بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قبل عَقْدٍ ونصفٍ تقريبًا كنت معنيًا بالرد على شبهاتِ النصارى، وكانت بعضُ الشبهاتِ عن التكرارِ في القرآن الكريم، يقولون: ما فائدته؟
وفتشتُ طويلًا فيما درستُه من قبل في التفسيرِ وأصولِهِ، ثم تجولتُ في دروسِ المختصينَ عن إجابةٍ شافيةٍ، ولم أجدْ. يقولون: لا تكرار. وذلك لأن السياقَ يُغير المعنى فكلُ لفظةٍ في سياقِها تدلُ على معنىً آخر غير التي تشبهها. وكلامُهم يَدْفَعُ التكرارَ في بعضِ المواقعِ دون بعضِها. وسياقُهم الذي يتحركونَ فيه سياقٌ دفاعي.. كأنّ التكرارَ في القرآن الكريم تهمةٌ وقصارى جهدنا أن ندفعها. ويَقِيني أن كثرةَ التكرارِ في القرآن الكريم تدلُ على فائدةٍ كبرى علينا أن نبحثَ عنها ونُبرزها وليس شيئًا سلبيًا يحتاجُ أن نسترَه وندافعُ عنه.
ثم جاءت الدراسةُ الأكاديميةُ لتضيفَ على القضيةِ أحمالًا أخرى، وذلك أن الكتابةَ الأكاديميةَ ترفضُ التكرارَ مطلقًا وتراه مخلًا بالصياغةِ، وترفضُ الاسترسالَ، وفي الوسطِ الأكاديمي يرتفعُ سؤالٌ عن التكرار في القرآن الكريم: لماذا التكرارُ، ولماذا الاسترسالُ؟، ولماذا لا توضعُ قضايا القرآن منفصلةً عن بعضها ومحررةً بشكلٍ دقيقٍ وصارمٍ كما يُفعل في الكتابةِ الأكاديميةِ؟!، حتى تجرأَ بعضُ من ترجمَ معاني القرآن الكريم من المستشرقين وقال: يحتاجُ إلى تحرير!!
لم أجد إجابةً شافيةً وقتها، وما شئتُ أن أنقل قولًا أراه منقوصًا، وشاء الله أن أطالعَ في كتاباتِ الدكتور على الوردي، وخاصةً تلك التي يتحدثُ فيها عن (مهزلةِ العقلِ البشري) وكتاباتِ الدكتور عبد الوهاب المسيري، وخاصةً تلك التي يتحدثُ عن رحلتهِ الفكريةِ من البذورِ والجذورِ إلى الثمرِ، والتقيتُ قومًا يتحدثونَ عن (علمِ صناعةِ العادات). ومن هنا حُلَّتْ في ذهني قضيةِ التكرارِ في القرآن الكريم. وأحاولُ عرضَ هذا الغليانِ الفكري الذي استمرَ لعقدٍ ونصفٍ تقريبًا في رأسي في هذه الأسطر إلى أن ييسر الله وقتًا لبسطِ القولِ في المسألةِ.
يعتقدُ علي الوردي أن الإنسانَ يجبرُ على أفعالِه، والجبرُ عنده من البيئةِ وليسَ من الله، يقول: كلُ ما يَظهرُ على الإنسانِ من خيرٍ أو شرٍ من أثرِ البيئةِ، ورفضَ-هو- أن يتسلَّم جائزةَ الدولةِ التقديرية، بدعوى أن ليسَ له فضلٌ فيما حصل عليه من شهادات، يقول: إنما الفضلُ للبيئةِ وللظروفِ التي أعطتُه ولم تُعط غيره، ولا أدري: ألم يكن معه عشراتٌ، بل مئاتٌ، في نفسِ الظروفِ وفشلوا، أو لم يكونوا مثله؟!، أم كان وحيدًا طيلةَ حياتِه؟!!
والقولُ بأن الإنسانَ ابنُ بيئتهِ، وأن البيئةَ هي الفاعلُ والمؤثرُ الأقوى أو الوحيد، هو قولُ ابنُ خُلدون، والورديُ نقلَ هذه الفكرةَ عن ابن خُلدون وطوَّرها، وراحَ يبثُ بين الناسِ أن الإنسانَ آلةٌ تتحركُ بمؤثراتِ البيئةِ.
رحلَ علي الوردي وبعد عقودٍ من الزمن جاء التطورُ التكنولوجي، وأصبحت التقنيةُ الحديثةُ-التي تُسَهِّلْ التواصل بين الناس- في يد الجميع، وظهرَ على أثرِ ذلك (عِلمُ صناعةِ العاداتِ)، ومن خلال هذا العلمِ يحاولُ بعضُهم صُنعَ عاداتِ الناسِ والتحكمِ في سلوكهم، والوسيلةُ إلى ذلك هي التكرار: تكرارُ الطلبِ، تكرارُ المعلومة، صناعةُ النموذج (المثَل) (القدوة) وتكرارُ عرضه. وبفعلِ التكرارِ تم صناعةُ تسعةِ أعشارِ الإنسانِ المعاصر!!.. بفعل التكرارِ تم التحكمُ فيما يأكلُ الفردُ، ويشربُ، ويلبسُ، ويسمعُ، ويشاهدُ، وفيما يتحدثُ فيه من موضوعاتٍ، بل وفيما يفكرُ فيه ويهتمُ به من قضايا. وبسببِ امتلاكِ الناسِ لوسائلِ التواصلِ التكنولوجية الحديثة سَهُلَ صنعُ العادات حتى أصبحَ كثيرٌ من الناس على ما يقول علي الوردي: بلا عقلٍ، أصبحَ الحديثُ عن أن للإنسانِ عقلٌ مهزلةٌ!! أصبح الإنسانُ المعاصرُ مصنوعٌ بأفلامٍ ومسرحياتٍ وإعلاناتٍ وأغاني، ومناهجَ دراسية، ومتطلباتِ وظيفة حكومية.. إلخ.
ثم أتيتُ الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو يتحدثُ عن رحلتِهِ في الحياة، وفي التفاصيل تحدثَ عن إصرارِ الشركاتِ الكبرى (العابرةِ للقوميات) على ا لتكرار، في الإعلانات وفي تصميم المطاعم، ثم بيَّن أن التكرارَ هدفُه تثبيتُ عادةٍ من العادات، أو صنعُ عادةٍ جديدة. ووقفَ ذاتَ مرةٍ يعرضُ ورقةً قدَّمها لعددٍ من النخبةِ المثقفة عن النماذجِ كأداةِ تحليلٍ، يقولُ في شرحه لورقته: كررتُ كثيرًا في الورقة كي أُثبِتَ الفكرةَ عندكم.
خرجتُ من عند علي الوردي ومن عند الدكتور المسيري وهؤلاءِ الذين يصنعونَ العادات بأدواتِ التكنولوجيا يستهدفون صنع إنساٍن استهلاكي، وكالعادة وضعت ما فهمت بين يدي وَرُحْتُ أعيدُ النظر فيه مرةً بعد مرةٍ، وخرجتُ بشيء أتلوها على حضراتكم في ثلاثِ نقاط محددة:
وتكون النتيجةٌ أن من يمتثلَ للبرنامجِ الرباني يكونُ حالُه على ما وصفَ اللهُ المؤمنين في كتابه}رحمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ{(الفتح: 29).
هذا حالُ النموذجِ المثالي (الصحابةُ رضوانُ الله عليهم): كأنَّ من ينظرُ إليهم في أي وقتٍ يجدَهم رحماءَ بينهم، ركعًا سجدًا، يبتغونَ فضلًا من الله ورضوانًا..
يحدثُ هذا بمجردِ المرورِ على كتابِ الله واتيانِ الفرائض، ولا يحتاجُ الأمرُ لما يتنادون إليه الآن تحت مسمى "التدبر"، فبمزيدٍ من التفكير نجد أن الذين يطالبون بالتدبرِ ويهملون التلاوةِ بشكلٍ دائم متكررٍ (أعني الوردَ اليومي) يتنطعون، وخاصةً حين يطالبون مَن لا حظَّ له من التفسيرِ والفقه والدرايةِ بالسيرةِ النبوية أن يتدبر، فالتدبرُ الذي يقصدونَه لا يَصِلُ إليه إلا مَن عَبَرَ بحرَ المعنى بعلمٍ بالتفسير وقلبٍ حاضرٍ وحالةٍ من الرقي الإيماني. وهو حالُ الخاصةِ. وإلا فهي ظنونٌ وتخميناتٌ. وأكثرُ الذين يتحدثون عن التدبرِ ينقلونَ نُكتَ أهل التفسيرِ وقدامى المتدبرين، وكثيرٌ منهم هاربٌ من المجالِ السياسي ويقضي وقتًا في ظلالِ القرآن بعيدًا عن حرِّ السياسة. وهي حالةٌ من الهروب من مواجهةِ فروضِ الأعيانِ والكفآيات...
تكفي فقط التلاوةُ التي يعقلُ فيها صاحبٌها ما يقرأُ. ويكفي فهمُ ما يتبادرُ للذهنِ من النصِّ (المعنى الأول من التفسيرِ الذي ذكرهُ ابنُ عباس)، يكفي ما يحملُه النصُ على جبينهِ وراحتيه ويراهُ كلُ عابرٍ عليه، لا داعي أبدًا أن نستحثَ العامة للبحثِ عما يخفيه النصُ لخاصةِ القراء، ومن يتدبر يجد أن اللهَ سبحانه وتعالى ذِكره جعلَ التزكيةَ على التلاوةِ}يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتهِ وَيُزَكِّيهِمْ{، وبهذا فإن التدبرَ المطلوبَ في قولهِ تعالى:}كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آياتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ{، هو فهمُ المعنى المتبادرِ من النصِ وليس القراءةَ بلا أدنى تفكرٍ.. هذه التي قال عنها ابن مسعود نَثْرَ الدَّقْلِ، و هَدَّ الشعرِ.
ثانيها: أن كثيرينَ تُصْنَعُ عاداتُهم وتقاليدُهم وتحددُ لهم أهدافُهم، سواءً في الثيابِ، أو الطعامِ والشرابِ، أو مواضيعِ المناقشةِ على المواقعِ، أو في مواضيعِ الكتابةِ والمشاركةِ الفكريةِ.. كلُّ هؤلاءِ عامةٌ يتحركونَ حيثُ يُرادُ لهم.. مجبرين على ما يفعلون، وإن انتفخوا، وإن ظهرَ أنهم مَتبُوعين. ففي المشهدِ مَنْ يَصنَعُ الحدثَ. فالبيئةُ تُصنعُ.. والهويةُ تُصنع. وكان على الدكتور علي الوري أن يسأل عمن يصنعُ عاداتِ الناسِ وتقاليدَهم. لا أن يُعمم باعتبارِ الكثرةِ العددية. كان عليه أن يَفهم أن قلةً تتحكمُ في الأكثريةِ وتستتبعَهم، أو تستعبدَهم. كان عليه أن يَفهمَ أن الناسَ فريقان: مَلأٌ وأتباعٌ.. في الخيرِ والشرِ. ملأٌ يخططون وأتباعٌ يسيرون خلفهم. وكلٌ يختارُ حسبَ ما أُشْرِبَ في قلبه. فالعامةُ ليسوا سكارى، وإنما يدَّعون السكرَ ليُحَمِّلوا غيرَهم إثمَ ما تَشْتَهيهِ أنفُسُهم، وكلٌ مأخوذٌ بعملِه ولكلٍ ضِعْفٌ يومَ القيامة}قَالَ ٱدۡخُلُواْ فِيٓ أُمَمٖ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُم مِّنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ فِي ٱلنَّارِۖ كُلَّمَا دَخَلَتۡ أُمَّةٞ لَّعَنَتۡ أُخۡتَهَاۖ حَتَّىٰٓ إِذَا ٱدَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعٗا قَالَتۡ أُخۡرَىٰهُمۡ لِأُولَىٰهُمۡ رَبَّنَا هَٰٓؤُلَآءِ أَضَلُّونَا فََٔاتِهِمۡ عَذَابٗا ضِعۡفٗا مِّنَ ٱلنَّارِۖ قَالَ لِكُلّٖ ضِعۡفٞ وَلَٰكِن لَّا تَعۡلَمُون{(الأعراف:38)، واللهُ أعلمُ بخلقهِ.
ثالثها: أن القوةَ قوةُ أدواتٍ، وأن الأدواتِ الحديثةِ (التكنولوجيا) تعملُ مع صاحبِها. وهادفةً لا تتحركُ بعشوائيةٍ، وأن كثيرًا من الذين يظنونَ أنهم يفيدون من التقنةِ الحديثةَ لخدمةِ دينهم يتحركونَ حيث يُرادُ لهم.. يَخدمونَ عدوَّهم. وهذا الشرُ كله يُزال بأن يَرِدَ الناسُ مأدبةَ الرحمن، بأنْ يُرتلون حزبًا كلَّ يومٍ ويلتزمون الأذكارَ والفرائضَ ليُعادَ صياغةَ شخصيتهم بما في الذكر الحكيم من تكرارٍ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد