بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
التجارة تعد تجربة تُستعرض فيها قوة الإنسان ونقاط ضعفه. ففي التعامل مع المال، وأثناء السفر، وفي العمل، يُظهر الإنسان وجهه الحقيقي. لذا يتعين توضيح الأخلاق التجارية كما حددها الإسلام.
نعلم من الآية 275 من سورة البقرة أن الإسلام جعل التجارة مباحة، حيث قال الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا). وقد ذكر في كتب التاريخ أن التجارة النزيهة كانت سببًا في تكوين صورة إيجابية للمسلمين حول العالم. وقال الله تعالى في سورة النساء الآية 29: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ).
فالتجارة شأنها عظيم، وقد ندب إليها الإسلام، وعظّم شأنها، وأثنى على أهلها المتقين الذين استقاموا وحافظوا على ما أوجب الله، وابتعدوا عما حرم الله، وهي من أهم أعمال المسلمين، ومن أهم طرق الكسب، وهي عمل المهاجرين، فلما هاجر المسلمون من مكة وغيرها إلى المدينة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام اشتغلوا بالتجارة، وكان الأنصار يشتغلون بالزراعة. وقد كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تجار معروفون، مثل عبدالرحمن بن عوف.
أخلاق التجارة:
- الاتجار بالمباح فقط:
يجب أن تكون السلعة المعروضة للبيع مباحة. فلا يجوز بيع السلع الضارة أو المحرمة شرعًا أو المسروقة. هذه قاعدةٌ يجب التمسكُ بها، فالالتزام بها يجلب الرزق الحلال والبركة، بينما التجاوز عنها قد يؤدي إلى الفقر والضياع.
- الصدق والإخلاص:
في التجارة، يجب الابتعاد عن الخدع واستخدام اليمين الباطلة للترويج البضائع. قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "مَن حَمَلَ عليْنا السِّلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَن غَشَّنا فليسَ مِنَّا". رواه مسلم.
- عدم المغالاة في الأسعار:
يجب أن تكون الزيادة في سعر السلعة معقولة، فبالإنصاف في الأسعار يحقق المرء النجاح والفائدة للمجتمع، إذا كنتم تحسنون التعامل مع الناس، فإن الله سيحسن إليكم. الذين يسعون لتحقيق الأرباح خلال الأزمات ويهملون أخلاق التجارة، يتسببون في تضخم الأسعار، ويسهمون في التضخم المالي، دون النظر إلى الآثار السلبية المترتبة على ذلك.
- التسهيل والتيسير:
يجب على التاجر أن يكون مرنًا ويُسهل الأمور على الناس، ومن حقوق المشتري أن يسدد ثمن السلعة في الوقت المحدد ويسدد الديون في الوقت المناسب. إن الله يحب الميسرين في التجارة.
- الإفصاح عن نقائص السلعة بأمانة:
عندما يكون للسلعة أي عيوب، يجب على البائع الإفصاح عنها. ففي حال الإخفاء يكون ذلك ظلمًا. وقد قال الله تعالى في القرآن: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)(الأنفال: 58). ولا يجوز التدليس في البيع، تعتبر عقوبة المدلس في الشرع واجبة، والربح الناتج منه حرام. إذا كان الطرفان يتعاملان بشفافية بشأن مميزات وعيوب المنتج تزيد البركة. وقد ورد في القرآن: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ في الآخرة...) (آل عمران: 77).
- العدل في المكاييل والأوزان:
قال الله تعالى: (وَالْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُ الْمِيزَانَ)(الرحمن: 9). وهناك سورة كاملة بعنوان )المطففين( تدين من يغش في التجارة ويظلم الناس. يقول تعالى في بدايتها: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وزنوهم يخسرون.)
- عدم التكديس بانتظار ارتفاع الأسعار:
الإسلام يحظُر تخزين السلع بانتظار ارتفاع أسعارها. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل، موضحًا أن من يقوم بذلك فهو مخطئ.
- عدم المغالاة في المفاصلة عند الشراء:
المفاصلة أو التفاوض ليس شرطًا في البيع، لكنها سُنة إذا كانت ضرورية. من الأفضل شراء المزيد للفقراء وإسعادهم. والمفاصلة الزائدة خارج الحدود ليست من الشريعة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى".
لذا فإن عمل التاجر النزيه الذي يُميز بين الحلال والحرام يعتبر عبادة. وأساس التجارة هو الجمع بين الأمانة والثقة، مع الأخذ بعين الاعتبار متطلبات الزمان، واللطف مع العملاء والتعامل الراقي معهم. فمن يخرج عن هذه الآداب، فإنه سيفقد رونق التجارة وسيغلق مصدر رزقه بيديه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث الذي يرويه الإمام الترمذي عَنْ عَبْدِالله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".
إذن التاجر النزيه هو الذي يحافظ على واجباته الدينية ويزكي ماله، ويبتعد عن الجشع واحتكار السلع والغش والتعامل بالحرام، ويساعدون إخوانهم في أوقات الشدة، ودعمهم في اللحظات الصعبة، وإدخال السرور على الفقراء، هم من سيكونون مع الصديقين والشهداء يوم القيامة. فكل تاجرٍ لديه القدرة على هذه النزاهة، لكن قليلين هم الذين يحافظون على ذلك. فغالبية الناس ينسون واجباتهم الدينية ويركضون وراء الحرام من أجل الربح. نسأل الله سبحانه أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه إنه سميعٌ مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد