مدخل إلى حفظ القرآن الكريم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، ويسَّره للعالمين تلاوةً وفهمًا وحفظًا وتدبرًا وتفسيرا. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا}. والصلاةُ والسلامُ على من بعثهُ اللهُ تباركَ وتعالى هاديًا ومبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا منيرًا، وعلى آله وصحبهِ وأتباعه، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أخي الكريم. أختي الكريمة.

فهل راودك حلمٌ أن تكون من حفَّاظِ كتاب الله تعالى.

هل فكرت يومًا أن تكون من أهل القرآن الكريم.

هل سألت نفسك (بإلحاح): ماذا يتطلَّبُ مني حِفظُ كتابِ الله جلَّ وعلا..

هل حاولتَ سابقًا أن تحفظَ القرآن الكريم ولم تستمر.

كيف يكونُ القرآن ميسرًا للحفظ والكثيرُ من الناس لم يستطيعوا أن يحفظوه.

كيف يمكن للشخص العادي أن يحفظَ كتاب اللهِ كاملًا وبإتقانٍ شديد.

هل هناك طريقةٌ نموذجيةٌ أفضلَ من غيرها لحفظ القرآن الكريم.

هل هناك أساليبَ وأدواتٍ تُسهِّلُ عملية الحفظِ وتقوي تثبيتهُ.

تساؤلاتٌ كثيرةٌ. سنحاولُ بإذن اللهِ أن نجيبَ عليها في هذه السلسلة من المقالات. وأن نقدمَ فيها الكثيرَ من النصائحِ والتوجيهات. وأن نُحركَ بعون اللهِ ما تجمَّدَ من الهمم والطاقاتِ. وأن نُزيلَ بحول اللهِ ما قد يُعيقُ البعضَ من أوهامٍ ومُثبطات. فاستعن بالله وتابع القراءة.

{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

ابتداءً أقول: أنَّ أكثرَ الناسِ (وللأسف الشديد) لم يتبينوا مقدارَ ما منحهم اللهُ تعالى من قُدراتٍ هائلةٍ. وطاقاتٍ ضخمةٍ. ومواهِبَ فائقةٍ. تؤكدُ الكثيرُ من الدراساتِ والأبحاثِ أنَّ الانسانَ (العادي) لا يُفعِّلُ منها إلا مِقدارًا ضئيلًا جدًا. وأنهُ لو وفق لتفعيلِها بالشكل الصحيحِ فسيحقَّقُ نتائجًا كبيرةً، وإنجازاتٍ مميزة.

وتؤكدُ الدراساتُ أيضًا أنَّ الذين يحققونَ الإنجازاتِ المتميزة، إنما هم في الحقيقةِ بشرٌ عاديون. لكنهم يبذلونَ من الجهد كُلَّ ما يستطيعون. ولديهم من الإصرار (والعناد) وتكرارِ المحاولةِ ما يجعلهم يُصرون على المواصلة حتى يحققوا ما يُريدون. قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

وفي المقابل فغالبيةُ الناسِ مع الأسفِ الشديدِ يقعونَ تحتَ تأثيرِ كمٍّ هائلٍ من الرسائلِ السلبيةِ المحبِطةِ المحطِّمةِ، عايشوها أو سمِعوها ممن حولهم. تراكمت في وعيِهم عبرَ السنيين، فشكَّلت عندهم قناعةً سلبيةً مُحطِّمة، أقعدتهم عن مواصلةِ المحاولة.

نعم ربما عانوا من تجاربَ سابقةٍ لم يُحالِفهم فيها النجاح.

ربما أنَّ أسبابَ النجاحِ لم تكتمل لهم في تلك التجربة التي لم يوفقوا فيها.

ربما سلكوا طريقًا خاطئًا. ربما أخفقوا مرةً أو مرتين.

ربما أصابهم شيءٌ من الكسل وضعفِ الهمَّةِ فتوقفوا ولم يكملوا.

ربما انشغلوا بأشياء أخرى صرفتهم عن المواصلة والاستمرار.

خلاصة الأمر: أنهم توقفوا قبل أن يصلوا إلى أهدافهم.

القاسم المشترك الأكبر بين الناجحين:

لقد تبينَ من دراسة حياةِ كبارِ الناجحين وذوي الإنجازاتِ المتميزةِ. أنَّ هناك صفاتٍ كثيرةٍ مُشتركةً بينهم. كقوة الإرادةِ، وروح المثابرةِ. وحُسن التَّخطيطِ. وامتلاكِ المهاراتِ المساعدةِ على بلوغ الهدفِ. وتكوينِ العلاقاتِ المفيدةِ. وحُسنِ إدارةِ الوقتِ وتنظيمهِ بالشكل السليم. وغيرها كثير.

إلا إنَّ الصفةَ الأهمَّ والأقوى من بين جميعِ تلك الصفاتِ المشتركة: هي وضوحُ الهدفِ بدقةٍ وكونهِ مُلهِمًا. يُلهبُ الحماسَ، ويرفعُ الهِمَّةَ، ويُحفزُ العزيمةَ للمُضيِّ قُدُمًا حتى يتحقَّقَ الهدفُ بإذن الله.

تلك هي الصفةُ الأولى والأهمُّ: (وضوحُ الهدفِ بدقةٍ).

أما الصفةُ الثانيةُ فهي التخطيطُ الجيد (على الورق) لبلوغ الهدفِ، وتقسيمِ العملِ إلى مراحل مُتتابعةٍ يسهلُ تنفيذها مرحلةً بعد أخرى.

والصفةُ الثالثةُ هي التركيز. والتركيزُ هو حصرُ الذِّهنِ (بوعيٍ) على هدفٍ مُحددٍ. جاء في الحديث "إن المنبت لا ظهرًا أبقى ولا أرضًا قطع". والمنبتُ هو المشتَّتُ الذي يتنقلُ بين البرامج والأعمالِ دونَ أن يُكملَ أيَّ منها. أرأيتَ إلى من يتسلقُ الجبلَ. إنهُ لا يُفكرُ إلا في القِمَّة. والقِمَّةُ فقط. فركِّز تُنجِز.

ولكي يكونَ الهدفُ واضحًا ومحددًا فلا بدَّ أن نُجيبَ بدقةٍ على السؤال التالي:

لماذا أحفظُ كتابَ الله تعالى. والجوابُ بإسهابٍ:

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّه حبلُ اللهِ المتين. وصِراطهُ المستقيم. ومنهجهُ القويم. ونورهُ المبين. وذكرهُ الحكيم. من قالَ به صدق. ومن حكمَ به عدل. ومن عَمِلَ به أُجر. ومن دعا إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيم. لا تنقضي عجائبهُ. ولا يخلقُ عن كثرة الرد. ولا يشبعُ منه العلماء.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. اقتداءً بالنبي الحبيب صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين وعلماءُ الأمَّة وأئمتها رضوان الله عليهم أجمعين.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّ الذي ليس في جوفه شيءٌ من القرآن الكريم كالبيت الخرب.

أحفظُ كتابَ اللهِ تعالى. لأنَّ الذي يحفظهُ يقالُ له يوم القيامة أقرأ وارتقي ورتل كما كنت ترتلُ في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّهُ سببٌ للنجاة من عذاب جهنّم؛ ففي الحديث الصحيح: قال : "القرآن يَأْتي يَومَ القِيامَةِ شَفِيعًا لأَصْحابِهِ".

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّ الماهرَ بالقرآن مع السفرة الكرامِ البررة.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّ اللهَ يرفعُ بهذا القرآن أقوامًا ويضعُ به آخرين.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنالَ به مقامَ الخيريةِ. ففي صحيح البخاري: "خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه".

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّ صاحب القرآن يومَ القيامةِ يُلبسُ تاجَ الكرامةِ وحُلَّة الكرامةِ، ويرضى عنه الربُّ تبارك وتعالى.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأفوز بهدآياته وبركاتهِ. {إِنَّ هَذَا القرآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنالَ من بركته العظيمة: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. ليكونَ لي نورًا ورحمةً وشفاءً. {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. ليكونَ لي ذكرًا ورفعةٍ في الدنيا والآخرة. {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّه ثبت أنَّ أهلَ القرآن هم أهلُ اللهِ وخاصتهُ. وكفى بهذا شرفًا وفضلًا وعلو منزلة.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأنَّ حِفظهُ من أقوى أسبابِ الثبات على الهداية. {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. حتى لا أكونَ من الذين يهجرونَه عياذًا بالله. {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القرآن مَهْجُورًا}.

أحفظُ كتابَ الله تعالى. لأستعينَ بذلك على تلاوته وفهمهِ وتدبرهِ. {بَلْ هُوَ آيات بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ}.

أحفظُ كتابَ اللهِ تعالى. لأنَّه ما مِنْ خيرٍ عاجلٍ ولا آجلٍ إلا والقرآن مُوصلٌ إليهِ مُعينٌ بإذن اللهِ عليهِ. {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}.

أحفظُ كتابَ اللهِ تعالى. لأنَّ حفظهُ طُمأنينةٌ في القلب، ونُورٌ في الصدر، وَبصيرةٌ في العقل، واستقامةٌ في اللسان، وفصاحةٌ في البيان.

إلى غير ذلك من فوائد حفظِ القرآن العظيم وثمراته المباركة.

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

ثم إنَّ القرآن العظيمَ رغم أنهُ غزيرُ المعاني. بليغُ الأسلوبِ. قويُ الحبكِ والتركيبِ. شديدُ الوقعِ والتأثير. إلا أنهُ قريبُ الفهمِ والاستيعاب. سهلُ الحفظِ والتَّذكر. جميلُ النغمةِ والجرْسِ. ترتاحُ النفوسُ لسماعةِ، وتنشرحُ الصدور بتلاوته، وتطمئنُ القلوبُ بذكره. تأمَّل قوله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. ثم تأمَّل كيف تكرَّر ورودُ هذه الآية الكريمةِ في نفس السورةِ أربعَ مراتٍ. وفي هذا دِلالةٌ واضحةٌ أنَّ القرآن العظيمَ مُيسرٌ جدًا لكُلِّ من أرادَ حِفظهُ (بصدق). وأنه لا عُذرَ لأحدٍ في ترك ذلك. فلا يُعذرُ بضعف الإمكانياتِ، ولا بكثرة الانشغالات، ولا بغيرها من الأعذار الواهيات. فالله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

يقول الشيخ ابن بازٍ رحمه الله: والمعنى أنَّ اللهَ يسَّرَ هذا القرآن للحفظ والفهمِ والتدبرِ والتلاوةِ. فجديرٌ بالمؤمن والمؤمنةِ العنايةُ بهِ حِفظًا وتلاوةً، وتدبرًا ومُذاكرةً. ثمَّ يقولُ رحمهُ الله: ومن صَدَقَ اللهَ في طلب ذلك يسَّرَ اللهُ لهُ حِفظهُ، فاللهُ يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. (انتهي كلامه رحمه الله).

ولا أدلَ على شِدَّة تيسِيرهِ من كثرة من يحفظُ القرآن الكريمَ كاملًا. حِفظًا قويًا راسخًا. رغمَ تواضُعِ مستواهم العلمي، ورغم عدمِ تميُزهم العقلي، بل إنَّ بعضهم قد تقدمت به السنُّ كثيرًا. بل إنَّ منهم من تجاوزَ السبعين والثمانين. وهناك من حفظَ القرآن وهو في التسعين. كما أنَّ هناك من الاعاجِم من يحفظُ القرآن الكريمَ حفظًا مُتقنًا، رغم أنه لا يعرفُ من العربية شيئًا. وكُلُّ ذلك يؤكدُ أنَّ القرآن الكريم مُيسرٌ تيسيرًا عظيمًا لكل من صدق في طلبه، وأمتلك عزيمةً ورغبةً جادةً في حفظه. وأنَّ اللهَ بفضله وكرمِهِ هو الذي سيُعينُه ويُيسرُ لهُ مُرادهُ. فهو القائل سبحانه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.

وإلى اللقاء في الجزء الثاني.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply