هلاك أمتي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

روى الإمام أحمد عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"إِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي اثْنَتَيْنِ: القرآن وَاللَّبَنَ، أَمَّا اللَّبَنُ فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ [البادية] وَيَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ وَيَتْرُكُونَ الصَّلَوَاتِ، وَأَمَّا القرآن فَيَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ فَيُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ"[حسن].

فليس اللبن في ذاته ولا القرآن هو محل الخوف والضرر، وإنما عَبَّر بهما عن الشيء المتعلق بهما مجازًا.

وفيه التحذير من اتباع الشهوات والملذات وترك صلاة الجمعة والجماعات، وأن المنافق يتعلم القرآن ليجادل به المؤمنين، وقد قال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:*يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين*.

وفي رواية لأحمد: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"هِلاَكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ!" قَالُوا: مَا الْكِتَابُ وَاللَّبَنُ؟ قَالَ:"يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ، فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غْيَرِ تَأْوِيلِهِ، وَيُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَتْرُكُونَ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعَ وَيُبْدُونَ"، أي يخرجون إلى البوادي، فاللبن رمزية لأصحاب الشهوات والمنغمسين في الدنيا، وانعقاد القلب عليها، وتقديم اللذات على الواجبات. 

وفي رواية لأحمد فيها ضعف: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْكِتَابِ؟ قَالَ:"يَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ ثُمَّ يُجَادِلُونَ بِهِ الَّذِينَ آمَنُوا" فَقِيلَ: وَمَا بَالُ اللَّبَنِ؟ قَالَ:"أُنَاسٌ يُحِبُّونَ اللَّبَنَ فَيَخْرُجُونَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ وَيَتْرُكُونَ الْجُمُعَاتِ"، فالأول ضيع دينه رأيا، والثاني ضيع دينه سلوكا.

وفي حديث به ضعف رواه الإمام أحمد عَنْ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"يَتَّخِذُ أَحَدُكُمُ السَّائِمَةَ [حيوان الرعي] فَيَشْهَدُ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ، فَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَائِمَتُهُ فَيَقُولُ: لَوْ طَلَبْتُ لِسَائِمَتِي مَكَانًا هُوَ أَكْلَأُ مِنْ هَذَا، فَيَتَحَوَّلُ وَلَا يَشْهَدُ إِلَّا الْجُمُعَةَ، فَتتَعَذَّرُ عَلَيْهِ سَائِمَتُهُ، فَيَقُولُ: لَوْ طَلَبْتُ لِسَائِمَتِي مَكَانًا هُوَ أَكْلَأُ مِنْ هَذَا، فَيَتَحَوَّلُ فَلَا يَشْهَدُ الْجُمُعَةَ وَلَا الْجَمَاعَةَ، فَيُطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ".

قال في المجمع: رواه أحمد والطبراني في الكبير بمعناه وقال:(حتى لا يشهد جمعة، ولا يدري ما يوم الجمعة). 

وروى مسلم عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَأَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ:"لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنْ الْغَافِلِينَ".

وروى أحمد عن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مِرَارٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، طَبَعَ اللهُ عَلَى قَلْبِهِ".

وروى أبو يعلى بسند حسن عن أسامة بن زيد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"من ترك ثلاث جمعات من غير عذر كتب من المنافقين".  

وروى أبو داود في حديث ضعفه أهل العلم عن عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلْيَتَصَدَّقْ بِدِينَارٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِنِصْفِ دِينَارٍ" قال البخاري:لا يصح.

الجدال بالقرآن

ترجم ابن عبد البر لهذا الحديث بقولهباب فيمن تأول القرآن أو تدبره وهو جاهل بالسنة». 

ثم قال تحته:*أهل البدع أجمع أضربوا عن السنن، وتأولوا الكتاب على غير ما بينت السنة، فضلوا وأضلوا. نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله التوفيق والعصمة*.

ومن ضلالهم تغافلهم عن قوله تعالى موجها إلى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل:44].

إذًا بيان معاني القرآن يجب أن تستمد في مجملها من ِالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وممن استقى هذا العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسبيل السلامةِ وسبيل النجاة للأمة بأن يعتصموا بالقرآن والسُّنة على ما كان عليه أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

روى الترمذي وأبو داود حديث فيه ضعف عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ قَالَ فِي القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ". ومع ذلك فقد حسنه الترمذي وصححه ابن القطان.

وروى الترمذي حديث فيه ضعف عَنْ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"مَنْ قَالَ فِي القرآن بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ".

قال الترمذي: وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، «أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي هَذَا فِي أَنْ يُفَسَّرَ القرآن بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ العِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا القُرْآنَ، فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي القرآن أَوْ فَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا، أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ». 

وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: «مَا فِي القرآن آية إِلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا». 

وقَالَ مُجَاهِدٌلَوْ كُنْتُ قَرَأْتُ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ القرآن مِمَّا سَأَلْتُ».

فلابد للمفسر أن يستجمع آلات التفسير من العلم بالسنة وأقوال الصحابة والتابعين ومن تبعهم من العلماء الربانيين، والعلم بقواعد اللغة وبلاغة البيان وغيرها من الشروط والأدوات التي وضعها جمهور المفسرين لمن يتعرض لهذا الشأن، ولا يلزم بالطبع أن يهمل فكره ويعمل عقله فيما فتح الله عليه.  

ففي البخاري عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:"هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنْ الْوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ:لَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ [خلق] النَّسَمَةَ [كل ذي روح] مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ".

يعني ما يفهم من فحوى لفظ القرآن ويستدل به من باطن معانيه التي هي غير الظاهر من نصه والمتلقي من لفظه، ويدخل في ذلك جميع وجوه القياس والاستنباط التي يتوصل إليها من طريق الفهم والتفهم، ولذلك قال ابن عباس: 

"جميع العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال".

ولأنا لو قيدنا القول في القرآن بوجود نص سلف له لانتهى الأمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لم يترك تفسير مفصل له آية في كتاب الله تعالى.

ولذلك قال القسطلاني في إرشاد الساري: فيه جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولًا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وهذا فيه تأييد لقول إمام دار الهجرة مالك -رحمه الله-: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما هو نور وفهم يضعه الله في قلب من يشاء.

قال أهل العلم: آيتان ما أشدهما على من يجادل في القرآن قوله تعالى:{مَا يُجَادِلُ فِي آيات اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ}[غافر:4] وقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {البقرة:176]. 

وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:"جدال في القرآن كفر"[رواه أحمد وأبو داود وإسناده جيد]، وفي صحيح مسلم عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: هَجَّرْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا قَالَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آية فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَالَ:"إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ".

أمثلة ونماذج للجدال في القرآن

قاتل عليّ رضي الله عنه وأرضاه الخوارِج على تفسيرِ آيات الله جلَّ وعلا من القُرآن، فتأولَ الخَوارِج هذه الآيات على معاني شيطانية، فأجازوا قتلَ الصحابة، من خلالِ تفسيرهم الباطِل، فكان قتال الصحابة لهم.

ومن هذه التفسيرات الباطلة خلود أهل الكبائر من الموحدين في النار، كما قال عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في وصف الخوارج بأنهم:*انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين*.

-كقوله تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}[السجدة:20].

رغم أن سياق الآيات تدل على أنها نزلت في الكافرين المقابلين للمؤمنين، فقال تعالى:{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ}[السجدة:18-20]. 

والكفار فساق بنص القرآن الكريم، وليس المقصود بالفسق في هذه الآية وأمثالها المعصية التي تحدث من المسلم الموحد. فقد قال تعالى في وصف المنافقين النفاق الاعتقادي بأنهم فساق بعد أن وصفهم بالكفر:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:80]. 

وقال:{وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84].

-وقوله تعالى في سورة الفرقان:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)}

وهذا لا يفيد تأبيد الخلود والمقام والاستقرار لكل من دخلها، بل نصوص الشرع دلت على أن الخلود فيها للكافرين، وأن الموحدين -ممن استحقها لذنب- يخرجون منها. وقد وعدهم أكرم الأكرمين بأنهم تحت مشيئته إن شاء غفر لهم من أول وهلة، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم يدخلهم الجنة وهو مقتضي النصوص والإجماع،كما قال تعالى:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[النساء:48].

{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا}[النساء:116].

وفي البخاري عن أَبي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَبَشَّرَنِي أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ" قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟! قَالَ:"وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى". 

وفي صحيح أبي داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:"شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي".

-قوله تعالى في سورة الانفطار:{وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)}. والفجار يعني بهم الكفار المخلدين في النار، فما هم عن عذاب جهنم بغائبين لا بخروج منها ولا بموت. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}[فاطر:36].

والكفار فجار، وقد جاء وصفهم في الآيتين قبل تلك الآيات مصرحة بحكمهم في مقابلة حكم الله بالجنة للأبرار، قال تعالى عن المؤمنين الأتقياء الأبرار:{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}[الانفطار:13].

-وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآياتنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف:40].

فهذا جزاء هؤلاء الكفار الذين كذبوا بآيات ربهم واستكبروا عن اتباعها، فقد حرم الله عليهم الجنة. كما قال تعالى:{... إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72].

-وقوله تعالى:{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:81] فلفظ {سيئة} في الآية الكريمة فسروها بالمعصية، دون الشرك، وساقوا بعض النصوص العامة عن السلف، فعن الضحاك {وأحاطت به خطيئته} قال: مات بذنبه. وعن الربيع بن خثيم:{وأحاطت به خطيئته} قال: مات عليها. 

رغم أن سياق الآيات في شأن اليهود الكفار، بدلالة الآية قبلها:{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أم تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:80].

قال شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله-: وقوله:{بلى من كسب سيئة} تكذيب من الله القائلين من اليهود {لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة} وإخبار منه لهم أنه يعذب من أشرك وكفر به وبرسله، وأحاطت به ذنوبه فخلد في النار، فإن الجنة لا يسكنها إلا أهل الإيمان به وبرسوله وأهل الطاعة له، والقائمون بحدوده.

ثم ساقه بإسناده إلى ابن عباس:{بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} أي من عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما كفرتم به حتى يحيط كفره بما لَه من حسنة {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}.

ومن هلاك القوم بالقرآن «إلغاء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[المائدة:105] رغم أن جمهور أهل العلم على أن قوله:{لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} أي بعد أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر بدلالة النصوص الأخرى.

ففي سنن الترمذي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}[المائدة: 105]، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

"إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا، فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ".

ومن الهلاك تحليل الربا القليل وتحريم الفاحش منه، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:130].

قال جمهور المفسرين: خرج مخرج الواقع والغالب، إذ الدرهم الواحد حرام كالألف، وإنما كانوا في الجاهلية يؤخرون الدين ويزيدون مقابل التأخير حتى يتضاعف الدين فيصبح أضعافًا كثيرة.

وقال في البحر المحيط: والربا محرم جميع أنواعه، فهذه الحال لا مفهوم لها، وليست قيدًا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافًا مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافًا مضاعفة.

وقال ابن عاشور: فلا يقتصر التحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافا كثيرة، حتى يقول قائل: إذا كان الربا أقل من ضعف رأس المال فليس بمحرم. فليس هذا الحال هو مصب النهي عن أكل الربا حتى يتوهم متوهم أنه إنه كان دون الضعف لم يكن حراما.

ومن الهلاك تغليب آيات الرجاء أو آيات الخوف، فالأول يفضي للتساهل بأمور الشريعة، والثاني يفضي إلى القنوط واليأس. 

ومن الهلاك تعلم المقامات الموسيقية مجاوزة الحدّ في قراءة آياته بالتّطويل والتّطريح والتّشدّق بفهم خاطئ للحديث النبوي "زَيِّنُوا القرآن بِأَصْوَاتِكُمْ"[أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجةَ].

وختاما

عن الأوزاعي قال كتب عمر بن عبد العزيز: إنه لا رأي لأحد في كتاب الله، وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال الشافعي:*لو علم الناس ما في الكلام والأهواء، لفروا منه كما يفرون من الأسد*.

قال الإمام مالك  رحمه الله: *ينبغي أن تتبع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة ولا يتبع الرأي*.

قالَ ابنُ بطة: لا تُشاوِر أحدًا من أهل البِدع في ديِنك.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply