بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
دعيت من قبل مركز الاستثمار الأمثل للدراسات والاستشارات الوقفية والوصايا إلى لقاء عن بعد مع المختصين للحديث عن وسائل إحياء الأوقاف المعطلة والمندثرة، وهو موضوع سبق الكتابة عنه والحديث حوله اعتمادًا على دراسات منشورة في كتب، أو بمشاهدة مواد مرئية، وهي صادرة من قبل مراكز أخرى مثل استثمار المستقبل، ومركز مواقف، ومؤسسة ساعي، وغيرها، إضافة إلى أوراق علمية وأبحاث مقدمة في مؤتمرات وندوات، وإن وجود هذه المراكز النشيطة، وتلكم العناية العلمية المتزايدة، لمما يبشر الأوقاف والمجتمعات بخير عميم.
وقبل البداية أشير إلى أمرين مهمين، أولهما أن الالتفات للأوقاف إن على صعيد التنظيم الرسمي، أو الاهتمام المجتمعي، أو التطبيق الرشيد، لأمر يجلب السرور والسعادة للناس والمجتمع في حاله ومآله، ذلك أن الوقف ركيزة خيرية، وفيه نفع وتكافل وتشارك يمنح المجتمعات الاستحقاق بأن توصف بأنها حية. والأمر الثاني أن مسألة تعطل الأوقاف وتعثرها وإهمالها، من المسائل التي خدمت مؤخرًا بدراسات وكتب ومحاضرات، وورد عنها أقوال قديمة لدى الفقهاء المسلمين، ومع ذلك فلا زالت بحاجة إلى المزيد من البحث والحوار؛ فهي شأن قديم شائك مستمر، وما لم ينظر فيه بعمق وإجراءات عملية؛ فقد يزداد تعقيدًا، وتكثر إشكالاته.
إن الوقف منتج وثيق الصلة بحضارتنا الإسلامية في التنظير والتطبيق والتطوير، وجدير بنا أن نقود الحضارات الأخرى فيه؛ لأن الذي جرى للوقف من إرثنا الشرعي وتجاربنا العملية يعطينا صفة الأولية والأولوية إذا أخذنا هذه الخلافة بقوة وبحسن النية والممارسة. وهي فرصة كي تستقل أمتنا عن التبعية للآخرين في شأن لها فيه تقدمة وتاريخ عريق، عسى أن يكون بداية انعتاق سلس للعرب والمسلمين من وحل الانقياد خلف غيرهم لأسباب عسكرية أو سياسية أو غيرها.
وبعد هذه المقدمة يناسب أن نتفق على تعريف للأوقاف المعطلة أو المتعثرة، فبعد التصور الصحيح يمكن الصيروة إلى مواطن الإصلاح والمعالجة؛ إذ يُعدّ الوقف معطلًا إذا انتفت المنفعة منه تمامًا، وهذا هو التعطل الكلي. كما ينظر إليه على أنه وقف معطل إذا كان ريعه أو منفعته أقل من المعتاد في مثيلاته، وهذا هو التعطل الجزئي على اختلاف في نسبة النقص في الإيراد والمنفعة لدى الباحثين، ولا ينفي هذا وجود من لا يراه تعطلًا من الأصل ما بقيت فيه منفعة أيًا كانت نسبتها.
أما الوقف المتعثر فهو الوقف الذي بدأ العمل فيه ولم يكتمل، وإن انتصف أو بلغ نسبة عالية من الإنجاز دون التمام، وعليه فهما وصفان يشتركان في انتفاء الفائدة المرجوة من الوقف بالتعطل أو التعثر، سواء انتفت تلكم الفوائد كلها أو بعضها. ويعود هذا الخلل إلى أسباب يجمعها إما ممارسة خاطئة، أو تنظيم معيق، أو أحوال متغيرة، وتكمن جماع الحلول في سعة أفق الواقف، وأهلية النظار، ومواكبة المنظم وتعاونه، والتجديد الفقهي، وذلك كله بعد توفيق الله ثم حسن النية. وسوف نستعرض الأسباب والحلول مع توصيات عامة باختصار دون إسهاب.
-أسباب التعطل التي تتعلق بالواقف:
-ضعف كتابة صك الوقف ووثيقته.
-التضييق في شريحة المنتفعين ونوع المشروعات المنفذة.
-اختيار نظار غير مناسبين بأشخاصهم أو بأوصافهم.
-تمكين الورثة من الوقف تمكينًا كليًا.
-الغفلة عن تحديد طريقة لاختيار النظار وتجديد مجلس النظارة.
-إهمال تسجيل الوقف رسميًا خوفًا عليه من الاستيلاء المبني على التوجس وسوء الظن أحيانًا.
أسباب تتعلق بالنظار:
-تدني التأهيل الإداري والاستثماري والشرعي.
-كثرة الخلافات فيما بينهم، أو مع الواقف وورثته، أو مع المستفيدين، أو مع الأجهزة الرسمية.
-تقديم المصالح الشخصية على مصلحة الوقف.
-اختيار فريق تنفيذي ضعيف.
-التراخي في المتابعة والتقييم والتصحيح، والبطء في المعالجة.
-الغفلة عن استشراف المستقبل.
أسباب تتعلق بالبيئة والأحوال العامة:
-التغيرات المناخية.
-اختلاف قيمة العقار حسب الأزمنة والأمكنة.
-الجوائح مثل كورونا والزلازل.
-الانتقال الكثيف من الموضع أو هجره تمامًا.
-ارتفاع أسعار البناء.
-أسباب تتعلق بنوع الوقف ومصرفه:
-بعض الأنواع مثل الوقف الزراعي، والأراضي البور هي الأكثر تعرضًا للتعطل أو التعثر.
-انتفاء المستفيد بصفته أو بمكانه، مثل الوقف على ذرية فنيت، أو على المصابين بمرض وانتهى.
-صعوبة أو استحالة تنفيذ أغراض الوقف.
أسباب إجرائية:
-البطء من الأجهزة الرسمية في التعاطي والتفاعل مع طلبات النظار، أو بلاغات المستفيدين، أو مصلحة الوقف.
-تآخر التشريعات عن حاجة السوق وتطوراته، وعن علاج المشكلات الحادثة.
-التعقيدات في المحاكم والأجهزة الحكومية.
-محاولة فرض السيطرة بقوة النظام.
-إضافة اشتراطات رسمية لم تكن موجودة.
-كيف يمكن التفاعل مع مشكلة التعطل والتعثر؟
-يمكن بالنظر إلى الأسباب السابقة أن نحدد طرق العلاج بعدة محاور مرتبطة بتلك المسببات، وغالبها حلول إدارية، أو تنظيمية، أو قضائية، أو مالية، ومنها:
حلول تخص الواقف:
-صياغة وثيقة وقف محكمة فيها من الاتساع ما يمنع من وقوع الحرج، وفيها من التقييد ما يحول دون التفريط.
-حسن اختيار النظار بالأسماء والأوصاف.
-وضع نظام تصويت وترشيح وتعاقب ومتابعة واضح وقابل للتنفيذ.
-فصل الوقف تمامًا عن بقية الممتلكات.
-منع الورثة من الاستقلال بالتصرف في الوقف.
-تسجيل الوقف رسميًا بما يضمن حمايته ومتابعته.
-إتمام هذه الأعمال بالتعاقد مع بيوت الخبرة المختصة المأمونة.
حلول تخص النظار:
-اختيار عدد مناسب من النظار على أن يكون التنوع ظاهرًا فيهم لمصلحة الوقف.
-متابعة النظار من قبل المستفيدين ومن الأجهزة الرسمية ومن المجتمع.
-تطبيق معايير الحوكمة والمحاسبة المالية دوريًا.
حلول تخص الأحوال العامة:
-متابعة الخطط التنموية بما فيها من توسع، ونزع ملكية، وتغيرات.
-دراسة الجدوى قبل إنشاء أيّ وقف.
-استشراف المستقبل بدراسة الاحتمالات الوجيهة الممكنة، وتحديد كيفية التعامل معها، وسبل الاستعداد المبكر لذلك.
حلول تخص أنواع الوقف ومصارفه:
-تجديد أعيان الوقف وأنواعه من خلال المحافظ الاستثمارية، والصناديق، والشراكات، والعقارات القائمة.
-توسيع دائرة المستفيدين بالصفة أو المكان أو نوع المشروع.
-منح الحرية للنظار بالتغيير بناء على تأكد تحقيق مصلحة الوقف.
حلول تخص الأجهزة الرسمية:
-فتح الباب للتعاون مع الواقفين والنظار والمستفيدين من باب التشارك وتحقيق المصالح العامة المنشودة.
-وضوح التنظيمات والتشريعات وتفاعلها مع المستجدات.
-إشراك أصحاب الخبرة وذوي المصلحة في الرأي والاستماع لهم دومًا.
-المتابعة الدورية الدقيقة للأوقاف ونظارها ومصارفها وصيانتها وما يرد حولها من بلاغات.
-نشر التقارير والنماذج الناجحة.
-تيسير السبل النظامية لإنقاذ الوقف من التعثر أو التعطل.
-التواصل مع القضاء ودور الإفتاء بما يخدم الوقف ويحول دون ضرره.
-التنسيق الدائم مع القطاع الغير ربحي فالمؤسسة الوقفية والغير ربحية وثيقتا الصلة.
-إضافة ما يخص الأوقاف في أنظمة المؤسسات والجمعيات الأهلية.
-عقد اللقاءات العلمية ونقل التجارب دوريًا.
حلول مالية وإدارية وقضائية لمعالجة التعطل أو التعثر:
-التمويل عبر عقود البناء والتشغيل.
-الاستدانة على الوقف.
-ضبط عقود الإجارة خاصة الطويلة منها.
-الاندماج مع كيان آخر وزيادة رأس المال.
-التوجه نحو تفعيل الموارد بالإعلان والتأجير وتنويع الاستثمار.
-ترشيد النفقات والمصروفات.
-إعادة الهيكلة المالية والإدارية.
-استبدال الوقف.
-تحويل الوقف لأقرب وقف مماثل من جنسه إلّا أذا أمكن معالجة التعطل أو التعثر.
-تعديل شرط الواقف إذا كان الصرف من الوقف أعلى من الصرف على صيانة الوقف بما يلحق الضرر بالوقف.
-قسمة المال المشاع لتحرير الوقف من الشراكة المجحفة أو الضارة.
-تفعيل الإفادة من الصيغ الحديثة المجازة أو التي يصدر قرار بجوازها من مجمع الفقه الإسلامي وتعين على إعمار الأوقاف المعطلة والمتعثرة.
-الإيجار المتناقص أو المنتهي بالتمليك.
-المشاركة المتناقصة بالتمليك.
-صيانة العين الموقفية أو نقلها.
-تنويع الأصول، والإصرار على الحوكمة، وتطبيق الإدارة الحصيفة، والتعامل مع المخاطر؛ بما يقي الأوقاف من معضلة التعطل.
-الموازنة في موارد الوقف بين الاستثمار والصيانة والعائد على المنفعة.
-استقطاب الكفاءات.
-تحديد كيفية صناعة القرار واتخاذه وتنفيذه ومتابعته فيما يخص الوقف.
-البحث عن أفضل الممارسات ومحاكاتها.
-التوثيق الرسمي لصك الوقف والإشهاد عليه.
-إنجاز الوقف في حياة الواقف؛ لأن تركه للورثة مظنة الضياع.
-إنشاء بنك للأوقاف وتخصيص قسم منه للمتعطل والمتعثر.
-التسويق الجيد للوقف واستثمار كل شيء فيه بما يضمن الاستدامة.
-إدارة الأوقاف من خلال شركة وقفية تجيد التعامل مع السوق بنظرة تجارية استثمارية لمنفعة الوقف.
-استصدار الفتاوى والأنظمة للتعامل مع الأوقاف المعطلة، ومع النوازل كافة.
-الإبلاغ الرسمي عن أيّ خلل يلحق بالأوقاف.
-استحضار صلاح النية من الواقف والناظر والموظف والمراقب وجميع المحيطين بالوقف.
-مساءلة من يكون سببًا في ترك الأوقاف المعطلة دون علاج مع قدرته على ذلك.
-بعض الأوقاف معطلة بسبب وقوعها في أرض إسلامية محتلة، والله يعجل باستنقاذها.
ثمّ إنه من خدمة الأوقاف وتحقيق النفع الدائم لها معرفة عوامل استدامة الأوقاف المعمَّرة، وهي ما بين عوامل متعلقة بالواقف ونيته وقيامه على وقفه ووثيقته، إلى عوامل متعلقة بالأصل في حسن اختياره وصيانته، وتعاهده وتنويع أعيانه. وفيها عوامل مرتبطة بالتوثيق بصياغة محكمة تراعي المتغيرات، ومنها عوامل متعلقة بالمصرف في مرونته ومشاركة المتأثرين بالوقف في متابعته، وتوسيع أفق المصارف وتنويعها، إضافة إلى عوامل متعلقة بالولاية على الوقف؛ مثل وجود نظام لاستخلاف النظار، ووضوح المعايير والضوابط للانتقاء والمتابعة.
ومن المنطقي أن يكون من هذه العوامل الواردة في دراسة ميدانية استقصائية عن الأوقاف المعمرة عوامل قانونية مثل القضاء المستقل، والتكيف مع المتغيرات، واستقلالية الأوقاف. وجاءت معها أخيرًا عوامل عامة متنوعة مثل دعم المجتمع والتطوير المستمر، وهذه العوامل بعضها ظاهر في الأوقاف محل تلك الدراسة كافة، واستبان بعضها في أوقاف دون غيرها، ولا شكّ في صعوبة إثبات بعضها، ومن المتيقن أن اللجوء لله عامل حاسم في التوفيق والعون.
ألا ما أسعد من يشارك في حفظ الأوقاف وتقويتها، وفي صيانتها معنويًا وماديًا، ورعاية أمانتها الثقيلة، وفي أيّ شأن يجعل خيراتها مستمرة غير منقطعة ولا متعطلة ولا متعثرة؛ فالوقف سنة نبوية، ومنهج راشدي، وقربة صنعها المقتدرون من الصحابة فمن بعدهم من أعلام الواقفين عبر التاريخ. ومن لم يوفق لامتلاك المال فلا أقل من أن يخدم الأوقاف بما يقدر عليه، وأن يجعل شيئًا من مواهبه ومزاياه ومنتجاته وقفًا على هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد