رسائل ووقفات مع بداية العام الدراسي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

إن خير الوصايا الوصية بتقوى الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

معشر المؤمنين الكرام: المتأمل في سرعة انقضاء هذه الإجازة. يجد أنها وإن كانت فترةً قصيرةً في عمر الزمن، إلا أنها طويلةً في حساب المكاسب والخسائر. فقد غنم فيها قومٌ، وخسر فيها آخرون. وعجلة الزمن تمضي بلا توقف، وشتان بين من حفظ أوقاته، فكانت الثمرة زيادةٌ في أرصدة حسناته، ورفعةٌ لدرجاته، وبين من فرّط فيها، فكان من المغبونين. في الحديث المتفق عليه: "نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغُ".

 أيها الأحبة: وتدور الأيام دورتها، وتعود الحياة إلى طبيعتها، وينطلق قطار التعليم، وتنطلق معه حياةٌ جديدةٌ، مِلؤها التفاؤل والأمل، وإنه لأمرٌ يستحق التفكر والتأمل. كيف وقد قال : "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة". رواه مسلم. ها نحن أحبتي في الله: نعودُ والعَوْدُ أحمَدُ، نعود لنستقبل عامًا دراسيًا جديدًا، نسأل الله بمَنِّهِ وكرمه أن يجعله عام خيرٍ وبركةٍ وتوفيق. ولنا مع بداية هذا العام رسائل ووقفات، نوجهها إلى ثلاث فئاتٍ غاليات.

الفئة الأولى: معاشر الآباء والأمهات: فمع بداية كل عام دراسي، نستنفر جهودنا ونستعد له بكلِّ ما يلزمه من متطلباتٍ واحتياجات. نشتري وننفق بسخاء. لكن لعلَّنا لا ننسى أن نستعد بما هو أولى وأحرى، وذلك أن نهيئ أبنائنا نفسيًا، فهم يقضون في المدرسة ما لا يقل عن ست ساعاتٍ يوميًا، أي ما يقارب ألف ساعةٍ سنويًا. أي ما يقارب الخمسة عشر ألف ساعةٍ حين يُنهي الطالب مرحلته الجامعية. فهل علَّمنا أبنائنا وبناتنا كيف يتعلمون. هل أوضحنا لهم الهدف العظيم من هذه الدراسة الطويلة، وهل ذَكرناهم باحتساب الأجر عند الله، هل رفعنا من سقف طموحاتهم، ليكون النفع المتعدي، أحبُّ إليهم من النفع الشخصي.. إنَّ وجودَ أهدافٍ واضحةٍ ساميةٍ عند المتعلم، يكادُ يكون أمرًا شبه معدوم، وحتى من وضع له أهدافًا فغالبًا أنه لا يتجاوز الأهدافَ الشخصية الدنيويةَ القريبةَ، إلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ ووفق. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية، فكثيرٌ من أبنائنا وبناتنا الطلاب، يفتقدون لكثيرٍ من أبجديات حُسن التعامل فيما بينهم. نعم أحبتي الكرام، أكثر أبنائنا وبناتنا في أمس الحاجة لنغرس فيهم معاني البذل والإيثار، وحبِّ الخير للغير.. لأن نعلمهم أهمية حفظ اللسان، وحبسه عن كلِّ ما لا يليق بالمسلم، لأن نرتقي بأخلاقنا ونبتعد عن السخريةِ والاستهزاء، الأصل بيننا هو التسامحَ والصفاءَ، وليس التنابز والشحناء، أن نحثهم على التعاون فيما بينهم لتتضاعف الفائدة، فهم إخوةٌ في الله والدين. كما ينبغي أن يعلموا جيدًا أن المدرسة هي واحدةٌ من سُبلِ التعلم، وليست هي السبيلَ الوحيد، وأن المتعلم لن يحققَ أهدافهُ الساميةَ، إلا إذا توكلَّ على ربه ثم أعتمدَ على نفسه فعلَّم نفسه بنفسه، ولن يتم ذلك إلا أن يملك الطالب رغبةً شخصيةً قوية، وإرادة وتصميمًا، واندفاعًا ذاتيًا، يجعله يحسن تنظيم أموره، ويجيد استغلال وجدولة أوقاته، ويتقن فنَّ توظيف مواهبه وامكانياته، ليحقق أهدفه وغايته.

وعلينا معاشرَ الأولياء أن نعي جيدًا أن مهمة التربيةِ والتعليم ليست مقتصرة على المدرسة؛ بل إن لنا فيها النصيب الأكبر، وأننا نحن الذين نتحمل المسؤولية الأعظم، فنحن المخاطبون بذلك أصلًا: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}. وقد قال عليٌ رضي الله عنه عن قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ}: أي: علِّمُوهم وأدِّبوهم. بل إن الرسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرر أن المربي والمعلم الأول للولد هو وَالِده، جاء في الحديث المتفق عليه قال صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَودَانِهِ أَوْ يُنَصرَانِهِ أَوْ يُمَجسَانِهِ". ثم انادي اخواني المعلمين وهم الفئة الثانية، فأقول: يا معشر المربين الكرام: أنتم بيت القصيد ومحط الركب، أنتم رواد العلم وسُلّم الرقي. بين أيديكم عقول الناشئة، وعدة المجتمع وأمله، وعليكم بعد الله تعقد الآمال، ولسنوات عدة تحط عندكم الرحال، ونبيكم قد أكبر من شأنكم، وأعلى من مقامكم، حين قال عنكم: "فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ. وإِن اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ، وَأَهْلَ السماوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتى النّمْلَة فِي جُحْرِهَا، وَحَتّى الْحُوت، لَيُصَلّونَ عَلَى مُعَلّمِ النّاسِ الْخَيْرَ".

هاهم أبناء المسلمين قد أقبلوا عليكم مجيبين مجلين، ينتظرون منكم العلوم النافعة، والوصايا الجامعة، فخذوا بمجامع تلك القلوب إلى الله، ودلوها على مراضيه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.

يا مشاعل النور والرحمة: ما كان لله يدوم ويتصل، وما كان لغيره ينقطع ويضمحل، فأخلصوا لله القول والعمل. قال الحسن البصري رحمه الله: لا يزال الرجل بخير إن قال: قال لله، وإن عمل: عمل لله. فجملوا عملكم بالإخلاص، فأجر الدنيا قليل، والآخرة خيرٌ وأبقى.

يا مشاعل العلم والنور: رسالة العلم والتعليم اقتداء واتساء، اقتداء بخير المعلمين وإمام الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليه، قال معاوية رضي الله عنه: *فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا كرسول الله ، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني*، وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: "صحبت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي أفٍ قط". لقد كان خير المعلمين، لأنه كان في تعليمه حليمًا رحيمًا، رفيقًا شفيقًا، ييسر ولا يعسر، يبشر ولا ينفر، وكان خير المعلمين، لأنه كان في تعليمه، طلق الوجه، دائم التبسم، كثير التودد، قال جرير رضي الله عنه وأرضاه: *ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي*. وتأملوا يا رعاكم الله مطلع سورة الرحمن، {الرحمن * علم القرآن}، لتجدوا أنَّ الرحمة هي أهمُّ وأولى صفات المعلم، وأن المعلم بلا رحمة يفقد أهم مقومات نجاحه.

يا مشاعل الهدى: نعلم أن الأجيال تغيرت، وأن الملهيات والشواغل قد كثرت، فهل الحل في التضجر والشكوى، واليأس من صلاح الأحوال. كيف وأنتم تعلمون: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ}. والشاعر يقول:

أيأست يا أستاذ فارتفع التأوه والحزن        ***    وقعدتَ مكتوفَ اليديْن تقولُ قد فسدَ الزَّمنْ

ما لمْ تقمْ بالحمل أنتَ فَمَنْ يقوم به إذن     ***    فانهضْ ولا تشكُ الظروف ولا تقلْ كيف السَّبيلُ

ما ضَلَّ ذو رأيٍ سَعى يومًا وحكمتهُ الدَّليلُ  ***   كلاَّ ولا خاب امرؤٌ يومًا ومقصْدهُ نبيلُ

فيا إخواني المعلمين: وطنوا أنفسكم واصبروا، وشدوا عزائمكم واجتهدوا، واستعينوا بالله ولا تعجزوا، ابذلوا كل ما تستطيعون، ودافعوا الباطل بكل ما تملكون، واعلموا أن الله لا يضيع أجر المحسنين. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة: 122].  

 

معاشر المؤمنين الكرام: ومع الوقفة الثالثة: وهي موجهة إلى الطلبة والطالبات: أبنائي الأعزاء، بنياتي الغاليات. كم نتألم كثيرا عندما نرى أحدكم يتبرم ويتأفف، لأنَّ وقت الدراسة قد اقترب، وأتساءل مستغربًا: ماذا تتعلمون هناك؟ ألستم تتفقهون في أمور دينكم ودنياكم. ألستم تُنمُّون عقولكم، وتوسعون مدارككم، فهل يكره عاقلٌ مثل هذا.فلا بد أن النوايا تغيرت، وأصبح الغرضُ من العلم أن يُنالَ به رتب الدنيا، وتُحصَّلَ به الشهادات فقط، فلا عجبَ إذن، أن يُصبح العلمُ مملًا وثقيلًا، وإلا فأسلافنا لهم شأنٌ عجيبٌ مع طلب العلم، وما كان لدى أحدٍ منهم معشارَ ما عندنا من الوسائل المعينة، ومع ذلك فلذته عندهم لا توصف، ونهمهم منه لا ينقضي، لمَ؟ لأنهم طلبوه قربةٍ لله. تأمل معي ما يقولهُ الإمامُ ابن القيم رحمه الله:

*العلم حياةُ القلوب، ونورُ البصائر، وشفاءُ الصدور، ورياضُ العقول، ولذَّةُ الأرواح، وأنسُ النفوس*، ثم يقول رحمه الله: *هو الصاحبُ في الغربة، والمحدثُ في الخلوة، والأنيسُ في الوحشة، والكاشفُ عن الشبهة، مذاكرتهُ تسبيح، والبحثُ عنه جهاد، وطلبهُ قربة، وبذلهُ صدقة، ومدارستهُ عبادة، والحاجةُ إليه أعظم من الحاجة إلى الشراب والطعام*. وهذا شاعرٌ يناجي ولده فيقول:

(أيا ولدي) دعوتك لو أجبتا     **    إلى ما فيهِ حظّكَ لو عقِلتا

إلى علمٍ تكونُ به إمامًا           **    مُطاعًا إن نهيتَ وإن أمرتا

ويكشفُ ما بعقلكَ من شكوكٍ  **    ويهديك الطريق إذا ضللتا

وتلبس مِنه فوق الرأس تاجًا      **    ويكسُوكَ الجمالَ إذا نطقتا

وكنزٌ لا تخاف عليه لصًا          **    خفيفُ الحمل يوجدُ حيثُ كنتا

يزيد بكثرة الإنفاق منه           **     وينقص كلما عنه ابتعدتا

ينالك نفعهُ ما دمت حيًا         **     ويبقى ذِكرُهُ لكَ إن ذهبتا

فبادره وخذ بالجدِّ فيهِ             **      فإن أعطاكه اللهُ ربحتا

فالله الله بنيَّ المبارك، اطلب العلم بإخلاص وتجرّد، واجعل نُصبَ عينيك قول حبيبك المصطفى : "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة". والزم تقوى الله، فمَن اتقى الله فتحَ الله له من أبواب العلم والفهم ما لا يخطر له على بال، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. قال الإمام الثعالبي: من اتقى الله عُلّمَ الخَيْرَ وأُلْهِمَهُ.

فيا أيَّها الأبناء الأعزاء: ثقوا أنَّ في كلِّ فردٍ منَّكم خصائصَ وصفات، ومواهبَ وقدرات، لو فعَّلها بالشكل الصحيح، لتغيّرَ طعمُ الحياةِ في حسه، ولشعرَ بقيمته وعلوِ نفسه. وكم هي والله خسارةٌ عظيمة، وغبنٌ كبير، أن يوهبَ للإنسان عقلٌ سليم، وجسم صحيح، ويُنعمَ عليه بما لا يُحصى من النِّعم والمواهبِ والقدراتِ، ويُمدُّ في عمره سنواتٍ وسنوات، ثم يُضيِّعُ غالب ذلك في التوافه والترهات. ألا ما أشدَّ أن يخسرَ الإنسانُ نفسه؟! {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.

فيا بنيَّ الأريب: عليك بعُلوِ الهمَّةِ، وقوةِ الإرادةِ، وسموِ النفسِ.

فعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ   ***     وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ

قد هيئوك لأمرٍ لو علمت به      ***     فاربأ بنفسك أن تهوي مع الخبل

ومن تكُنِ العلياءُ همَّةَ نفسهِ        ***     فكلُّ الذي يلقاهُ فيها هيِّنُ

ومن كانت له نفسٌ تواقةٌ          ***     طارت به نحو المعالي

ومن لم تكن له بدايةٌ شاقةٌ         ***     فلن تكون له نهايةٌ مُشرقة

فكُن رجُلًا إن أتوا بعدهُ            ***     يقولونَ مرَّ وهذا الأثر

وتيقن بني المبارك: أنك لست بأقلَ من غيرك، ولا أدنى ممن سواك. وأنك من صُنع أفكاركَ، وأنك ثمرةٌ لقناعاتك وإيمانك. فغير قناعاتِك تتغيرُ حياتُك. غير قناعتِك لتحلو حياتَك، وتعظُمَ مُنجزاتُك. وهيا لتكون، ما ينبغي لك أن تكون. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply