الرد على شبهة النصارى وجسد الإله


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ ناسًا قالُوا لِرَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: "يا رَسولَ اللهِ، هلْ نَرَى رَبَّنا يَومَ القِيامَةِ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ تُضارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللهِ، قالَ: هلْ تُضارُّونَ في الشَّمْسِ ليسَ دُونَها سَحابٌ؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللهِ، قالَ: فإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ، كَذلكَ يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَومَ القِيامَةِ فيَقولُ: مَن كانَ يَعْبُدُ شيئًا فَلْيَتَّبِعْهُ، فَيَتَّبِعُ مَن كانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، ويَتَّبِعُ مَن كانَ يَعْبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، ويَتَّبِعُ مَن كانَ يَعْبُدُ الطَّواغِيتَ الطَّواغِيتَ، وتَبْقَى هذِه الأُمَّةُ فيها مُنافِقُوها، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تَبارَكَ وتعالى في صُورَةٍ غيرِ صُورَتِهِ الَّتي يَعْرِفُونَ، فيَقولُ: أنا رَبُّكُمْ، فيَقولونَ: نَعُوذُ باللَّهِ مِنْكَ، هذا مَكانُنا حتَّى يَأْتِيَنا رَبُّنا، فإذا جاءَ رَبُّنا عَرَفْناهُ، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ تعالى في صُورَتِهِ الَّتي يَعْرِفُونَ، فيَقولُ: أنا رَبُّكُمْ، فيَقولونَ: أنْتَ رَبُّنا فَيَتَّبِعُونَهُ ويُضْرَبُ الصِّراطُ بيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ..." إلى آخر الحديث.

إذن لماذا ينكر المسلمون أن إله النصارى أخذ لنفسه جسدًا على الرغم من أن الله أخذ لنفسه صورة؟

بدايةً فإننا ننصح بالابتعاد عن النقاشات بين الأديان وتجنب الشبهات، فقد وجّه النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى سلوك مسلك الورع، وتجنب الشبهات؛ فقال: "فمنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ فقد استبرأَ لدينِه وعرضِه ومن وقعَ في الشُّبُهاتِ وقعَ في الحرامِ"، فبيّن أن متقي الشبهات قد برأ دينه من النقـص؛ لأن من اجتنب الأمور المشتبهات سيجتنب الحرام من باب أولى.

وقد دل الكتاب والسنة على أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الجنة، وعلى ذلك أجمع الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أهل الهدى.

وليعلم المسلم أن أحاديث الصفات يجب الإيمان بما دلت عليه من غير تكييف مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن الشبه بالمخلوق، فقاعدة السلف في صفات الله تعالى هي إمرارها كما جاءت بلا كيف كما قال شيخ الإسلام في كتاب (العقيدة الواسطية): ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصف به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. انتهى.

وذكر الشيخ الغنيمان حفظه الله في شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري كلام أهل العلم والتحقيق في المسألة فنقل عن شيخ الإسلام أنه قال: لفظ الصورة في الحديث كسائر ما ورد من الأسماء والصفات، التي قد يسمى المخلوق بها على وجه التقييد، وإذا أطلقت على الله اختصت به، مثل العليم والقدير والرحيم والسميع والبصير، ومثل خلقه بيديه، واستوائه على العرش ونحو ذلك… ونقل عنه أيضًا: وكما أنه لا بد لكل موجودٍ من صفات تقوم به، فلا بد لكل قائم بنفسه من صورة يكون عليها، ويمتنع أن يكون في الوجود قائم بنفسه ليس له صورة يكون عليها. ونقل عن ابن قتيبة قوله: الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد.

وبالنسبة إلى إله النصارى واتخاذه جسدًا فإن هذا الكلام المذكور، كاف لإبطاله لمن عنده علم بمعنى الربوبية والألوهية، وما ينبغي أن يتصف به الإله الحق من صفات الكمال والجلال والعظمة، والتي في طليعتها: الحياة التامة الكاملة التي لا يسبقها عدم، ولا يعتريها نقص، مع القيومية والصمدية التي لا يمكن أن تكون إلا مع الوحدانية المطلقة، بما تقتضيه من القوة والجبروت، والعزة والملكوت، والكبرياء والعظمة، والعلم والقدرة، وغير ذلك من صفات الكمال! فأين هذا من اعتقاد التجسد في هيئة إنسان، يعاني ما يعانيه البشر، ويتنازل عن حقوقه وعظمته، ويسمح أن يجلده بعض خلقه، بل يصلبوه ويقتلوه، كما قال تعالى في كتابه:

وقال الدكتور سعود الخلف في كتابه: دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية ـ عند حديثه عن الأقنوم الثاني عند النصارى الابن: المراد بالابن عندهم كلمة الله المتجسدة وهو المسيح عليه السلام، ويزعمون أن الابن مساو للأب في الوجود، وأن الأب خلق العالم بواسطة الابن، وأنه الذي نزل إلى الأرض بالصورة البشرية فداء للبشر، وهو الذي يتولى محاسبة الناس يوم القيامة، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، واستدل النصارى على أن المسيح ابن لله بما ورد في الأناجيل من النصوص التي تنسب المسيح ابنا لله، ومن تلك النصوص ما ورد في إنجيل متى ـ 16ـ16ـ من قول بطرس لما سأله المسيح عن نفسه ماذا يقول الناس عنه، قال: أنت هو ابن الله الحي... فبمثل هذه الإطلاقات اعتقد النصارى أن المسيح ابن الله، بمعنى أنه خرج من الله عز وجل، وهو قول باطل وافتراء على الله عز وجل تعالى الله عن قولهم.

وللرد على النصارى يمكن القول بأن ما أوردوه من أدلة لا تصلح أن تكون مستندًا لإثبات عقيدة خطيرة كهذه، لما يلي:

أولًا: أن كتبهم التي يستندون إليها في هذا هي كتب غير موثقة، وغير سليمة من التحريف، وقد سبق بيان هذا.

ثانيًا: أن البنوة التي يزعمها النصارى تختلف عن ظاهر لفظ: ابن الله ـ الوارد في الأناجيل، فالابن في الأصل جزء من الأب ومتخلق من نطفته، ويكون الأب سابقا للابن في الوجود، والفضل له في وجوده، وما يعتقد النصارى في المسيح لا يتفق مع البنوة الحقيقية، وإنما يزعمون أن الابن هو الأب، وأنه مساوٍ له في الجوهر والوجود والمجد، وهي أمور لم ترد في الأناجيل، ولا يستطيع النصارى أن يقيموا عليها الدليل العقلي فضلًا عن الشرعي.

ثالثًا: أن هذا الوصف وهو ابن الله أطلق على غير المسيح في مواطن كثيرة من أناجيلهم، منها في إنجيل متى 5ـ9ـ طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون ـ وفي 5ـ45ـ إن المسيح خاطب تلاميذه قائلًا: وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات ـ وفي إنجيل يوحنا ـ 1ـ12ـ فقد ورد عن المؤمنين بالمسيح: وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله.

وفي إنجيل لوقا ـ20ـ 36 ـ قال: لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله أبناء القيامة ـ وورد وصف يعقوب وبنيه بذلك ففي سفر الخروج ـ 4ـ22ـ أن الله خاطب موسى قائلا له: فتقول لفرعون هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر، فقلت لك أطلق ابني ليعبدني ـ وكذلك ورد في سفر إشعياء ـ 43ـ6ـ إئت ببني من بعيد وببناتي من أقصى الأرض، والنصارى لا يقولون إن بني إسرائيل والحواريين أبناء الله حقيقة، وإنما يقولون هذه بنوة مجازية تعني العبادة من طرف العباد، والحفظ واللطف والرعاية من قبل الله عز وجل لهم، فكذلك إذًا ما ورد من بنوة المسيح لله لا تعني غير ذلك، إذ أن العبارتين واحد، فيجب أن يستويا في الدلالة والمعنى، ما لم يدل دليل على خلاف ذلك، وليس هناك ما يدل على خلاف ذلك.

رابعًا: أن المسيح ـ عليه السلام ـ قد دلت الأدلة الكثيرة على بشريته، وأنه رسول الله، كما أوردت الأناجيل وصفه بأنه ابن الإنسان وابن داود وغير ذلك من الأوصاف الدالة على بشريته، ومن ذلك ما ورد في إنجيل متى:8ـ20 ـ فقال له يسوع: للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه.

وفي إنجيل مرقص ـ2ـ28ـ ابن الإنسان هو رب البيت أيضًا، وفي إنجيل لوقا ـ 7ـ34ـ من كلام المسيح لليهود: جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فتقولون هو ذا إنسان أكول شريب خمر محب للعشارين والخطاة، وفي إنجيل يوحنا ـ1ـ51ـ الحق أقول لكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان، وفيه أيضا ـ8ـ40ـ يقول لهم المسيح: وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله، فورد وصفه بأنه ابن الإنسان في ثمانية وستين موضعا تقريبًا في الأناجيل الأربعة، أما ما ورد وفيه إطلاق ابن الله عليه فقد ورد في ثلاثة وعشرين موضعا تقريبًا في الأناجيل الأربعة منها أربعة مواضع فقط التي ورد فيها هذا الوصف من كلام المسيح، أما الباقي فليس من كلام المسيح، بل بعضه من كلام إبليس والشياطين، فكيف يترك المعنى الظاهر الواضح الذي تؤيده النصوص الكثيرة والواقع، والذي يتفق مع العقل والمنطق إلى المعنى الخفي البعيد الذي تعارضه النصوص ولا يتفق مع العقل ولا المنطق!!. اهـ.

قال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم: (اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلًا، وأجمعوا أيضًا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلًا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ومن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة… وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا…) انتهى كلام النووي رحمه الله تعالى.

ولله كمال العزة، وكذلك كل صفاته الحسنة العليا والله تعالى أعلى وأعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply