جبر الخاطر يقيك المخاطر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

عندما تشتد النوازل، وتتصاعد الخطوب، وتزداد الضوائق، وتكثر العقبات،يحتاج العبد إلى من يأخذ بيده ويشد من أزره ويعلي من همته ويرفع من عزمه، ويجبر خاطره.
إن أعظم عبادة يتقرب بها المرء إلى ربه أن يجبر خاطر أخيه في الانسانية، فيسري عنه، ويمده بالعون، ويرفع عن كاهله الهم ويعطي له النصيحة،والذي يفعل ذلك يملك خلق عظيم هو جبر الخاطر.
إن الذي يعمل علي جبر الخاطر يمتلك سمو نفس وعظمة قلب ورجاحة عقل وسلامة صدر وتألق روح وسعة أفق، لأنه يجبر نفوسا كسرت، وقلوبا فطرت، واجسادنا أنهكت، وارواحا ارهقت، يقول الإمام سفيان الثوري: ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلي ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم.
جبر خاطر أمك، والدك ، أختك،أخيك، زوجتك، أولادك، اقربائك، جيرانك، اخوانك في الاسلام، اخوانك في الانسانية، من تعرفهم ومن لا تعرفهم، تطرد عنهم جوعا، تقضي عنهم دينا، تكشف عنهم كربة، تقضي لهم حاجة، تعودهم في المرض، تواسيهم عند الفقد، تقف معهم في الشدة، تعطيهم عند الحاجة، من أفضل القربات عند الله تعالى 

قال صلى الله عليه وسلم مبينا الطريق إلي جبر الخواطر وجزائه عند الله " أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، و أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرُورٌ يدْخِلُهُ على مسلمٍ، أوْ يكْشِفُ عنهُ كُرْبَةً، أوْ يقْضِي عنهُ دَيْنًا، أوْ يطْرُدُ عنهُ جُوعًا.." رواه الطبراني.
يقول الله تعالى جبرا لخاطر اليتيم وصاحب الحاجة " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " الضحى 
وهنا رب العزة يجبر بخاطر رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أُجبر على ترك مسقط الرأس ومهبط الوحي ومجمع الذكريات، (مكة المكرمة) مهاجرا منها إلى (المدينة المنورة) وهي المكان الذي درجت على الأرض فيه قدماه، وتعبد فيه لله وأقام فيه الصلاة واستقبل فيه وحي الله، فيقول تعالى جابرا لخاطره في كتابه العزيز " إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين " القصص 
ويجبر خاطر المؤمنين في أحلك الظروف في أعقاب غزوة أحد فيقول تعالى " ولاتهنوا ولاتحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران 
يوسف عليه السلام عندما تآمر عليه إخوته واجمعوا أن يضعوه في الجب ويفرقوا بينه وبين والده ليخلو لهم وجه أبيهم عن والده " فلما ذهبوا به واجمعوا ان يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " يوسف 
جبر خاطره وأعلمه: سنعيدك و نحفظك و ستقول لهم على فعلتهم دون أن يشعروا.
كيف لا وهو القادر القاهر، كيف لا وهو المعز المذل، كيف لا وهو المحي المميت، كيف لا وهو الغفور الرحيم، كيف لا وهو تعالى الجبار سبحانه: يقول الله تعالى " هو الله لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون " الحشر 
اسم الله الجبار في الآية يطمئن القلوب، ويثلج الصدور، ويرفع الاحزان ويخفف الآلام، يحول الفقر غني، والضعف قوة، والذل عزة، والشقاء والعناء سعادة وشفاء.
إن الإسلام لا يهمل البسطاء ولا يكسر الفقراء، ولا يهن الضعفاء، فقد عاتب الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أعرض عن ابن أم مكتوم وكان أعمى عندما جاءه قائلا: علمني مما علمك الله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام منشغلًا بدعوة بعض كبراء قريش، فلما أعرض عنه، أنزل الله قرآنا يُتعبد به إلى يوم الدين معاتبا خاتم المرسلين واحب خلق الله الي رب العالمين: " عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى " عبس
الله تعالى يجبر خاطر أم موسى عليه السلام وقد دب فيها الخوف على صغيرها الذي ولدته في التو، تلقيه في اليم طاعة لله لولا ان ربط الله على قلبها " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين " القصص
وهو الذي قال لنبيه " ولسوف يعطيك ربك فترضى " الضحى
 الله يجبر كل قلب لجأ إليه بصدق فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي"  ابراهيم، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " المائد فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: " اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي "، وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: " يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟" فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: " يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: ‌إِنَّا ‌سَنُرْضِيكَ ‌فِي ‌أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ "  صحيح مسلم 
ومن صور جبر الخواطر الربانية في الآيات القرآنية أن جبر خواطر غير أولي القربى واليتامى والمساكين فأمر بالصدقة عليهم اذا حضروا القسمة " وَإِذَا حَضَرَ ‌الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا " النساء 
وفي الآية التالية يجبر خاطر الجميع وقد قدم ذكر الإناث على الذكور فقال سبحانه " لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ‌يَهَبُ ‌لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ‌وَيَهَبُ ‌لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ " الشوري 
قال ابن القيم رحمه الله: تأمل كيف نكر الله الإناث فقال (إناثا) وعرف الذكور فجبر نقص الأنوثة بالتقديم و جبر نقص التأخير للذكور بالتعريف 
في الشدة والعسر تجد الطريق مفتوحا علي مصراعيه الي جبر الخاطر، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: ‌إِذَا ‌أَتَيْتَ ‌مُعْسِرًا، ‌فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ". قَالَ: " فَلَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ " البخاري ومسلم 
وعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ طَلَبَ غَرِيمًا لَهُ، فَتَوَارَى عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي مُعْسِرٌ، فَقَالَ: آللهِ؟ قَالَ: آللهِ؟ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ رواه مسلم 
قال نافع مولى ابن عمر: " رأيت قيس بن سعد بن عبادة كان من أجود الناس "
كان قيس يتجاوز عن المعسرين حتى انه مرض فلم يعوده غير قليل من الناس، فتعجب من ذلك، فقيل له لك عليهم ديون و يستحون ان يأتوا ولك عليهم دين، فارسل غلامه ينادي في الأمصار: من كان عليه دين لقيس بن سعد بن عبادة فقد تجاوزنا عنه وهو في حل منه، فعاده الناس في اليوم التالي حتى كسرت عتبة بابه من كثرة العُواد!!
وكان من دعاء قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا، فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه.
وروي أن رجلا استقرض من قيس بن سعد بن عبادة ثلاثين ألفا، فلما ردها عليه، أبى أن يقبلها، وقال: "إنا لا نعود فِي شيء أعطيناه".
وفي معني رائع من معاني جبر الخاطر لما استشهد والد جابر رضي الله عنه و ترك جابرا و لم يترك له مال بل تركه مدينا و ترك له أخوات فاجتمع على جابر رضي الله عنه هم فراق والده و هم الدين و هم الأخوات وشاهده النبي صلى الله عليه وسلم فوجده حزينا فجبر خاطره كما في حديثا طَلْحَةَ بْنِ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ:لَمَّا قُتِلَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، يَوْمَ أُحُدٍ، لَقِيَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم،: فَقَالَ: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟ قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ، تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ: إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يَرْجِعُونَ، قَا لَ: يَا رَبِّ، فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللهُ، تَعَالَى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.أخرجه ابن ماجة واالترمزي 
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بينَ السَّجدتينِ في صلاةِ اللَّيلِ "ربِّ اغفِر لي وارحَمني واجبُرني وارزُقني وارفَعني "سنن الترمذي 
وقديما قالوا: من سَارَ بينَ النَّاسِ جابرًا للخَواطرِ أدركَه لطف اللهُ في جَوفِ المَخاطر . 
وقد حثنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الوقوف بجانب الآخرين وجبر قلوبهم فقال صلى الله عليه وسلم" مَن نَفَّسَ عن مُسلِمٍ كُرْبةً من كُرَبِ الدُّنيا، نَفَّسَ اللهُ عنه كُرْبةً من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَن يسَّرَ على مُعسِرٍ، يسَّرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، ومَن سَتَرَ على مُسلِمٍ، سَتَرَ اللهُ عليه في الدُّنيا والآخِرةِ، واللهُ في عَونِ العَبدِ ما كان العَبدُ في عَونِ أخيهِ.." صحيح مسلم.
ومن أعظم جبر الخواطر جبر خاطر المحتاجين والضعفاء، 
جاء أعرابيٌّ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ  فقال: دلَّني على عملٍ يُدخلُني الجنةَ قال: " أطعمِ الجائعَ واسقِ الظمآنَ وأمرْ بالمعروفِ وانهَ عنِ المنكرِ فإن لم تُطِقْ فكفْ لسانَكَ إلا من خيرٍ" مسند الإمام أحمد، 
حتى مع الغير المسلم جبر الخاطر مطلوب في شريعة الإسلام!! كيف؟! عمر بن الخطاب كان يسير يومًا في الطريق فرأى رجلًا يتسول، فقال له مالك يا شيخ؟ فقال الرجل: أنا يهودي كبرت يني وشاب شعري ورق عظمي وأتسول لأدفع الجزية، فقال عمر: والله ما انصفناك نأخذ منك شابًا ثم نضيعك شيخًا والله لأعطينك من مال المسلمين، وأعطاه عمر ـ رضي الله عنه ـ من مال المسلمين!! 
ذكره السيوطي جامع الاحاديث، وابن القيم في أحكام أهل الذمة.

اللهم اجعلنا لك ذاكرين شاكرين منيبين مخبتين وللخواطر جابرين يارب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply