بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا الله عباد الله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾.
عباد الله: نقف اليوم مع سيرة لا كالسير، وتاريخ مجيد من عزيز حميد، لا زال باقيًا نرى مناسكه ونلهج بذكره في صلواتنا وأذكارنا، ونشاهد عبقه في مناسك الحج، وجموع الحجيج من كل فج عميق جاءت تلبيةً لدعوة الخليل إبراهيمَ عليه السلام، ولا زالوا يلهجون بالتوحيد إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها.
ولد إبراهيم في أرض بابل، وهي أرض الكلدانيين كما ذكر مؤرخو الإسلام، واسم أبيه آزر، قال عامة السلف من أهل العلم: كان مولد إبراهيم عليه السلام في عهد نمرود، هذا الملك الطاغية الظالم الغشوم الذي جعل نفسه إلهًا يعبد من دون الله، وحمل الناس على ذلك، وفي هذه البيئة الفاسدة من عبادة الأوثان والأصنام؛ والبشرية كانت قد انحرفت في ذلك الوقت، فأراد الله أن يعيدها إلى التوحيد فابتعث فيهم إبراهيم، وكان منذ صغره صائب الرأي، راجح العقل، قوي الحجة، كما قال تعالى:﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ﴾.
وقد ابتلاه الله بكلمات، من الأوامر والنواهي والتكاليف، فأتمهن فجازاه الله بالإمامة، ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا﴾، وهكذا لا تكون المراتب العالية إلا بعد المجاهدة، وحمل النفس على طاعة الله، والتزام أوامره، ولما أدى الأمانة رزقه الإمامة ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾.
مضى إبراهيم بخطى ثابتة في الدعوة إلى التوحيد الخالص، فكان أول ما بدأ به دعوة أبيه فقد كان مشركًا يعبد الأصنام، ومن سدنتها فبدأ به كما قال الله ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾، ولم يعنف إبراهيم أباه بل خاطبه بكل أدب، وجادله بألطف عبارة: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا﴾.
استغفر إبراهيم لأبيه، ولكن حين ظهر إصراره على الشرك والوثنية تبرأ منه:﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾.
وفي هذا درس بليغ أن رابطة الدين أعظم من رابطة النسب، فإبراهيم يتبرأ من أبيه، وهذا هو كمال الإيمان:﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..﴾.
نشأ إبراهيم في بيئة يعبدُ قومها الأصنام والأوثان، فآتاه الله الرشد، وأدرك أن هذه الأصنام التي يعبدونها والأوثان التي ينحتونها لا تغني عنهم من الله شيئًا، فعزم على تخليص قومه من عباده الأصنام، فأقسم على تحطيمها ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾، وفي ذلك حجة عملية على أنها لا تضر ولا تنفع﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ﴾، ترك صنمًا كبيرًا لم يكسره، وجاء القوم مذهولين مبهوتين ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ *قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَىٰ أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ﴾ فجمع الناس لتقام المناظرة على مرأى ومسمع من الجميع، ولتقام الحجة عليهم ويسقطَ زيف آلهتهم:﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَٰذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾صفعهم بهذه الحجة الدامغة التي أيقظتهم من غفوتهم ﴿فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ أصنامٌ لا ترد سؤالًا، ولا تسمع كلامًا، فكيف تأمرنا بسؤالها! هنا ظهرت حجة إبراهيم واضحة، فأخذ يلزمهم بالمنطق السوي ﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
وحين لم تبق لهم حجة عدلوا عن الجدال والمناظرة وعمدوا إلى القوة يسترون بها فضيحتهم، فأصدروا حكمهم عليه بالموت حرقًا ﴿قَالُواْ حَرّقُوهُ وَانصُرُوَاْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ﴾، لكن الله مع أوليائه ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمَا عَلَىَ إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ﴾.
وهكذا ينجي الله أولياءه إذا هم توكلوا عليه، ومن كان مشغولا بالله لم يتول الانتقام له إلا الله، أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:﴿حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا:﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل﴾.
ويعلن النمرود أنه إله من دون الله قائلًا:﴿أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ﴾ فيلجمه إبراهيم بحجة عملية دامغة:﴿فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِب﴾ فبهت الذي كفر، وانقطع ولم يحر جوابًا.
وما أحوجنا إلى الإفادة من سيرة إبراهيم عليه السلام في الدعوة حوار هادئ، وحجج علمية، وأسلوب مقنع.
ونطلع على الموقف الفريد في حياة إبراهيم، بل في حياة البشر أجمعين، يرزقه الله في كبره غلامًا، طالما تطلع إليه، فلما جاءه وبلغ معه السعي وأنس به رأى في المنام أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء حق:﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾.
إنه بلاء عظيم، وموقف لا تطيقه عاطفة الآباء، ولكنه أمر الله فيلبي إبراهيم عليه السلام الأمرَ بذبح ولده بيده، يلبي دون تردد، ويستسلم في غير جزع، ونتعجب من ذلك الفتى البار الذي يُسلم نفسه لأمر الله، فشبح الذبح لا يُفقده رشده، بل لا يُفقده أدبه وبره:﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فيا لروعة الإيمان، ويا لعظمة الاستسلام:﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِين* وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ* وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ* وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ* كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين﴾.
لتعلم هذه الأمة أن الله لا يريد أن يعذبها بالابتلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعةً ملبيةً مستسلمةً، ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى تذكيرًا بهذا الحدث العظيم، لتعرف الأمة المسلمة حقيقة أبيها الخليل، والذي ترث نسبه وعقيدته.
وهكذا نرى أن سيرة إبراهيم عليه السلام لها ارتباط وثيق بمناسبة الحج العظيمة، وكلها دروس عميقة وعبر بليغة، ويكفي هذه السيرة تكريمًا أنها آيات تتلى في كتاب الله على مر العصور وتعاقب الأجيال، ولهذا كان إبراهيم عليه السلام أمةً يقتدى به في الخير:﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾. كان إبراهيم أمةً في التوكل واليقين، أمةً في الحلم والصبر والثبات، أمةً في إقامة الحجة، وأدب المناظرة، أمةً في التواضع والكرم.. فليس بغريب أن يوصف إبراهيم عليه السلام بأنه خليلُ الله ﴿وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾.
بارك الله ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم..
الخطبة الثانية
اتقوا الله حق التقوى، واعلموا عباد الله أن لأبيكم الخليل إبراهيم من المناقب الكثير، وارتباطنا به وثيق، فنحن نمضي على ملته وسننه؛ ففي الحج كثير من شعائر إبراهيم النبي الكريم، فكونوا على مشاعركم هذه فإنكم اليوم على إرث من إرث إبراهيم عليه السلام.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وارض اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المرضيين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده، اللهم وفقهما لهداك، واجعل عملهما في رضاك، وهيئ لهما البطانة الصالحة، يا رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد