عن والدي علي محمد إبراهيم البردويل


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

لم أكن أجرؤ على كتابة أي شيءٍ باللغة العربية خلال السنين الماضية، فقد كنت أشعر بالرهبة الدائمة من أن أخطئ في التعبير عما يجول في نفسي، فوجودي في روسيا منذ ثمانية عشر عامًا عزلني عن محيطي العربي، وأصبحت استخدم اللغة الروسية كلغة أساسية في التفاهم اليومي مع الناس في العمل وفي البيت وفي الشارع طبعًا، وإن كنت أسترجع قليلًا من لغتي المفقودة عندما أسافر إلى الدول العربية في زيارات العمل، ورغم خجلي من أن لغتي ليست صحيحة وربما لن تكون مقبولة من البعض أو محطًا للسخرية للبعض الآخر، إلا أنني قررت أن أكتب عن بعض أفكاري لعلي أُرضي شيئًا في نفسي يدعوني للتعبير عنها وإخراجها وإن لم يطلع عليها أحد.

توفي أبي منذ أيام، وهذا أثر فيّ كثيرًا، ولكني لم استطع حتى البكاء عليه، فكنت أُخفي مشاعري حتى لا أزيد مِن هَم مَن هُم حولي، وكم كنت أبحث عن مكانٍ للوحدة حتى أنفجر بالبكاء ولا أستطيع حتى بدأت أشعر بالألم من هذه الغصةِ في صدري، وأصبحت مزمنة ومستوطنة ولا تريد الخروج.

لم ألتقي بوالدي منذ سنين، وحتى هذه اللقاءات كانت قصيرةً للغاية، ولكني أذكر أبي وكلامه وطريقة حياته، وكثيرًا من الأمور الدقيقة التي تمر علي وأذكره فيها منذ ثمانية عشر عامًا وإلى اليوم وكنت قد فارقت أهلي للسفر للدراسة في روسيا وأنا في السابعة عشر من عمري!

تعب أبي كثيرًا في حياته، وكنا نلومه كثيرًا علي خياراته الغير مريحة له ولنا كعائلة، ولكن هل كان له الخِيار فعلًا؟ كان يعمل مُدرسًا للصفوف الأولى الإبتدائية رغم أنه تخرج من كلية الآداب في جامعة الإسكندرية، ولكنه كان يُفضل تدريس الأطفال الصغار أكثر من الكبار، وكانوا يحبونه جدًا، فأنا أذكر جيدًا أنه كان يرسم للتلاميذ على السبورة بعض الشخصيات الكرتونية من مسلسلات الرسوم المتحركة: غراندايزر وسندباد وغيرهم، ومن حُب الأطفال الصغار له مرةً كان أن تم تحويله من مدرسة إلى أخرى، وبعد فترة قرر أن يزور مدرسته القديمة للقاء زملائه المدرسين هناك، وعندما اقترب بسيارته من أسوار المدرسة لاحظ التلاميذ وصوله واجتمعوا عند بوابة المدرسة لاستقباله وصاحوا: (الشيخ علي جي) أي الشيخ علي جاء، وكرروها وكأنهم يستقبلون رئيسًا. كان يعمل مدرسًا في مناطق شبه نائية، فكان يُحدثنا أنه كان يعمل مدرسًا في مدرسة تبعد عن بيتنا 50 كلم في منطقة تسمى (كوم القرعة)، وكان يعمل في هذه المدرسة وحده فكان يُمثل كل الطاقم التدريسي والإدارة وكان يُعلم طلاب الفصول المختلفة موادًا مختلفة في نفس المكان والوقت ومن الطريف أنه كان يبيع لهم سندوتشات التونة في الاستراحة.

إلا أنه لم يكن يكتفي بعمل التدريس، فقد كان يمارس الصيد كمهنةٍ إضافية، وكان يُسافر بشكلٍ شبه يومي إلى مدينة الخمس والتي تبعد عن مدينتنا ترهونة التي كنا نعيش فيها حوالي 80 كلم على ما أذكر ذهابًا وإيابًا فقط حتى (يضرب كم خيط) أي ينشر شِباكه ويجمعها عدة مرات. طبعًا هو ورِث مهنة الصيد عن جدي محمد إبراهيم البردويل رحمه الله -توفي قبل أن أولد- والتي كانت مهنته الرئيسية ولعلها خاصية قرية الجورة بلدنا الأصلية والتي تقع في قضاء مجدل عسقلان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي احتلها الكيان الصهيوني وهجّر كُل أهلها.

وهكذا فقد كان يعمل كثيرًا من المدرسة إلى البحر وقيادة السيارة لمئات الكيلو مترات، أما أيام الإجازة؛ أي أيام الجُمع فكانت راحته غريبةً أحيانًا فقد كان يفضل قضاء الوقت في تصليح محركات السيارات! نعم كان يُحب أن ينزع المحرك من جسد السيارة ليضعه في بيتنا في (المنور) ويبقى عاكفًا على تفكيكه وتركيبه حتى يرجِع سيرته الأولى، وكان ماهرًا في ذلكَ حتى أن كثيرًا من أصدقاءه الفلسطينيون خاصةً أحضروا له سياراتهم ليُصلحها لهم بالمجان. كما أنه كان يصنع أدوات الأثاث، فكثيرًا منها أو حتى أغلبها في بيتنا من صنع يديه. ورغم أنه كان يصطاد السمك بهدف بيعه، إلا أنه لم يكن بائعًا ماهرًا، وأنا ورثت منه هذا فقد كان على ما يبدو يخجل من مساومة المشترين، ويبيع أحيانًا بأسعارٍ بخسةٍ جدًا، وأحيانًا كان يُرسلني لأبيع لجيراننا (ماذا اقول لهم؟) كنت أوجه إليه هذا السؤال لعله يُعفيني من هذه المهمة الثقيلة على نفسي ولكنها أثقل عليه مني! قل لهم البوري الكيلو بدينارين والشلبة بدينار إلى آخره، طبعًا كان جارنا المصري أو الباكستاني أو غيرهم يقول: ليش هيك غالي بيكفي دينار على الكيلو. وأنا أصمت ولا أجرؤ على الرفض وأسلم لهم البِضاعة وأخطف ما أعطوني من مالٍ لأهرب من هذا الموقف. نعم ما زلت حتى يومي هذا لا أستطيع أن أساوم سواءً كنت مشتريًا أو بائعًا فقد فشلت كل محاولاتي بأن أمارس التجارة.

فكان يستقبلني أبي ويوبخني.. لماذا لم أكن شاطرًا في البيع، وتبدو عليه الخيبة بأن ابنه لم يكن أمهر منه في هذا المجال! مسكينٌ أبي كم مرة ضاع جهده ثمنًا للمجاملات، وأذكر هنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حُرمة ما أُخذ بسيف الحياء. إلا أنني أقول سامحهم الله، فربما كانوا أيضًا يعيشون ظروفًا صعبة، فالأجانب لم يكونوا مرتاحين في ليبيا، وكانوا يحصلون على رزقهم بصعوبة.

والعجيب أن أبي ممنوعٌ عليه ممارسة مهنةِ الصيد رسميًا في ليبيا، وكان شاطئ ليبيا 1900 كلم لا يتسع لشباكه الصغيرة، أو أنه يُشكل خطرًا على الثروة السمكية، أو ربما سيزيد من نسبة البطالة بين الليبيين!

كنا وما زلنا نتسائل لماذا يتم التضييق على حياة المهاجرين الفلسطينيين! أليسوا إخوانكم؟ أليسوا ضحايا الإحتلال؟ ألم يشاركوا في نهضة بلادكم ونشر التعليم فيها حتى في المناطق النائية والتي تشُق الأنفس للوصول إليها؟

أسئلة أُجِيبَ عليها بطرده من عملهِ بعد ثلاثين عامًا من خدمة ليبيا!

كان أبي يذهب للصيد وخصوصًا في الأيام الباردة في الشتاء، حيث يكون الشاطئ مهجورًا والعواصف الشتوية تهب، فلماذا أستغرب أن صحته ساءت، وأنا أذكر أنني عندما كنت في ليبيا كان والدي يُعاني من الحصى في الكلى، وكان سنويًا يعاني من آلام خروج الحصى، ومراتٍ يقضي فترات طويلة في المستشفى.

رحمك الله يا أبتِ، قد تعِبتَ كثيرًا لتوفر لنا لقمة العيش، ولن ألومك بعد الآن على خياراتك التي كنا نعاتبك عليها، فما أدرانا كيف الظروف، فلم تكن حياتك سهلةً أبدًا، بل كانت مليئةً بالصعوبات والكد والظلم والغربة والأحلام الضائعة، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يُبدلك خيرًا مما كنت فيه، جنة النعيم لا تسمع فيها لاغية، وليس لك فيها أن تتعب أو تكد أو تهتم. غفر الله لك والوداع حتى نلتقي في جنة الخلد بإذن الله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply