بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عند التأمل في طبيعة الأسئلة التي تُشغِل أذهان الشباب المهتمين بدينهم وبقضايا أمتهم، والمعتنين بتحصيل العلوم الشرعية، نلاحظ أن هناك قدرًا كبيرًا من التغيّر قد حصل في طبيعة هذه الأسئلة خلال السنوات القريبة الفائتة.
فبينما كانت الأسئلة في المرحلة ما بين عامي ٢٠١٣ إلى ٢٠١٩ (١٤٣٤ إلى ١٤٤٠ هـ) متمحورة حول الأسئلة الوجودية، وأسئلة اليقين والشك، وأسئلة الجدوى والأمل واليأس والإحباط، وصلاحية الإسلام، والاستفهامات الكبرى المُسائِلة لأساس العمل الإسلامي،
انتقلت مركزية الأسئلة في الأعوام الثلاثة الأخيرة ابتداء من ٢٠٢٠ تقريبا (١٤٤١ هـ) لتتمحور حول أسئلة البناء العلمي والشرعي والفكري، وأسئلة التزكية والإيمان والسلوك، ثم مؤخرًا أسئلة الإصلاح والعمل.
وهذا التحول في طبيعة الأسئلة ومركزيتها مؤشر يبعث على التفاؤل الكبير والأمل الواسع، ويبين قيمة العمل الذي جرى خلال السنوات الماضية في التعليم الشرعي والبناء المعرفي والإيماني، وهو مؤشر على إمكانية امتداد الآثار في المستقبل إلى شرائح أوسع ودرجات أعلى.
وهذا لا يعني أن الأسئلة الوجودية والاستفهامات المُسائِلة لأساس العمل الإسلامي قد انتهت من الأوساط الشبابية الإسلامية، بل هي موجودة وباقية، ولكن حصل قدرٌ كبير من التمايز داخل الصف الإسلامي، بين أولئك الذين لا يزالون يُراوحون في أسئلة الجدوى والشك واليقين، وأسئلة التعظيم للمناهج الغربية والتجارب البشرية المحضة، وبين الذين تجاوزوا هذه المستويات وانطلقوا إلى سماءات البناء والعطاء والعمل والإصلاح على قدر عال من الوضوح والاستقامة والطمأنينة واليقين.
وهذا التمايز الذي حصل لهُ دلالات مبشّرة، وفيه حسنات كثيرة.
ومن أهم الأسباب *في هذا التغير الإيجابي الذي حصل في طبيعة الاهتمامات لدى شرائح واسعة من الشباب*: حالة البناء الممتدة الواسعة التي حصلت عبر البرامج العلمية الإلكترونية خلال السنوات الخمس الماضية، والتي كان فيها قدرٌ كبير من التركيز على البناء الشرعي والتزكية والوعي وتحميل الهم الدعوي.
وكانت تحمل في كثير من موادها جرعاتٍ كبيرة من الأمل والتفاؤل، مما أدى من خلال التراكم الزمني إلى وجود سياق متفائل يحمل في طيّاته بذور الأمل والعلم والعمل.
وهذا بخلاف ما لو كان العمل خلال السنوات الماضية متوجها إلى المشاركات المتفرقة، والمنشورات المتناثرة في شبكات التوصل، فهي بطبيعتها )وإن كانت مفيدة( إلا أن أثرها محدود، بخلاف البرامج العلمية التي تمتد لسنوات ويحدث التأثير فيها بالتراكم والتنوع والتكامل.
ولأجل ذلك؛ ونظرًا لكون هذه الرؤية واضحة بالنسبة لي منذ سنوات، فقد كان ذلك من أهم الأسباب للتركيز على السياق البنائي والتزكوي والتوعوي والمنهجي، والابتعاد عن مساحات الجدل والخلاف والأمور المتناثرة التي لا تؤدي إلى ثمرة حقيقية.
وبطبيعة الحال، ربما تكون هناك أسباب أخرى لحصول مثل هذا التغير الواضح -بفضل الله سبحانه وتعالى- لكن الحديث هنا ليس عن هذه الأسباب، وإنما الحديث عن أهمية ملاحظة التغير الذي يحصل وضرورة مواكبته، وهذه المواكبة تكون بعدة أمور:
١- التنبه والوقاية من المزالق المصاحبة لهذا التطور، إذ إن لكل مرحلة مزالقها ومحاذيرها.
فإذا كان من المزالق قبل بضع سنوات: مشكلة الإلحاد والشكوك والشبهات، حتى إن بعض الأخيار تأثر بها، فإن المزالق المصاحبة لهذه المرحلة مختلفة، ومن أهمها وأخطرها على الإطلاق: مشكلة الغلو العقدي، والمتمثلة في التكفير لعلماء الإسلام بسبب المباحث العقدية المعلومة، ولو طُرحَت هذه المشكلة قبل سنوات فلن يكون لها ذاك المستوى من التأثير والله أعلم، أما اليوم فتأثيرها كبير.
ويا لعظم الندامة التي سيشعر بها من وقع في هذا المَزْلق إن هداه الله بعد ذلك، على العمر الذي ذهب بلا جدوى، بل بأوزار وذنوب لا حدّ لها.
ومن المزالق المصاحبة لهذه المرحلة) التي هي مرحلة البناء والتزكية(: مشكلة الشتات المعرفي والتنقل بين البرامج والمواد دون تحقيق وضبط ومراجعة وإتقان، وهو مزلق خطير يترتب عليه ضعف الثمرات العطائية القادمة.
ومن المزالق المتوقعة في المستقبل القريب كذلك. والتي ينبغي الحذر المبكر منها: الاكتفاء بالجوانب العلمية النظرية التخصصية، والولع بالصّنعة، وترك العمل والإصلاح والدعوة والمدافعة للباطل.
ومن المزالق كذلك: انحصار التأثير في الأُطر النخبوية وترك خطاب العامة، ولعله يتيسر مقام آخر للتفصيل في هذه المزالق.
٢- ومن صور المواكبة لهذا التغير المتوقع: الاستعداد للأسئلة المتوقع نشوؤها خلال السنوات القادمة، وذلك أنه إذا استمر السياق البنائي كما هو في تناميه وتقدمه، مصحوبا بالبركة التي تحفّه وتحيطه وتزكيه، فإن طبيعة الأسئلة المستقبلية ستتغير كما تغيرت سابقا.
وستكون متمحورة في المستقبل القريب والله أعلم حول: آليات الإصلاح، والتجارب الدعوية العملية، وما يتعلق بها من مهارات وأدوات ووسائل تأثير، وغيرها من أسئلة التفعيل والعمل والعطاء والإصلاح، وستكون أسئلة مصحوبة بالعمل ومشكلاته وتحدياته وليست مجرد أسئلة نظرية.
ومن الأسئلة المتوقعة كذلك: أسئلة الصمود أمام محاولات الهدم الجديدة التي ستوجَّه لهذا البناء، والأسئلة المتعلقة بصعوبات طريق الإصلاح وابتلاءاته.
وبملاحظة هذا التغير في الأسئلة يكون الصعود قد بدأ من القاع -الذي يتضمن أسئلة الشك والحيرة والتردد والاضطراب إلى سماءات أسئلة التأثير والإصلاح والعمل بالعلم، مرورًا بأسئلة البناء والمعرفة ومسالك الفهم والتحصيل، والتزكية والالتزام.
وفي الحقيقة فإنّ وعي المصلحين بمثل هذه التغيرات المتعلقة بالنخب الشبابية المهتمة بدينها وأمّتها لمِنْ أهم الأمور التي ينبغي العناية بها، وبسبب نقص الوعي بذلك يحصل الخلل الكبير من كثير من المتصدرين من الدعاة وطلاب العلم.
٣- ومن صور المواكبة كذلك التي تترتب على هذا الوعي هو إمداد الساحة العلمية والدعوية بمواد جديدة تتضمن قدرا أعلى من البناء، ومساحة أوسع في الموضوعات، وتركيزا أكثر في الأدوات والمهارات.
وفي الجُملة فإن هذا التغير الذي حصل هو باب عظيم للتفاؤل والأمل، والحمد لله أولا وآخرًا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد