الدين الحسن الخلق


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد.

الحمد لله: لا فوز إلا في الإلتزام بطاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، ولا حول الا بالانحياز لقوته، ولا سمو الا بالايمان بقدرته،

وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، اعتز بالله فأعزه، واستنصر بالله فنصره، وتوكل علي الله فكفاه، وتواضع لله فذلل له رقاب الكافرين،

 المبعوث بالدين القويم، والدستور الحكيم، والصراط المستقيم، أرسله الله رحمة للعالمين، وإماما للمتقين، وخاتما للنبيين.

-الميزان الدقيق:

أيها المسلمون: طلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، وصدق التوجه، وحسن الظن، وكرم الأصل، وصفاء النفس، وطيبة القلب، ولين الجانب، وصلة الرحم، هذه أخلاق المسلم الذي آمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بوصية عظيمة فقال: "يا أبا هريرة! عليك بحسن الخلق

حسن الخلق هو الميزان الدقيق في المجتمع، يحقق الأمان، ويرفع البنيان، ويريح الابدان، ويُرضي الرحمن .

 قال أبو هريرة رضي اللّه عنه: وما حسن الخلق يا رسول الله؟ قال:" تصل مَنْ قطعك، و تعفو عمن ظلمك، وتُعطي من حرمك "رواه البيهقي

-مكارم الأخلاق:

 إن مكارم الأخلاق صفة من صفات الأنبياء والصديقين،وسجية من سجيات المؤمنين والصالحين، بها تُنال الدرجات، وتُرفع المقامات، وتُمنح الرحمات، وقد خص اللّه تعالي نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فجمع له محامد الأخلاق ومحاسن الآداب.

حتي قال الله سبحانه وتعالي فيه " وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ " القلم

وللخلق الحسن أثرٌ كبيرٌ في استحقاق الإنسان للصحبة من عدمها، فلا ينبغي للإنسان أن يُصاحب من ساء خلقه، ومن لا يملك نفسه، لا عند الغضب، ولا عند الشهوة، ولا عند الشهرة!!

-الأصول الأربعة:

عباد الله: الأخلاق في الإسلام عظيمة الشأن، سامية القدر، عالية المكانة، ولذلك دعا المسلمين إلى التحلي بها، وغرسها وتنميتها، في أصولهم وفي نفوسهم، وفي معاملاتهم، وهي أحد الأصول الأربعة التي يقوم عليها الدين الحنيف: الإيمان والأخلاق، والعبادات، والمعاملات، ولذا نالت العناية الفائقة والمنزلة العالية، في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله.

بل إن الأخلاق الكريمة تدعو إليها الفطر السليمة، والقلوب الرحيمة، والشرائع المستقيمة، فالصدق والوفاء بالعهد، الجود والصبر، الشجاعة وبذل المعروف، أخلاق فاضلة يستحق صاحبها التكريم والثناء، وأن الكذب والغدر، الجبن والبخل، الحسد والحقد، أخلاق سيئة يذم صاحبها ويُساء

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم

النفس من خيرها في خيرعافية

والنفس من شرها في مرتع وخم

-أخلاق المتقين:

أيها المسلمون: إن المسارعة الي المغفرة، والدعوة الي الجنة نداء القرآن لأصحاب الأخلاق الحسنة والقيم العالية والآداب الرفيعة، قال تعالى: " وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " آل عمران

وهنا نجد أن التقوى تظهر حالك مع ربك، ومدافعة السيئة بالحسنة تبين حالك مع نفسك، والخلق الحسن يقيس حالك مع غيرك، كيف؟! قال عليه الصلاة والسلام: "اتق اللّه حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخُلق حسن "، رواه الترمذي

الدفع بالحسنى: و الدفع بالحسنى يقلب البعد الي قرب، ويحول البغض إلى ود، ويبدل العداوة محبة، قال سبحانه  " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " فصلت

العفو والرحمة: عباد الله: إن العفو سجية عظيمة وخلق رفيع أجره على الله لا علي أحد سواه: " وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ " الشورى

وكان محمد صلى الله عليه وسلم مصدر الرحمة التي استقاها من الله، يفيض بها على العالم بوجه عام " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " الأنبياء.

وعلى الصحابة بوجه خاص: " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ " آل عمران

والإعراض عن الجاهلين والعفو عنهم اخلاق المصلحين في كل وقت وحين: " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ " الأعراف

 أعلى درجات الجنات: إن حسن الخلق جواز مرور إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: " أكثر ما يدخل الناس الجنة، تقوى اللّه وحسن الخلق " رواه الترمذي والحاكم

بل إن صاحب الخلق الحسن يصل لأعلي الدرجات: " إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم " رواه أحمد.

أنه من كمال الإيمان: قال عليه الصلاة والسلام: " أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا "، رواه أحمد وأبو داود.

-الاخلاق تبني الأمم:

عباد الله: صاحب الخلق الحسن ينفع البلاد والعباد: أحب الناس إلى اللّه أنفعهم، وأحب الأعمال إلى اللّه عز وجل، سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا. رواه الطبراني.

إنما الأمم الأخلاق مابقيت          فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

أيها المسلمون: المسلم مأمور بالكلمة الهيِّنة الليِّنة لتكون في ميزان حسناته، قال عليه الصلاة والسلام: "والكلمة الطيبة صدقة "، متفق عليه

بل وحتى التبسم الذي لا يكلف المسلم شيئًا، له بذلك أجر:" وتبسمك في وجه أخيك صدقة "رواه الترمذي

خيري الدنيا والاخرة: إن حسن الخلق يجمع بين خيري الدنيا والآخرة، والزوج حسن الأخلاق هو الفائز بزوجته في الجنة: عن أم سلمة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها، مَنْ يكون زوجها؟ قال:" يا أم سلمة؛ إنها تخير فتختار أحسنهم خلقًا "، فتقول: أي ربِّ إنَّ هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوجنيه،" يا أم سلمة ذهب حسنُ الخلق بخير الدنيا والآخرة"

 كان صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشِّقَاقِ، وَ النِّفَاقِ، وَ سُوءِ الْأَخْلَاقِ."

حَسن الخلق وسيئه: عباد الله: حسن الخلق أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى.

حسن الخلق ان يكون العبد كثير الصلاح، صدوق اللسان قليل الكلام.

وأن يكون كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول.

برًا وصولًا، وقورًا، صبورًا، شكورًا، راضيًا، حليمًا، رفيقًا، عفيفًا، شفيقًا.

وألا يكون لعانًا ولا سبابًا، ولا نمامًا ولا مغتابًا، ولا عجولًا ولا حقودًا ولا بخيلًا، ولا حسودًا.

بشاشًا هشاشًا، يحب في اللّه، ويرضى في اللّه، ويغضب في اللّه، وكل هذه الاخلاق وغيرها أتمها المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم حيث قال:" إنمّا بُعِثت لأتمّم مكارم الأخلاقِ".

وأخذ الصحابة الكرام رضوان الله عليهم جميعا هذه الأخلاق، واستقوا من هذا المعين،

 وقد أثبت التاريخ أنّ انتشار الإسلام في الشرق الأقصى من العالم، كأندونيسيا، والفلبين، وماليزيا لم يكن بفصاحة الدعاة، ولا بسيف المجاهدين من المسلمين، بل كان بأخلاق تجار المسلمين.

 -حسن الخلق عبادة تحدد مكانك من نبيك:

الإسلام لم يتعامل مع الأخلاق على أنّها مجرّد سلوكٍ إنساني، بل جعلها عبادةً يُؤجر العبد على فعلها، والتخلق بها، كما جعلها ميدانًا للتنافس بين المسلمين، لتحصيل أكبر قدرٍ منها، ولذلك كان القرب منه في الاخرة والبعد، تبعا لحسن الخلق كيف؟!

قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجالس أحاسنُكم أخلاقًا، وإنّ أبغضَكم إليَّ، وأبعدَكم مني في الآخرة، أسوؤكم أخلاقًا".

 وحُسن الخلق من أثقل الأعمال في ميزان الإنسان يوم القيامة،

عن أبي الدرداء قال صلى الله عليه وسلم: "ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي".

أقوال الصالحين: عباد الله: اقوال الصالحين في حسن الخلق: قال عبد الله بن المبارك أنّه: بسط الوجه، وبذل المعروف، وكفّ الأذى، وقال ابن حجر رحمه الله: هو انتقاء الفضائل من الأمور، وترك رذائلها،

 وهذه وصية علقمة العطاردي لابنه قبل موته: يا بني؛ إذا أردت صُحبة إنسانٍ فاصحب من إذا خدمته صانك، وإن صحبته زانك، وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخيٍر مدّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها، وإن رأى منك سيئةً سدّها، اصحب من إذا قلت صدق قولك، وإن حاولت أمرًا أمرك، وإن تنازعتما في شرٍ آثرك.

 وكان الفضيل يرى أنّ من ساء خُلقه ساء دينه، ومن حَسُن خُلُقه حَسُنَ دينه، كما عدّ الأحنف بن قيس دناءة الخلق، وبذاءة اللسان شرّ داءٍ يُصاب به الإنسان، وعبّر بعض البلغاء عن سيء الخلق بأنّه في عناءٍ من نفسه، كما أنّ الناس حوله في بلاءٍ منه.

-عباد الله: من واقع الحياة:

ذات يوم سافرت ألقي خطبة الجمعة في مكان يبعد عن بيتي مسافة طويلة، اركب خلالها ثلاث مواصلات على الاقل، كانت المواصلة الأولي مشروع أربعة عشر راكب، بعدما اكتملت السيارة خرجنا من مجمع السيارات، وسار بنا السائق حتى قطع من الطريق اربعة كيلومترات تقريبا، وعند جمع الاجرة لم يجد فكة ليعيد الباقي للركاب، قال أحدهم: ممكن تفك من اي بنزينة (مزود وقود) او سوبر ماركت في الطريق، صاح السائق و اشتاط غضبا واستدار بالسيارة عائدا من حيث أتي، مهددا الناس أنه سيعمل بهم حادثة، أو ينزل بالسيارة في الماء، والنساء تصرخ من الخوف وهو يمشي بسرعة رهيبة، وعلاوة على ذلك يشتم و يسب ويتطاول علي الناس وعلي الدين للأسف الشديد!!

نزل الركاب في الموقف وحصل بعض اللوم من زملائه، وركب الناس سيارة أخرى وخرج السائق الثاني بهم، جمع الناس الأجرة ونفس المشكلة لم يكن معه فكه، الا انه بأسلوب راق تحدث مع الناس، وانحاز الي بنزينة وفك الفلوس وأعطي الباقي للناس في تواضع جم.

في المواصلة الثالثة: ركب الناس وأنا معهم مع سائق ثالث، حل مشكلة الفكة ايضا في سلاسة، ثم نسي ان ينزل احد الركاب في مكانه، ولما ذكره أحد الناس، عاد بالسيارة إلى الخلف حتى اوصل الراكب إلى مكانه الذي أراد أن ينزل فيه، معتذرا له بلطف: هل رضيت؟! رد الراكب: نعم رضيت، اشكرك كثيرا..

الشاهد أن اليوم جمعة، والمفروض اذكار واستغفار وصلاة وتهاني فهو عيد المسلمين الاسبوعي، لكن يتمايز الناس بحسن الخلق، فالسائق الاول: صاحب خلق سيئ، ألفاظ بذيئة، تصرف مشين، وأذى للناس، وتعطيلهم عن أعمالهم.

السائق الثاني: تحلي بقدر من الأخلاق، وأدى ما عليه، وحل المشكلة ببساطة، فشكره الناس، وشكر له الله.

السائق الثالث: كان رائعا، مثالا لصاحب الخلق الرفيع، يتحدث بصوت خفيض، يعتذر بتواضع، يبتسم في وجه الناس، اصطحب حب الناس، ونال دعواتهم.

هكذا الناس تتفاوت في التعامل حسب الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:" الدين المعاملة".

إن العبادات تثمر الأخلاق، وإلا فلا فائدة منها، ولا عائد من ورائها!!

كان صلى الله عليه وسلم قرآنا يمشي على الأرض، صاحب الخلق العظيم، يتعامل مع الناس بموجب القرآن، ويقضي بينهم بمقتضى الإيمان، وهو القائد القدوة، يقتدي به المسلم في حركاته وسكناته، في سفره ومقامه، في يسره وعسره، في قوته وضعفه، في غناه وفقره، في سلمه وحربه، وعافيته وسقمه، وصدق الله العظيم:" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " الأحزاب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply