بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مقالة حول صناعة التأثير للمشاريع العلمية والدعوية وخطورة المعنى الثقافي لأطروحات المشاهير
القِيم تَصنَع الإطار الحاكم لسير الإنسان، وهذا الإطار يوجه المعلومات التي يتلقاها، وبسبب ذلك تجد الاختلاف الكبير بين من يتعلمون نفس العلوم بسبب اختلاف القيم المؤطِّرة لأفكارهم ومسيرتهم.
يمكن أن نسمي هذه القيم (بالثقافة) وذلك بمعناها السلوكي لا المعرفي.
فالمعنى المشهور في وقتنا للثقافة هو المعنى المعرفي، أي أن المثقف هو من لديه قدر من المعلومات حول مجالات معرفية متعددة، فهذا يقال عنه في العرف العام: (مثقف)
أما الثقافة بمعناها السلوكي فهي التي يرى مالك بن نبي أنها (مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته.. والثقافة على هذا هي المحيط الذي يُشكّل فيه الفرد طباعه وشخصيته) الأعمال الكاملة 1/454
ويؤكد على أن (السلوك الاجتماعي للفرد خاضع لأشياء أعم من المعرفة، وأوثق صلة بالشخصية منها بجمع المعلومات وهذه هي الثقافة)
وعلى ذلك فــ (الثقافة نظرية في السلوك أكثر من أن تكون نظرية في المعرفة) 453/1، (والثقافة... لا يسوغ أن تُعَدّ علماً يتعلمه الإنسان بل هي محيط يحيط به، وإطار يتحرك داخله، يغذي الحضارة في أحشائه)456/1
نعود إلى الذين تلقوا نفس العلوم ولكنهم خرجوا بسلوك متضاد، ورؤى متعارضة حول مختلف القضايا ، وربما صارت رسالتهم في الحياة إذكاء روح الانقسام وتغذية الصراع فيما بينهم، يقول مالك "454/1" إن (التماثل أو الاختلاف في السلوك ناتج عن الثقافة لا عن العلم).
ولذلك يرى مالك بن نبي أنَّ توجيه الثقافة هو الذي يسهم في صناعة الحضارة، لأن أهم مشكلات الحضارة عنده هي مشكلة الإنسان، وهو يرى أن علاجها يكون بتوجيه ثقافته وعمله وماله. والثقافة عنده تشمل (عنصر الأخلاق والذوق الجمالي والمنطق العملي والفن التطبيقي) وهي مصطلحات تحتاج إلى شرح كما هو الحال في كثير من مصطلحاته. نخلص من هذا كله إلى أنه ينبغي على أصحاب المشاريع العلمية أن يصنعوا الثقافة المحيطة بالطلاب، والتي تجعل المعلومات التي يتلقوها تصب في نهر واحد عظيم النفع كبير الأثر.
وكيف تكون صناعة الثقافة؟
يمكن أن نأخذ صورة مبسطة لذلك ب(الرؤية والرسالة والقيم والأهداف) التي يكتبها أصحاب المشاريع والتي صارت (موظة) في كثيرمن المشاريع الدعوية والخيرية والعلمية مؤخراً، ولكنها كثيرا ما تكون حبرا على ورق، وأحياناً تُكتَب لجلب الدعم للمشروع لا غير، وربما استعيرت كتابتها من قوالب جاهزة لمشاريع أخرى.. غير أنها إذا كُتبت بواقعية وعن فهم ثم فُعّلت وصارت روحاً مهيمنة على العاملين في المشروع فإنها تصنع إطار القيم الموجهة لعلوم الإنسان، وهذ جزء مهم من صناعة الثقافة السلوكية.
وعلى صعيد آخرأعمَّ، فإنه يمكن أنْ يُسهم المصلحون والدعاة الواعون في صناعة ثقافة عامة من خلال شبكات التواصل، وهذا مشاهد بصورة جزئية لدى عدد من المشاهير في الشبكات، حتى التافهون منهم من ذوي الرسائل الفارغة فإنهم يصنعون جزءا من الثقافة الهشة في متابعيهم ، وذلك لأنهم ينقلون لهم حياتهم اليومية بطريقة دعائية تشمل تعاملهم ومواقفهم وطريقة تفكيرهم في كل شؤون الإنسان في الأفراح والأحزان ومع الناس والأقارب وفي المناسبات وغير ذلك.
وهذا له تأثير في تكوين ثقافة الإنسان السلوكية.
وإذا تصورنا أن عددا كبيرا من المشاهير يتفقون في مستواهم المعرفي المتدني وفي طريقة تعاملهم التي تنزع إلى الشهرة والإثارة الإعلامية خاصة وأنهم يقلدون بعضهم، ثم إذا أدركنا أن عشرات الملايين يتابعون تفاصيل مجموع حياة هؤلاء المشاهير فإننا نستطيع أن نستوعب خطورة الحال في المستقبل من جهة صناعة الثقافة التافهة لملايين الصغار من الجيل الصاعد.
وإذا لم نُخفف من أثر هؤلاء المشاهير على الجيل ولم يُزاحَم هذا الواقع بمشاهير آخرين ذوي رسالة هادفة يشاركون في تكوين ثقافة هذا الجيل فإننا سنُبَشّر بمستقبل هش من جهة ثقافة أبنائه، وهذا خطير على المستوى العام للأمة.
وإذا كنا نظن أن هذا المستقبل المقلق يُمكن أن يصلح بسهولة على يد عالم أو داعية فهذا غير صحيح -والله أعلم- لأن تغيير الثقافة يختلف عن تغيير المعلومات أو تجديدها.
فتغيير الثقافة يتطلب عملاً طويلاً يعالج الجذور ووهو ما يتطلب مشاركة جماعية إصلاحية عامة طويلة الأمد.
ومن الطريف أن مالك بن نبي -وهو صاحبنا في هذا المقال- ابتدأ كتابه "شروط النهضة" بالتقليل من شأن دور الأبطال الثقافي وإن كانوا مقاومين للعدوان على الأمة في نفس الوقت، فيقول (ومن طبيعة هذا الدور -أي دور الأبطال- ألا يلتفت إلى حل المشكلات التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) 401/1
وأقصد بهذا النقل التنبيه إلى أن أحلام بعض اليائسين المعوِّلة على ظهور عالم مجدد أو داعية مصلح أو قائد مخلص ينهي كل مشكلات الأمة قد لا تكون على الشمولية التي يحلمون بها -لو حصلت-. والنظرة الأكمل والأقرب للحقيقة هي أن أفضل دور يُقدم لأبطال المستقبل هو الإسهام في صناعة الثقافة المناسبة لمشاريعهم الإصلاحية، حتى لا تكون أكبر مشكلة يواجهها أولئك المصلحون : ثقافة مشجعيهم البائسة!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد