أيام ولا نرى يهودًا في فلسطين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

إحدى أهم الأفكار التي راهن اليهود، ومن خلفهم، عليها في بناء مجتمع صهيوني مستقر على أرض فلسطين هي الاعتقاد بأن التحدي الخارجي يوحِّد المختلفين ويخصصهم. ولذا حافظ ساسة يهود على بث المخاوف حول الكيان الصهيوني، سواءً من دول الجوار، مع يقينهم بأن هذه الدول لا تشكل خطرًا حقيقيًا يهدد وجودهم، أم من المقاومة الفلسطينية، أم من المد الإسلامي المتصاعد في العالم العربي وغير العربي وخاصة أن جلهم يرفض احتلال اليهود لفلسطين. والسؤال: بعد مضي هذه السنين الطويلة وظهور أجيال من اليهود تحت *التحدي الخارجي*: هل استطاع ساسة يهود، ومن خلفهم، صهر الداخل الصهيوني في كيان واحد؟

في مرحلة الماجستير حضرتُ أستاذ الاجتماع السياسي الدكتور قدري حفني رحمه الله وهو يُنظِّر لإمكانية إنتاج مجتمع جديد من الصهاينة على أرض فلسطين إن طال التحدي الخارجي. وضمنًا يحدثنا بأن علينا أن لا نشكل تحديًا خارجيًا. وأننا لو تركناهم لذابوا وحدهم في ثقافتنا!!

وراهن الدكتور عبد الوهّاب المسيري على أن اليهود جماعة وظيفية جاءت بها الإمبريالية الغربية من أجل تنفيذ وظائف محددة وسوف يتم التخلص منهم بعد انقضاء وظيفتهم، ولذا بشر بنهاية اليهود لأنهم جماعة وظيفية. واستمات في نفي الإطار الديني عن اليهود في أكناف بيت المقدس وخارج أكناف بيت المقدس. وقد قدمت مناقشة لأفكاره في بحث مستقل منشور (ينظر: مناقشة هادئة لأفكار المسيري: حتمية البيئة والبعد عن النص الشرعي).

أين الخلل؟

الخلل في علم الاجتماع الغربي الذي يستقي منه قدري حفني وعبد الوهّاب المسيري نظراتهم *العلمية*!!

ينطلق الاجتماع الغربي من الواقع.. يأخذ من تفاصيل الواقع بعض الملاحظات المضطردة (المقولات/ المفاهيم) ويحاول ربط ببعضها ببعض ويصيغ *نظرية* يعود بها على الظواهر الاجتماعية (سياسية وغير سياسية) لوصفها وتفسيرها ومحاولة التعرف على مستقبلها. وينبهر الناس بالهالة الإعلامية التي تحيط بالمشاهير من علماء الاجتماع الغربي، وينبهرون، كذلك، بمنطق الفلسفة والألفاظ المعقدة، ويظنون أن هؤلاء يأتون بما لا يقدر عليه غيرهم.

والحقيقة أن نظريات علم الاجتماع الحديث تعمل، فقط، في البيئة التي خرجت منها والزمان الذي خرجت فيه، وحين تتغير البيئة والزمان يتوقف عملها، ولذا فإن النظرية في علم الاجتماع السياسي محدودة القدرة على التفسير ودائمة التغير، ولذا، أيضًا، يعاني العلم من فوضى في النظرية، واسترجاع دائم للقديم، ولا ضابط وإنما تحركٌ مع الواقع.

ولو أن الدكتور*قَدْري حفني* تأمّل قليلًا في حال اليهود لعلم أنهم يتعرضون لتحدي خارجي منذ كانوا، يقول الله تعالى ذكره:{وإِذْ تَإذن رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوٓءَ ٱلْعَذَابِ}(الأعراف: من الآية167)، وهذا التحدي الخارجي، المستمر من آلاف السنين، لم يثمر توحيدًا للمختلفين كما تقول*النظرية* فقد ظلّوا مختلفين، يقول الله تعالى:{وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِۚ} (المائدة:64). بل إن استمرار التحدي الخارجي أدى إلى تكيّف مع الضغط. بمعنى أن الضغط أثمر تعديلًا في الصفات (الأخلاق) الشخصية لليهود كأفراد وجماعات فتحولوا من {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَى ٱلْعَٰلَمِينَ}(الجاثية: 16)، إلى{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوٓاْ إِلَّا بِحَبْلٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍۢ مِّنَ ٱلنَّاسِ}(ال عمران: من الآية112)، وهكذا كل ضغط خارجي حين يطول، يحدث تشوهات داخلية.. ينقلب المحاصَرُون على أنفسهم وتحدث بداخلهم تحولات جذرية في مستوى السلطة، والنخبة، وبالتالي المؤسسات، وفي مستوى الفرد العادي، تعيد، هذه التحولات، هيكلتهم من جديد بما يتلاءم مع المساحات المتاحة، بمعنى أن الضغط المستمر يعيد التشكل وخاصة إن كان قويًا محكمًا ذا رؤية يسعى لتحقيها، فليس كل تحدي يعمل محفزًا لاستجابة في اتجاه معاكس كما يزعم *توينبي* في "نظريته *التحدي والاستجابة*؛ ربما يحدث هذا في التفاصيل وفي حالات دون حالات (ناقشت نظرية توينبي في طرح مستقل في بحثٍ عن السيرة النبوية.. نشأة الأمة الإسلامية)، ولا كل تحدي يوحد المختلفين ويخصصهم كما ادعى قدري حفني. ربما يحدث هذا مؤقتًا.

ونعم الصهيونية جماعة وظيفية للغرب الإمبريالي كما يذكر الدكتور عبد الوهّاب المسيري، ولكنها جماعة واعية تتحرك لأهداف خاصة بها، وليست جماعة وظيفية تتحرك ضمن مهام من أتى بها كما كانت الجماعات الوظيفية من قبل. ولك أن تراقب نشاطهم في أوروبا قبل مجيئهم لبيت المقدس، ونشاطهم في أفريقيا، وفي غير أفريقيا.. يعملون لحسابهم الشخصي أكثر مما يعملون لحساب السيد الذي يرعاهم.

وشيء آخر أهم، وهو أنه لو تأمل الدكتور عبد الوهّاب قليلًا لعَلِمَ أن انتهاء وظيفة (دور) الصهيونية يعني تطور واقع المجتمعات المسلمة لما تستهدفه الإمبريالية الغربية من الكيان الوظيفي.. وهو الدمج في الحضارة الغربية كتابع لها، أو بالأحرى كمصدر للمواد الخام وسوقًا لاستهلاك البضائع. بمعنى أن الحديث عن أنهم جماعة وظيفية ينبغي أن يكون مقدمة للحديث عن تطوير المنطقة لدمجها في الحضارة الغربية، بمعنى أن زوال اليهود، مثل الجماعات الوظيفية التي انتهت من قبل، لن يحدث قبل دمج المجتمعات المسلمة في الغرب وهو ما يحدث الآن بقوة. (ينظر للكاتب: جني ثمار الحرب الباردة: الرؤية والأدوات).

وثمة نظرة ثالثة تبين بوضوح أن اليهود على وشك الرحيل، وأن أيامهم باتت معدودة. وهي نظرة تجمعت بخاطري من رافدين من روافد علم الاجتماع السياسي الحديث: رافد نقدي لنظرية التحليل النظمي (نظرية ديفيد استون/ المدخلات والمخرجات)، ورافد آخر تأملي من سنن الله في الغالب والمغلوب. والرافد الأول مقدمة للثاني. وهذا بيان بما يناسب مقالٍ وحديثٍ للجميع.

النظم السياسية تهرم وتشيخ وتحاول أن تجدد نفسها. ولا يحدث هذا التجديد طواعية وإنما ينزع الملك انتزاعًا. وذلك من خلال الخروج على الحاكم كما حدث في النموذج الإسلامي، أو من خلال الثورات كما يحدث في النموذج العلماني المعاصر. والنخبة المستعدة (الجاهزة كيفًا وكمًا) هي التي تجدد السلطة، سواءً نخبة من داخل النظام الهرم، أم نخبة معارضة له (ممن هم مرتبطون به، أو قريبون منه في الغالب). فالذي يمتلك أسباب القوة أو يعرف كيف يدير القدرات الكامنة حال الوصول إليها، هو الذي يبدأ دورة جديدة بعد أن تشيخ الأنظمة وتهرم وغالبًا ما يكون من محيط السلطة (إدارة المجتمع بالمعنى العام).

والفكرة هنا أن المقاومة تضغط على النظام وترهقه، وحين يشيخ، بشكلٍ طبعي، لا يتحمل ضغطها فينفجر من داخله وينهار وتكون نخبتها (المعارضة) هي البديل. وهذا ما يحدث في فلسطين الآن.

لم يتحد اليهود بعد هذه السنين الطويلة، ولن يتحدوا بما أخبرنا الله به عن حالهم{وَأَلۡقَيۡنَا بَيۡنَهُمُ ٱلۡعَدَٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَآءَ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ}(المائدة:64)، والمقاومة في حالة بناء مستمر، عدديًا، وجغرافيًا (الآن في كل فلسطين وليس غزة والضفة فقط)، وعسكريًا (من الحجارة للصاروخ، ومن القتال في بعض أزقة غزة ومخيمات الضفة لامتلاك جبهات [غزة] والقتال في الداخل الفلسطيني [عمليات الطعن والدهس]).

والرافد الثاني هو الحالة النفسية للمتصارعين، فالغلبة تكون للأكثر جرأة على صاحبه، والجرأة في الفلسطينين وليس العكس. ولعل هذا هو المعنى الكامن في قول الرسول، صلى الله عليه وسلم، "نصرت بالرعب مسيرة شهر"(مسلم).

وثمة نظرة ثالثة، وهي أن مقولات (مفاهيم) القرآن الكريم والسنة النبوية ثابتة وتعمل في كل زمانٍ ومكان، لا كما مقولات علم الاجتماع الحديث المؤقتة التي تعمل بمحدودية مكانية وزمانية؛ وفي القرآن الكريم: يقول العليم الخبير سبحانه: 

{وَقَضَيْنَآ إلى بَني إسرائيل فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا* إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرةِ لِيَسُوؤواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرا}(الإسراء:4-7).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply