الرحلة البرية في براري كاريليا 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في هذه الرحلة اكتشفنا بعضنا البعض واكتشفنا أنفسنا، ولعل هذا هو الجانب المظلم من الرحلة، في الحقيقة فالشيخ علي قائد الرحلة والرجل الذي لديه أكثر من عشرين سنة من التجارب في الرحلات البرية كان قد حذرنا مسبقًا بأن أعصاب الكثير من المشاركين لن تحتمل الخروج من مساحة الرخاء التي تعودوها في حياتهم الاعتيادية، فعلى الرغم من جمال الطبيعة ومتعة النظر بالمشاهد الساحرة إلا أن الرحلة ليست سهلة بالطبع، فهي تحتاج إلى بذل جهدٍ بدني لا بأس به، فالمشي كل يوم لمسافة ٢٠ كيلو مترًا وأنت تحمل حوالي عشرين كيلو غرامًا على ظهرك ليس بالامر اليسير لشخص تعود العمل خلف المكتب، وحتى السوق يذهب إليه بالسيارة، وفي السوبر ماركت يضع البضائع في سلة، وإذا وصل البيت يصعد إلى منزله بالمصعد بل يستخدمه حتى ولو كان صفر اليدين، وحتى ولو في الدور الثالث، فالحياة في المدينة علمتنا الخمول وخاصة أننا لا نمارس أي رياضة تذكر خلال السنة!

فتخيل نفسك أنك مضطر للمشي حاملًا تلك الأثقال ولا خِيار لك، فلا سيارة تمُر يمكنك أن تستقلها معلنًا خروجك، فأنت في منطقةٍ نائيةٍ ولا تستطيع الوصول إلى أقرب مكان فيه بشر إلا بالتزامك بالخطة، ولا يوجد اتصال فلا الهاتف ولا الإنترنت يعمل هنالك، مع أنني اعترف أنني شخصيًا كنت متمتعًا بعدم وجود الاتصال، فقد ارتحت من الكثير من الأعمال والمشاكل ولو لمدة أربعة أيام.

ولكن الصعوبات لا تتوقف عند هذا، بل كنا نضطر إلى المشي خلال الأوحال والمستنقعات، وخلال هذا تشعر بالخوف فأنت لا تعرف ما يوجد تحت قدمك، وخاصة أنك تنزع حذاءك وإذا كان وحلًا فأنت تنزع قدمك كل مرة بصعوبة شديدة لتقوم بالخطوة القادمة، ولكن أسوأ شيءٍ قابلناه فعلًا هو الأمطار والتي كنت غزيرةً بشكلٍ كبير وتستمر لساعاتٍ أحيانًا، وكنا بالطبع نتوقف عن الحركة وبمساعدة غطاءٍ بلاستيكي نغطي فيه أنفسنا ونجلس تحته كأنه خيمة، ولكن للأسف هي لم تكن كافية لحمايتنا وكنا نبتلُ بشكلٍ كاملٍ ونشعر أن الماء دخل في كل مكان، ويزيد الوضع صعوبة إذا كان هذا وقت نصب الخيام للمبيت أو تحضيرُ وجبة الغداء أو العشاء فتزيد المصاعب أكثر مما هي عليه.

وهنا يبدأ البعض بفقد الأعصاب والصراخ والجدال والتصارع على أتفه الأسباب، وتسقط الأقنعة ويظهر الوجه الحقيقي للشخص وتظهر عيوبه كلها من دون أن يملك أن يسترها أو يخفيها!

لذلك أخبرني الشيخ علي فورونوفيتش بأنه عندما كان يريد دائمًا تعيين موظف عنده في المؤسسة كان في البداية يعرض عليه المشاركة في مثل هذه الرحلات وهنالك ينكشف له معدنه الحقيقي.

فمن الحالات الطريفة أن كان عندهم شاب في المسجد يزعجهم بطيشه واتهامه لرواد المسجد بالجبن وقلة الرجولة، لذا دعاه الشيخ علي لرحلة كانت بالمناسبة أسهل بكثير من رحلتنا، ولم يمر يومين حتى انهار ذلك الشاب وبدء يصرخ: أمي! أين أمي! أعيدوني لأمي! وفعلًا رجع مع أول سيارةٍ التقوا بها، ولكنه من بعد هذه الحادثة ولم يزعجهم ابدًا.

أعرف أناسًا صارحوا بعضهم البعض بأمورٍ فظيعةٍ أثناء الرحلة، فكانت سببًا في القطيعة بينهم حتى الآن!

فعلًا هذا أمر غريب، كنت أظن أن الأفلام التي شاهدتُها عن أناسٍ بقوا يعيشون في الغابة أو جزيرة بعد غرق سفينتهم أو تحطم طائرتهم أو ما شابه، كنت أظن أنهم يبالغون، ولكن أثبتُ لنفسي أن هذا كله حقيقة، وآخر فلم سينمائي ذكرني بأجواء الرحلة البرية كان فيلم مدينة Z الأمريكي والذي يروي بناءًا على قصة واقعية رحلات لمغامر ومكتشف بريطاني لغابات أمريكا اللاتينية.

ولكنني أزعم بأنني تجاوزت الاختبار بنجاح ونجحت في كتم وضبط مشاعري، وإن كان ذلك بصعوبة، ولربما فالفضل في هذا يرجع لحجاتي التسع والحمد لله.

فالحج مدرسة في كظمِ الغيظ وسعة الصدر والصبر، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.

ومن طقوس هذه الرحلات البرية الاجتماع في اليوم الأخير من الرحلة بعد العشاء وتناول كعكة احتفالية تصنع من خليط البسكويت والحليب المكثف بالسكر مع الشاي طبعًا، وتعطى الكلمة لكل مشارك ليقول رأيه في الرحلة وفي زملائه معه وتبدأ المحاكمة: إحدى النساء قالت إن الرحلة ممتعة ورائعة وأكبر مغامرة في حياتها، ولكنها ستكون آخر مرة تشارك في مثل هذه الأمور!

أما عن كلمتي فقلت أنني تمتعت بالرحلة وسأبقى أذكرها مدى الحياة، وقد تشبعت عيوني أخيرًا بجمال طبيعة كاريليا الرائعة، وأما الصعاب فقد كنتُ مستعدًا لها نفسيًا فلم أخدع نفسي بأن كل شيءٍ سيكون سهلًا،  فأنا أعلم تمامًا أن البعوض محبٌ للقرص، والمطر يبلل، والمشي متعب، إلخ... من الأمور التي هي ضريبةٌ بسيطةٌ جدًا مقابل الإنجاز البطولي الذي قمت به، فأنا تحديت نفسي وانتصرت عليها.

ومن أكبر التحديات التي قابلتها شخصيًا تسلق الجبل! أعلى جبال كاريليا، فأنا أتعب عادة إذا مشيت في شارع فيه صعود، فما بالك بجبلٍ تتسلق فيها منحدراتٍ منحرفة جدًا حاملًا على ظهرك حقيبة ثقيلة لا تساعدك في الحفاظ على توازنك، ولكني فعلتها ومن دون أن يقدم لي أحد يد المساعدة، وأنا فخورٌ بهذا، وعند وصولنا لقمة الجبل كانت فنلندا من الغرب، وروسيا من الشرق، وطبيعة المكان كانت مميزة جدًا والشجر فيها قليل وحجمه صغير ولكن يوجد الكثير من الصخور الضخمة المتناثرة أحيانًا بشكل غامض، لذا هذه المنطقة كانت مكانًا مقدسًا ومحجًا للوثنيين الشامانيين أهل كاريليا الأصليين قبل انتشار النصرانية! ويوجد الكثير من الأساطير الغريبة التي يعتقدها البعض حتى الآن عن هذه الصخور، ولكننا قضينا ليلتنا هنالك ولَم تلحقنا أي لعناتٍ شامانية، بل رفعت صوتي بالأذان كعادتي طوال الرحلة واعتراني سرورٌ وراحة في داخلي بالقناعة بأن هذه البقعة من الأرض ضاقت ذرعًا بسخافات وترهات المشركين، ولعل الحجر والشجر كبّر وهلّل معي فرحًا.

في الختام أخبركم بأننا حصلنا على المركز الاول والميدالية الذهبية في مسابقة أحسن رحلة برية سياحية في اللجنة الاولومبية الرياضية البيلاروسية.

وأنا شاكر لأخي الشيخ علي فورونوفيتش على اصطحابه وقيادته لفريقنا، فهو إلى جانب عمله كمفتي لجمهورية بيلاروسيا فهو أيضًا بطل رياضي موهوب، فهو مثال يحتذى به للمسلمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply