بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
حاول السلفيون استنبات النموذج الإسلامي الأول في واقعنا المعاصر. وقاومتهم العلمانية. حدث تدافع كانت ثمرته شيئًا وسطًا لا هو علماني ولا هو إسلامي.. كانت النتيجة ما يمكن تسميته بـ *نقاب العلمانيات*. كانت النتيجة تعثر مشروع إنتاج فرد إسلامي خالص ومن ثم مجتمع إسلامي. كانت النتيجة أن ظل المنتج النهائي يغلب على تكوينه المحتوى العلماني، فما هي أهم الأسباب؟
المتغير الرئيسي في الظاهرة هو جهل السلفيين بتفاصيل رفض ومقاومة العلمانية لهم. يمتلكون صورة كلية عن العلمانية (رفض الدين كليًا أو جزئيًا) ويجهلون التفاصيل. وفي التفاصيل أن العلمانية ليست حالة رفض ساكن، وإنما تعمل بكلتا يديها على قضم غيرها وهضمه. فعمليًا تغرس العلمانية قيمها قهرًا في صدر الجميع عن طريق مؤسسات التعليم والإعلام وغيرهما ومن ثم تعيد صياغة الفرد والمجتمع... وقد نشرت هنا مقالًا مستقلًا يتناول هذا الموضوع بعنوان* أنياب العلمانية*.
جهل السلفيين بتفاصيل الصراع مع العلمانية جعلهم يخسرون المعركة، أو يخرجون بنتائج محدودة جدًا، وعلينا الآن أن نعدل السؤال ونخصصه في الحالة التي نتناولها (المرأة السلفية): لماذا خسر السلفيون معركتهم مع العلمانية في ميدان المرأة؟!
وأُجمل ما عندي في نقاط محددة ومختصرة:
إهمال خصوصية المرأة:
يقول الله تعالى:{وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ} (آل عمران:36)، كائنان منفصلان لكل منهما خصائصه النفسية والجسدية، وبالتالي يصلح كل واحدٍ منهما لغير ما يصلح له الآخر، وحين يجتمع الاثنان بالزواج يكوِّنان شيئًا ثالثًا (الأسرة) غير الذكر منفردًا وغير الأنثى منفردةً. وعند التدقيق نجد أنه لا يوجد إنسان منفرد في المجتمع الإسلامي فكل منا عضو في أسرة (ابن، أب، زوج..)، بمعنى أن وحدة تكوين المجتمع المسلم هي الأسرة؛ وبداخل الأسرة كل له وظيفة يكمل بها الآخر ويرسم بها جزءًا من معالم الأسرة.
العلمانية لم تفرق بين الذكر والأنثى. والسلفيون- وباقي الصحوة مثلهم- وقعوا في شيء من هذا، لم يتجهوا لانتاج مناهج تعليمية خاصة بالمرأة، بل راحوا يدرسون لها ما يدرسون للذكر، ولم يفرقوا إلا في الثياب الخارجي (النقاب). ويحتاج الأمر لإعادة التفكير في مستوى الإعداد المعرفي، ومستوى التوظيف (الفعل)، ولكن: انتاج المناهج يحتاج نوعية معينة من النخبة المتخصصة، ولا يصلح لها الوعاظ. فهي هكذا: نخبة متخصصة في البرامج التعليمية، تنتج مناهجًا ومعلمين، يتجهون للذكر بما يناسبه وللأنثى بما يناسبها.
إهمال الأدوات:
مستوى من مستويات التفكير والفعلِ مهملٌ بنسبةٍ كبيرة؛ مع أهميته، حتى أنه يصح أن نقول بأن القوة قوة أدوات. ومجال الأدوات واسع، فالإعلام، والمدارس، ودور التحفيظ، والحضانات، والحلقات في البيوت (صالونات ثقافية أو تعليم فردي)، وكفالة الأكفاء من أجل إنتاج فرد متخصص متفرغ، والاتجاه نحو تكوين رأس مال اجتماعي....
ولك أن تراقب مستوى الأدوات في الحالة السلفية، فيما يتعلق بالمرأة وغيرها، تجد أن المسجد، وهو الأداة الرئيسية عندهم، أصبح ساحةَ صراعٍ بين الأقران، فظهر ما يمكن أن نسميه صراع المساجد بين السلفيين والإخوان، وبين السلفيين أنفسهم. وثمة ملاحظة دقيقة وهي أن اتكاء الجزء الأكبر من السلفيين على الخليج ماديًا، وما حققه الشريط/ الكاسيت، والظهور في الفضائيات، واليوتيوب، من أرباح مادية، جعل كثيرًا من نخبة الجيل الثاني من السلفيين يتخذ الدعوة مغنمًا، فاحتشدوا حيث الشهرة والمال والتعدد. واختفي الانفاق على الإنتاج المعرفي وإنتاج الأفراد والأدوات عمومًا. مع أن المتأمل في مصارف الزكاة يجد أن الإطار العام للإنفاق في الإسلام يتجه لتمكين الدين في المجتمع (وليس تمكين الحركات)، ويفهم ذلك من أن عامة المستحقين للزكاة ليسوا فقراء، فـ {الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} ليسوا فقراء محتاجين وإنما يؤدون دورًا آخر في المجتمع يتمحور حول التمكين للدين. وإلا لو احتشدنا حول إعانة الفقراء والمساكين وترك منظومة الفساد التي تنتج الفقر فلن يرحل الفقر والمسكنة، وكنا كمن يجفف ماءً طافحًا يقطع الطريق على المارة بثيابه؛ والصواب أن يصلح الخلل الذي أفسد على الناس حياتهم. وقد جعل الله الكافر مفسدًا.. بل (المفسد) بالألف واللام، وكأنه لا مفسد غير من كفر، يقول الله تعالى:{وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لَّا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ}(يونس:40).
التدين المجتمعي:
الحديث تحت هذا العنوان الجانبي ذو شقين:
الأول: أن الحالة السلفية اهتمت بالتدين الفردي: الثياب الصلاة، الصيام، الحج، وحتى في الزكاة، والتي هي شعيرة تعاون مجتمعي، جعلتها لدعم الدولة (ينظر مقال: لا تغشوا الفقراء والمساكين).
والذين اتخذوا من العمل المنظم أو شبه المنظم وسيلة دعوية كالإخوان وبعض السلفيين، وقعوا فيما هو أسوأ، وهو النسق المغلق، وقد ناقشت هذا مرارًا. فقط أستحضره هنا حتى لا يظن أحد أن بديل التدين الفردي هو تدين النسق المغلق (الجماعات والحركات). كلاهما لم ينجح. وكلاهما فيه قصور كبير، وقد عرضت رؤية للتصحيح تحت عنوان (من النسق المغلق للنخبة المتخصصة).
والشق الثاني: تمكن العلمانية من العمران. أعادت صياغة المدن والشوارع والبيوت، بما يتفق مع قيمها، واشتد الأمر الآن بعسكرة المدن. مما شكل تحديًا كبيرًا حول مثول النموذج الإسلامي واقعًا، ولابد من التفكير في هذا التحدي، ولو من باب التنبيه على خطره وإعلان رفضه.
هروب الذكور:
ومن الظواهر المرضية بين المتدينين انتشار حالة التمرد-أو الهروب- بين الذكور. وأدق وأقرب زاوية يمكن رصد هذه الظاهرة منها هي زاوية* تعدد الزوجات* أو بالأحرى ظاهرة الراغبين في التعدد إذ كلهم يرغبون ولا يفعلون، وخاصة بعد الأربعين والتي يتم تلميعها بتسميتها *مراهقة متأخرة*. حين تدقق النظر في حال هولاء المتمردين على بيوتهم من الذكور تجد أنها حالة من الهروب من المسئولية الأسرية بعد تضخمها؛ يحدث هذا الهروب معنويًا بالبحث عن علاقات عاطفية غير شرعية، ويحدث عمليًا بترك البيت الأول والزواج من ثانية، وغالبًا ما يكون الزواج الثاني مؤقتًا، فبعد أن يكتشف أن التعدد أثقله ولم يحمل عنه يهرب من الثانية أيضًا. وأمرُّ من هذا كله أن يمارس الهروب بالنفس دون الجسد.. أن يتخلى الذكر عن مسئوليته النفسية والمادية والاجتماعية ويترك أسرته للمؤسسات العلمانية ذات الأنياب الحادة تنهشها وتقضمها وتهضمها وتصيغهم خلقًا آخر. والمحصلة: قروح وجروح وقطع أوصالٍ وإشعال نارٍ ما لها حد.. تزيد كل يوم.. والمجتمع المنهك هو الضحية.
هروب الإناث:
والنساء يهربن من طريقٍ آخر، وإن أردت أن ترقب الهاربات منهن، وقد كثرن هذه الأيام، فأقرب وأدق زاوية هي مراقبة القادمات على الزواج، أو حديثات العهد بالزواج. والقصة باختصار: أن المرأة المعاصرة تعرضت لحزمة من الثقافة الكاذبة، غرست فيها أنها ملكة متوجة. أعلت من الذاتية عند النساء، أوجدت ما أسميه *عبادة الذات* عند الجميع وخاصة النساء، فصارت كل واحدةٍ تبحث عن من يعبدها. نعم يعبدها. تبحث عن رجل يسارع في هواها، يهيم بها نشوةً وطربًا، ويجلس لخدمتها، وتفاجئ بعد الزواج بنمط آخر من التعامل، تفاجئ بفتور العلاقة العاطفية بعد الارتواء، وهذا طبعي عند البار والفاجر، وتأتي تكاليف البيت فتهرب، وتردد بأنها ما خلقت لغسيل وطبخٍ وكي.. إلخ. ثم تتمرد.. ويتصدع البيت أو يتهدم.
بعضهن بالفعل يصلحن للمجال العام، وفي كل جيل يبرز عدد من النسوة في المجال العام، فنقول: خديجة بنت خويلد، وهند بنت عتبة، ولا يصح الاحتجاج بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهن لأنهن كن أمهات المؤمنين وأمرن بالتحديث عما رأين من النبي، صلى الله عليه وسلم، في بيته {واذْكُرْنَ مَا يُتْلَىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيات اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ}، ولكن هذا النوع من النساء- وأسميهن سيدات- حين يلتقين رجلًا عاقلًا سيدًا يدخلن البيت.. كما فعلت السيدة خديجة رضي الله عنها فبعد أن تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم دخلت البيت ولم تُذكر في المجال العام لا بقليل ولا بكثير. ولذا ظهور النساء في المجال العام يفسر بعددٍ من المتغيرات، منها: الخلل في الكفاءة فحين وجدت خديجة كفًا ألقت عليه أحمالها وأخذت مكانها الطبعي، وهنا ملحظ دقيق وهو أن الرجل لا يُقيَّمُ بشخصه وإنما بالمرأة المختبئة خلفه إن كانت زوجة أو أمًا. ومنها: تمكن العلمانية. والتي جذبت النساء للمجال العام وألقت على ظهورهن عبء الأسرة؛ وأهم هذه المتغيرات: هذه الحزمة من الثقافة الكاذبة التي أوجدت عبادة الذات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد