الصدقة عن الأموات


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

كثيرًا ما تثير قضية الصدقة عن الأموات في روسيا نقاشاتٍ حادة، تؤدي إلى تأثيم بعض المسلمين للبعض الآخر في أحسن الأحوال، وفي أسوأها تصل إلى الإخراج من زمرة أهل السنة والجماعة، أو حتى من الإسلام ككل. من عادات المسلمين هنا، وخاصة التتار ومسلمي آسيا الوسطى والأذريين، إقامة مجالس سنوية في ذكرى وفاة أقربائهم وخصوصًا الوالدين، يدعون فيها ضيوفًا من المسلمين، وعادةً ما يُدعى الإمام ليقرأ في هذه المجالس القرآن والأدعية التي يُترحم فيها على الأموات، ثم يُقدم الطعام بنية الصدقة (يسمونها أحيانًا *الإحسان*) عن الميت. وهنا أسرد شرح الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني المتوفى في 1182 هـ في كتابه *سبل السلام* (شرح *بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام*) للحديث رقم 906:

وَعَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ.

وشرحه (أي الصنعاني): وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: "أَنَّ رَجُلًا جَاءَ مُبَيَّنًا أَنَّهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ (بِضَمِّ الْمُثَنَّاةِ بَعْدَ الْفَاءِ السَّاكِنَةِ، وَكَسْرِ اللَّامِ نَفْسُهَا) أُخِذَتْ فَلْتَةً وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ أَفَلَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ".(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ) فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةِ مِنْ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْمَيِّتَ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى} لِثُبُوتِ حَدِيثِ "إنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ"، وَنَحْوِهِ فَوَلَدُهُ مِنْ سَعْيِهِ، وَثُبُوتِ "أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".وذكر الصنعاني في آخر كِتَابِ الْجَنَائِزِ الحديث رقم (557) وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبُورِ الْمَدِينَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنَا وَنَحْنُ بِالْأَثَرِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ. وذكر في شرحه:فِيهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ إذَا مَرَّ بِالْمَقْبَرَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الزِّيَارَةَ لَهُمْ.

وَفِيهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالْمَارِّ بِهِمْ وَسَلَامِهِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا كَانَ إضَاعَةً وَظَاهِرُهُ فِي جُمُعَةٍ وَغَيْرِهَا وَفِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَوَّلُ وَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَا لِأَحَدٍ أَوْ اسْتَغْفَرَ لَهُ يَبْدَأُ بِالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَالِاسْتِغْفَارِ لَهَا وَعَلَيْهِ وَرَدَتْ الْأَدْعِيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك وَلِلْمُؤْمِنِينَ} وَغَيْرِ ذَلِكَ وَفِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَدْعِيَةَ وَنَحْوَهَا نَافِعَةٌ لِلْمَيِّتِ بِلَا خِلَافٍ.

وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ قِرَاءَةِ القرآن لَهُ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ لَا يَصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِ .وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلى وُصُولِ ذَلِكَ إلَيْهِ.

وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ إلى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً كَانَ أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا أَوْ صَدَقَةً أَوْ قِرَاءَةَ قُرْآنٍ أَوْ ذِكْرًا أَوْ أَيَّ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَرْجَحُ دَلِيلًا وَقَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ "أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَيْفَ يَبَرُّ أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَأَجَابَهُ بِأَنَّهُ يُصَلِّي لَهُمَا مَعَ صَلَاتِهِ وَيَصُومُ لَهُمَا مَعَ صِيَامِهِ" وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ سُورَةَ يس" وَهُوَ شَامِلٌ لِلْمَيِّتِ بَلْ هُوَ الْحَقِيقَةُ فِيهِ وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ "أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُضَحِّي عَنْ نَفْسِهِ بِكَبْشٍ وَعَنْ أُمَّتِهِ بِكَبْشٍ" وَفِيهِ إشَارَةٌ إلى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْفَعُهُ عَمَلُ غَيْرِهِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ بِمَا يَتَّضِحُ مِنْهُ قُوَّةُ هَذَا الْمَذْهَبِ. انتهى كلام الصنعاني.

وأنا هنا لا أرجح قولًا على قول، ولكن أردت أن أوضح أن في الأمر اجتهادًا ومذاهب، ولا يجوز الانقسام بين المسلمين بسبب هذه الأمور. ولا يوجد حاجة لمحاربة عادة استمرت لقرون بين المسلمين مبنية على رأي شرعي مبني على دليل. لعلَّ إخواننا الدعاة الحريصون على عودة المسلمين من أهل هذه البلاد إلى دينهم ونشر تعاليم الإسلام بين سكان روسيا أن يتركوا النزاع والاختلاف المقيت في هذه المسألة ويتوجهوا إلى ما هو أهم.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply