يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57))  {وَإِذْ} واذكروا يا بني إسرائيل حين {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل.

عدّ صاحب المنتخب هذا إنعامًا خامسًا، وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير بالنعم، وذلك لأنه أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وضُعِف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم، وهو التوبة. وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى.

قال ابن عاشور: هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جُعل جابرا لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن، فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة، وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمن لها قوله تعالى {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}[البقرة:52] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان الذنب للنفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان. {يَا قَوْمِ} وإقبال موسى عليهم بالنداء، ونداؤه بلفظ يا قوم، مشعر بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، ولذلك أضافهم إلى نفسه، كما يقول الرجل: يا أخي، ويا صديقي، فيكون ذلك سببًا لقبول ما يلقى إليه، بخلاف أن لو ناداه باسمه، أو بالوصف القبيح الصادر منه.

فناداهم بوصف القومية تحببًا، وتوددًا، وإظهارًا بأنه ناصح لهم؛ لأن الإنسان ينصح لقومه بمقتضى العادة.

وفيه أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يستعمل الأسلوب الذي يجذب إليه الناس، ويعطفهم عليه؛ لقوله تعالى حكاية عن موسى: {يا قوم}؛ فإن هذا لا شك فيه من التودد، والتلطف، والتحبب ما هو ظاهر. 

{إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ} نقصتم أنفسكم حقها؛ لأن "الظلم" في الأصل بمعنى النقص، كما قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا}[الكهف:33] أي لم تنقص.

{أَنفُسَكُمْ} أكد الجملة لبيان حقيقة ما هم عليه. وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13] ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه، فإذا ظلمها، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره.

{بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلهًا تعبدونه من دون الله؛ وهذا العجل كان من ذهب، وأن الذي فتن الناس به رجل يقال له: السامري.

فلم يبين هنا من أي شيء هذا العجل المعبود من دون الله؟ ولكنه بين ذلك في مواضع آخر كقوله: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}[الأعراف:148]، وقوله: {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ}[طه:87-88].

ولم يذكر المفعول الثاني للاتخاذ في جميع القرآن وتقديره: باتخاذكم العجل إلها؛ كما أشار له في سورة "طه" بقوله: {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ، فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى}.

قال السلمي: عجل كل واحد نفسه، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد بريء من ظلمه.

{فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ} أي منشئكم وموجدكم من العدم، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة. وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذوات من العدم، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة، لا الذي صنعه، مصنوع مثله.

قال الزمخشري:*فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت، {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ}[الملك:3] ومتميزًا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة. في أمثال العرب: «أبلد من ثور»، حتى عرّضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها.*انتهى كلامه.

وفيه أنه ينبغي التعبير بما يناسب المقام؛ لقوله: {فَتُوبُواْ إلى بَارِئِكُمْ}؛ لأن ذكر "البارئ" هنا كإقامة الحجة عليهم في أن العجل لا يكون إلهًا؛ فإن الذي يستحق أن يكون إلهًا هو البارئ. أي الخالق سبحانه وتعالى.

{فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} ما أُمروا أن يقتل كل واحد منهم نفسه؛ بل يقتل بعضهم بعضًا؛ ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}[الحجرات:11] أي لا يعيب بعضكم بعضًا؛ وعبر عن ذلك بـ "النفس" ؛ لأن الأمة كنفس واحدة؛ فمن لمز أخاه فكمن لمز نفسه.

فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}[النور:61] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ}[البقرة:84] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض.

والمعنى: ليقتل البريء منكم المجرم، وكانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار.

وهذا تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد -وإن جاز الاجتهاد للأنبياء- فإن هذا حكم مخالف لقاعدة «حفظ النفوس» التي قد اتفقت عليها شرائع الله فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم.

فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا: نصبر لأمر الله فجلسوا بالأفنية محتبين وقيل لهم: من مد حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردودة توبته، وأصلت القوم عليهم الخناجر، فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله تعالى، قالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله تعالى عليهم ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلما كثر القتل دعا موسى وهارون عليهما السلام وبكيا وتضرعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشف الله تعالى السحابة وأمرهم أن يكفوا عن القتل فتكشفت عن ألوف من القتلى.

يروى عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: "كان عدد القتلى سبعين ألفا، فاشتد ذلك على موسى فأوحى الله تعالى إليه: أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه".

وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم المعاودة إليه.

وأنكر المعتزلة هذه التوبة بالقتل، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من «مراعاة المصلحة». فقالوا:*وهذا لا يجوز أن يأمر الله به، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة، لأن ذلك من فعل الله تعالى، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحًا لمكلف آخر، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوًا من أعضائه، ولا يحصل الموت عقيبه، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيًا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحًا في الأفعال المستقبلة*.

مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره. وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.

{ذَلِكُمْ} أي قتل أنفسكم {خَيْرٌ} من العصيان والإصرار على الذنب {لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ} وكرر البارئ باللفظ الظاهر توكيدًا، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم، فكما رأى أن إنشاءكم راجح، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.

{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ} أي كثير التوبة: لكثرة توبته على العبد الواحد، وكثرة توبته على التائبين الذين لا يحصيهم إلا الله، فهو يتوب في المرات المتعددة على عبده، ويتوب على الأشخاص الكثيرين الذين تكثر توبتهم {الرَّحِيمُ} أي ذو الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء.

وفيه أنه ينبغي للإنسان أن يتعرض لما يقتضيه هذان الاسمان من أسماء الله تعالى؛ فيتعرض لتوبة الله، ورحمته؛ فيتوب إلى ربه سبحانه وتعالى، ويرجو الرحمة؛ وهذا هو أحد المعاني التي قال عنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ"[البخاري]؛ فإن من إحصائها أن يتعبد الإنسان بمقتضاها.

{وَإِذْ قُلْتُمْ} اذكروا أيضًا يا بني إسرائيل إذ قلتم... ؛ والخطاب لمن كان في عهد الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن إنعامه على أول الأمة إنعام على آخرها؛ فصح توجيه الخطاب إلى المتأخرين مع أن هذه النعمة على من سبقهم.

{يَا مُوسَى} في نداء بني إسرائيل لنبيهم باسمه سوء أدب منهم معه، إذ لم يقولوا: يا نبي الله، أو يا رسول الله، أو يا كليم الله، أو غير ذلك من الألفاظ التي تشعر بصفات التعظيم، وهي كانت عادتهم معه: {يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ}، {يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}،{يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}. وقد قال الله تعالى لهذه الأمّة المحمدية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا}[النور:63].

{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} لن نصدّقك فيما جئت به من الوحي والتوراة، وليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا حين قولهم هذا، ولكنها دالة على عجرفتهم وقلة اكتراثهم بما أوتوا من النعم وما شاهدوا من المعجزات حتى راموا أن يروا الله جهرة وإن لم يروه دخلهم الشك في صدق موسى عليه السلام. 

{حَتَّى نَرَى} نبصر {اللَّهَ جَهْرَةً} عيانا، من الجهر وهو الظهور الواضح، إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا، ومنه جهر البئر إذا أظهر مائه، وإما بحاسة السمع نحو{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ}[طه:7] وكقولك: جهر بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية البصرية التي لا حجاب دونها ولا ساتر.

والمعنى: حتى نبصر الله عيانا، ووجه العدول عن أن يقول عيانا إلى قوله "جهرة" لأن جهرة أفصح لفظا لخفته، فإنه غير مبدوء بحرف حلق، والابتداء بحرف الحلق أتعب للحلق عند وقوعه في وسط الكلام، ولسلامته من حرف العلة، وكذلك يجتبي البلغاء بعض الألفاظ على بعض لحسن وقعها في الكلام وخفتها على السمع، وللقرآن السهم المعلى في ذلك وهو في غاية الفصاحة.

ولم يقولوا ذلك ويسألوا الرؤية إلا على سبيل التعنت، لأن رؤيته عز وجل لا تحصل إلا في الآخرة، فطلبها في الدنيا هو مستنكر.

وفيه أن من سأل ما لا يمكن فهو حري بالعقوبة؛ لقوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ}؛ لأن الفاء تدل على السببية. ولاسيما في مثل حال هؤلاء الذين قالوا هذا عن تشكك؛ وفرْق بين قول موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، وبين قول هؤلاء: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}؛ فموسى قال ذلك شوقًا إلى الله عزّ وجلّ، وليتلذذ بالرؤية إليه؛ أما هؤلاء فقالوه تشككًا. يعني: لسنا بمؤمنين إلا إذا رأيناه جهرة؛ ففرق بين الطلبين. {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} نار من السماء أحرقتهم، وأجمع المفسرون على أن المدّة من الموت أو الصعق كانت يومًا وليلة. 

{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ} أي ينظر بعضكم إلى بعض حين أخذكم الموت. فائدة التقييد بهذا الحال الدلالة على أن الصاعقة التي أصابتهم نار الصاعقة لا صوتها الشديد لأن الحال دلت على أن الذي أصابهم مما يرى.

وفيه أن ألم العقوبة ووقعها إذا كان الإنسان ينظر إليها أشد؛ لقوله تعالى:{وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}؛ فإن الإنسان إذا رأى الناس يتساقطون في العقوبة يكون ذلك أشد وقعًا عليه.

قال بعضهم: لما أحلهم الله محل مناجاته، وأسمعهم لذيذ خطابه، اشرأبّت نفوسهم للفخر وعلوّ المنزلة، فعاملهم الله بنقيض ما حصل في أنفسهم بالصعقة التي هي خضوع وتذلل تأديبًا لهم وعبرة لغيرهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ}

[آل عمران:13].

{ثُمَّ بَعَثْنَاكُم} تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفاء طبع {مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} والبعث هنا: الإحياء، ذُكر أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول:*يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا* حتى أحياهم الله جميعًا رجلًا بعد رجل، ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون.

وهذه إحدى الآيات الخمس التي في سورة البقرة التي فيها إحياء الله تعالى الموتى؛ 

والثانية: في قصة صاحب البقرة؛ والثالثة:في {الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}[البقرة:243].

والرابعة: في قصة الذي {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} [البقرة:259]. 

والخامسة في قصة إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..} [البقرة:260].

والله تعالى على كل شيء قدير، ولا ينافي هذا ما ذكر الله في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:15-16]؛ لأن هذه القصص الخمس، وغيرها -كإخراج عيسى الموتى من قبورهم- تعتبر أمرًا عارضًا يؤتى به لآية من آيات الله سبحانه وتعالى؛ أما البعث العام فإنه لا يكون إلا يوم القيامة؛ ولهذا نقول في شبهة الذين أنكروا البعث من المشركين، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الأنبياء:38]، ويقولون 

{فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[الدخان:36] نقول: إن هؤلاء مموهون؛ فالرسل لم تقل لهم: إنكم تبعثون الآن؛ بل يوم القيامة؛ ولينتظروا، فسيكون هذا بلا ريب.

{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لعلكم تشكرون نعمته بالإحياء بعد الموت، أو لعلكم تشكرون نعمة الله بعدما كفرتموها إذا رأيتم بأس الله في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت، فإنما بعثهم بعد الموت في دار الدنيا ليكلفهم وليتمكنوا من الإيمان ومن تلافي ما صدر عنهم من الجرائم. 

ولفظ الشكر يتناول جميع الطاعات لقوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}[سبأ:13] والشكر هو القيام بطاعة المنعم إقرارًا بالقلب، واعترافًا باللسان، وعملًا بالأركان؛ فيعترف بقلبه أنها من الله، ولا يقول: إنما أوتيته على علم عندي؛ كذلك أيضًا يتحدث بها بلسانه اعترافًا لا افتخارًا؛ وكذلك أيضًا يقوم بطاعة الله سبحانه وتعالى بجوارحه؛ وبهذه الأركان الثلاثة يكون كمال الشكر.

قال ابن جرير: عن محمد بن إسحاق، قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحَرّق العجل وذَرّاه في اليم، اختار موسى منهم سبعين رجلا الخَيِّرَ فالخير، وقال: انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّتَه له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعِلْم، فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله، قالوا: يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: 

{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} فأخذتهم الرجفة، وهي الصاعقة، فماتوا جميعًا. وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}[الأعراف:155] قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاك. اخترتُ منهم سبعين رجلا الخَيِّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}[الأعراف:156] فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل، ويطلب إليه حتى ردّ إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا؛ إلا أن يقتلوا أنفسهم.

{وَظَلَّلْنَا} فالظل من نعم الله التي امتن بها على عباده، فقال تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلًا}[النحل:81]. {عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} والغمام من الغم، وأصله التغطية والستر، وسمي السحاب غماما لأنه يغطي وجه الشمس. وكان ذلك في التيه بين الشام ومصر لما شكوا حر الشمس. 

{وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ} قال مجاهد: هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد، وقيل: مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة. كان ينْزل عليهم بين طلوع الفجر وطلوع الشمس؛ فإذا قاموا أكلوا منه.

روى البخاري عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْكَمْأَةُ [نبت لا ورق ولا ساق له، يوجد بالأرض بغير زرع] مِنْ الْمَنِّ [الذي نزل على بني إسرائيل أو من شيء يشبه طبعًا أو طعمًا أو نفعًا أو من حيث حصوله بلا تعب] وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ".

{وَالسَّلْوَى} طائر يشبه السماني، وفيه أن لحم الطيور من أفضل اللحوم؛ لأن الله تعالى هيأ لهم لحوم الطير. وهو أيضًا لحوم أهل الجنة، كما قال تعالى:{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ}[الواقعة:21].

{كُلُواْ} قلنا لهم: كلوا {مِن طَيِّبَاتِ} أمر إباحة، فالإنسان لا ينبغي أن يتعفف عن الشيء المباح؛ ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-:*من امتنع من أكل الطيبات لغير سبب شرعي فهو مذموم*؛ وهذا صحيح؛ لأنه ترك ما أباح الله له وكأنه يقول: إنه لا يريد أن يكون لله عليه منة؛ فالإنسان لا ينبغي أن يمتنع عن الطيبات إلا لسبب شرعي؛ والسبب الشرعي قد يكون لسبب يتعلق ببدنه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بدينه؛ وقد يكون لسبب يتعلق بغيره؛ فقد يمتنع الإنسان عن اللحم؛ لأن بدنه لا يقبله، فيكون تركه له من باب الحمية؛ وقد يترك الإنسان اللحم، لأنه يخشى أن تتسلى به نفسه حتى يكون همه أن يُذهب طيباته في حياته الدنيا؛ وقد يترك الإنسان الطيب من الرزق مراعاة لغيره، مثل ما يذكر عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في عام الرمادة -عام الجدب المشهور- أنه كان لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى اسود جلده، ويقول:*بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع*؛ فيكون تركه لذلك مراعاة لغيره؛ إذًا من امتنع من الطيبات لسبب شرعي فليس بمذموم.

والمباح من الزرق هو الطيب، والتحريم في أكل الخبيث، والخبيث نوعان: خبيث لذاته؛ وخبيث لكسبه؛ فالخبيث لذاته كالميتة، والخنْزير، والخمر، وما أشبهها، كما قال الله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ}[الأنعام:145] أي نجس خبيث؛ وهذا محرم لذاته؛ محرم على جميع الناس؛ وأما الخبيث لكسبه فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسبه، وليس محرمًا على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعامل اليهود مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب..

{مَا رَزَقْنَاكُمْ} ولا تدخروا لغد ففعلوا، فقطع الله ذلك عنهم، ودود وفسد ما ادخروا. 

روى مسلم.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا بَنُو إسرائيل لَمْ يَخْبُثْ الطَّعَامُ وَلَمْ يَخْنَزْ اللَّحْمُ [أي لم يتغير ولم ينتن لأن بني إسرائيل لما أنزل الله عليهم المن والسلوى نهوا عن ادخارها فادخروا ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت] وَلَوْلَا حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا الدَّهْرَ".[أي أبدا لأنها ألجأت آدم إلى الأكل من الشجرة مطاوعة لعدوه إبليس وذلك خيانة له فنزع العرق في بناتها].

{وَمَا ظَلَمُونَا} نفي أنهم لم يقع منهم ظلم لله تعالى، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء إمكان وقوعه، لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه ألبتة.

وقيل: مثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلما قد حصل منهم من قوله: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}[البقرة:51] وقوله: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ}[البقرة:54] وما تضمنه قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[البقرة:55] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم، فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}[البقرة:9] عقب قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:9] ونظير قولهم: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}[سبأ:19] بعد الكلام السابق وهو قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً}[سبأ:18].

{وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ولكن لم يزالوا ظالمي أنفسهم بكثرة ما يصدر منهم من المخالفات. أما الله تبارك وتعالى فإنهم لا يظلمونه؛ لأنه سبحانه وبحمده لا يتضرر بمعصيتهم، كما لا ينتفع بطاعتهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply