنسان على الأرض حلقة من مليارات الحلقات، وسيتطور لغيره كما تطور غيره إليه، فلا معنى للحديث عن فناء الدنيا وإنما الدخول في أشكالٍ أخرى، هذا ملخص فكرة التطور، وهي فكرة شيطانية أملاها الشيطان على نفرٍ قبل ابن خلدون كالقزويني في "عجائب المخلوقات"، وابن طفيل في "حي بن يقظان"، وابن مسكويه في "تهذيب الأخلاق"، وإخوان الصفا في رسائلهم، وأرسطو في نظريته عن ترتيب المخلوقات في العالم، ثم انتشرت منسوبة لدارون.
ابن خلدون والنبوة:
وشيء آخر جعل الغرب يحتفي بابن خلدون. شيء ابتدأه ابن خلدون، أعطى الغرب ما لم يجده إلا عند ابن خلدون، ألا وهو تفسير النبوة والفتوحات الإسلامية، فقد أتى ابن خلدون بثلاثية اتكئ عليها المحادون لله ورسوله: أولها: حديثه عن تلقي الغيب (الوحي وغيره)، فقد أطال الحديث عن أن تلقي الغيب يأتي من خلال الصفاء الذهني، والصفاء الذهني يتحصل عليه بالخلوة والرياضة النفسية، كأن النبي حين خلا عشرات الأيام في غار حراء أعدّ نفسه للمعرفة عن الله، وهذا المعنى يترسخ في حس من يقرأ مقدمة ابن خلدون، ونقله عنه بكاملة عباس العقاد حال حديثه عن "الوعي الكوني"، فالوعي الكوني عند عباس العقاد هو هو بعينه ما تحدث به ابن خلدون عن تلقي الغيب من خلال الرياضة النفسية التي تصفي الذهن وتجعله يعلم الغيب من تلقاء نفسه. ومحصلة هذا القول أن النبوة مجهود ذاتي وليست اصطفاء من الله، وأن النبي، أي نبي، شخص اجتهد وليس وحيًا نزل من السماء على من شاء الله من عباده، والله يقول:}ٱللَّهُ يَصۡطَفِي مِنَ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ ٱلنَّاسِۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِير{ (الحج:75)، والله يقول:}يُنَزِّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ بِٱلرُّوحِ مِنۡ أَمۡرِهِۦ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ أَنۡ أَنذِرُوٓاْ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱتَّقُونِ{(النحل:2).
ثانيها: تفسيره للفتوحات الإسلامية بالتوحش الناشيء (انظر: الفصل الحادي والعشرون: في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع)، واستحضر تحريض عمر لأهل الحجاز على الذهاب للعراق، مع أن تحريض عمر في النص الذي نقله قائم على نشر الإسلام وليس التوسع في الملك بدافع "القدرة على التغلب".
وثمة ملحوظة شديدة الأهمية وهي أن كلاهما (ابن خلدون وعباس) يسهب في شرح شيء ما، في سياقٍ لا يفهم منه سوى أنه مؤيد له، ثم ينفيه بجملة أو جملتين لا يزيد. يفعل هذا كي يحدث حالة من التذبذب ليجد المحب عذرًا إن صادف مُنْكِرًا يشجب على النص، ولو كان ينكر إنكارًا حقيقيًا لما تحدث بما تحدث به ابتداءً.
وهذه القضية (أن النبوة أو التعرف على الغيب) مجهود ذاتي هي أم القضايا عند المهتمين بنفي النبوة عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذلك أن جهدهم في إثبات أن البعثة كانت مشروع شخصي للرسول، صلى الله عليه وسلم، وهو ما دندن حوله "ول ديورانت" في قصة الحضارة، وهو ما يدندن حوله كثير من المشككين في بعثة النبي، صلى الله عليه وسلم، كسيد القمني في "الحزب الهاشمي"، و"حروب دولة الرسول"، صلى الله عليه وسلم، وقد عالجت هذا المفهوم في مقال بعنوان "فجائية الدعوة أكثر ما يؤرق المخالفين".
حين تجمع هذه المفاهيم الثلاثة: "حتمية الواقع/ البيئة"، والاجتهاد الشخصي[القدرات الذاتية]، والعامل الوراثي، تخرج بنتيجة أن ما على الأرض من فعل البشر دون وحي من الله الخالق المدبر للأمر سبحانه، وتعلم أن النص الذي تركه ابن خلدون متكئ أساسي للمحادين لله ورسوله. يقول الله تعالى:}ٱللَّهُ خَٰلِقُ كُلِّ شَيۡءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٍ وَكِيل{(الزمر:62)، ويقول الله تعالى:}وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ{(هود: 123).
وثالثها: حديثه عن أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين، ويفسر الفتوحات بحالة التوحش التي كان يعيشها العرب، يقول: أصعب الأمم انقيادًا، وأهل غلظة وأنفة، ومنافسة في الرئاسة، وأنهم أهل بداوة أكثر من غيرهم[1]؛ ولا أدري عمن يتكلم: فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم من أم القرى ومن يثرب.. هؤلاء هم الذين أسسوا دولة الإسلام وهم الذين حاربوا الأعراب حتى أخضعوهم، وأسسوا مدنًا في العراق (الكوفة والبصرة)، وكان للعرب ملكًا في اليمن، والعراق والشام، واستقرار في مكة والمدينة خيبر وغيرهم، وكانوا أهل تجارة (خاصة قريش).
وهذه الأفكار التي ابتدأها ابن خلدون ظهرت جليًا في كتابات الرافضين للرسالة المحمدية وعلى سبيل المثال سيد القمني. هذا الأفّاك شديد الكذب كأنه ينقل عن ابن خلدون.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[1] وهو عنوان الفصل السابع والعشرين في مقدمته.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد