بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أُوصيكم أيُّها النَّاسُ ونفسي بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فاتقوا اللهَ رحمكم اللهُ؛ فكفى بالله وليًا، وكفى بالله وكيلًا، وكفى بالقرآن منهجًا ودليلًا، فاتَّبِعوا يا عبادَ اللهِ ولا تبتدعوا، وتواضَعوا ولا تترفَّعوا، وتقلَّلوا ولا تتوسعوا، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
معاشر المؤمنين الكرام: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}، هكذا يقول الله في سورة المدثر، فقطرة الماء التي جعل الله منها كلَّ شيءٍ حيٍّ. تنقلبُ طوفانًا جارفًا يهلك الحرث والنسل، ويدمر البلاد والعباد، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. نِسمةُ الهواء التي تحيا بها المخلوقات. تتحول إلى إعصارًا يُدمرُ كلَّ ما أمامه، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. الأرضُ التي جعلها اللهُ قرارًا ومتاعًا، ومِهادًا وذلولًا. تهتزُ وتضطرب، تتمايلُ وتميد، تتزلزلُ وترتجُ بشدة، فتبتلع الأرض ما فوقها، وتخرُّ السقوفُ على من تحتها، وتصبحُ الديار بلاقع، وتختفي بيوتٌ وأحياءٌ بأكملها، كأنها ما كانت ولا وجدت، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. مصائبٌ وكوارث، تضربُ هنا وهناك بكلِّ قوة؛ تخلفُ ورائها عشرات الألاف من القتلى، وضعفهم من المصابين، وأضعافهم من المشردين بلا مأوى، كوارثُ مروعة، لا يملك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيعُ بشرٌ أن يسيطرَ عليها، فهي من جند الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ}. ويا لها من ذكرى، فالمصائب والكوارث، كلها قدٌّر من أقدار الله الحكيمة، يُصيبُ بها من يشاءُ من عباده عدلًا وحكمة، ورأفةً ورحمة، نعم: ففي الحديث الصحيح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُمَّتِى هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ؛ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلاَزِلُ وَالْقَتْلُ"..
إنها يا عباد الله: رسائل إنذارٍ من الملك الجبار، {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيات إِلَّا تَخْوِيفًا}.
إنها رسائلُ قويةٌ، ولكل البشر، أنه لا أعظمَ ولا أكبرَ من الله جلَّ في علاه، وأنه لا أشدَّ منه بطشًا، ولا أعظمَ منهُ قوة، وأنه هو الواحد القهار، العزيز الجبار: ذلَّ كلُّ شيءٍ لعظمته، وخضعَ كلُّ شيءٍ لـمشيئَتِه، لا دافِعَ لمَا قَضَى، ولا مانِعَ لِمَا أعطى، يفعلُ في مُلْكِهِ ما يُريدُ، ويحكُمُ في خلقِهِ ما يشاءُ، {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}. وإذا أراد شيئًا فإنما يقول له كن فيكون.
إنها يا عباد الله هزةٌ للقلوب الغافلة، وصيحةٌ للنفوس المعرضة، إنها تحذيرٌ لأهل الفسادِ والعناد، ومن يحبُّ أن تشيعَ الفاحشةُ في البلاد، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}.
إنها موعظةٌ وذكرى، لكل من سها ولها، ونسي الآخرة، وآثر الحياة الدنيا، أن ربكم يستعتبكم، فعودوا وأنيبوا.
لكأنَّ هذه الكوارثَ والرزايا. تخاطبُ أهل الأرض جميعًا، تخاطبهم خِطابًا فصيحًا بليغًا، فتقولَ لهم: ألا ما أعجزَك أيها الانسان، وما أشدّ ضعفك، وما أقلَّ حيلتك، فمهما تعلَّمت، ومهما تقدَّمت، ومهما تطورت، فستبقى ضعيفًا عاجزًا، ليس لك من دون الله من ولي ولا نصير.
أيها المسلمون: إنّ نظرةَ المؤمنِ للكوارثِ والمصائبِ ومتغيِّراتِ الكونِ نظرةُ إيمانٍ وتوحيدٍ وعبادة، تجمعُ بين التسليمِ بالأقدار، والرضَا بالمقادير، والأخذِ بالأسباب، فكلُّ ما يجري بقدر اللهِ وإرادته، يرسلهُ اللهُ ويبعثه على من يشاءُ من خَلقه، واللهُ يحكمُ لا مُعقبَ لحكمه، ولا رادَ لقضائه، وإنما العبرةُ في موقِف العبدِ من الرضا والتسليم والصبر، ومُدافعة الأقدار بالأقدار.
ونصوصُ الكتاب والسنة تؤكدُ أنَّ كلَّ ما يُصيبُ العبادَ من المصائبِ والكوارث، إنما هو بسبب ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، وقد قال نبيُّنا محمّدٌ ﷺ: "يا أمَّة محمد، والله ما مِنْ أحدٍ أغْيَر مِنَ الله أنْ يزني عبدُه أو أن تزْني أمتُه"، ولما قيل لرسول الله ﷺ: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كثُر الخَبَث"، والحديث متفق عليه. ولقد عاتبَ اللهُ أقوامًا ممن جاءتهم الآيات والنذُر ثم لم يتعظوا، ولم يستيقظوا: تأمَّل هذا العتابَ الرباني الكريم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}. وقال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا}، وتأمَّل كيفَ خاطبَ اللهُ تعالى نبيّهِ محمّدًا ﷺ ومعه الصفوةُ من الأمّة حين حصل ما حصل من التقصير يومَ أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ}.
فعياذًا بالله يا عباد الله؛ تهتزّ البحار، وتتصدّع الجبالُ، ولا تهتزّ بعض القلوب القاسية. ترجف الأرض وتهتز، ولا ترتجف بعض الأفئدة المتحجرة. تتحركُ الرياحُ وتعصِف بكل ما أمامها، ولا تتحرك بعض النفوس الغليظة. ترتعِب كل المخلوقات وتخاف، إلا أن بعضُ بني آدمَ لا يرتعبون: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ}. {أَوَلا يَرَوْنَ}، فلقد شاهدوا الفتن والكوارث والمصائب بأمِّ أعينهم، في أنفسهم، وفي أهليهم، وفي جيرانهم، وفي أمتهم، فما لهم لا يتعظون؟! وما لهم لا يتذكرون؟! {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ}، فالصحة تتناقص، والمال يتلاشى، والراحة تتعكر، والموت في كل ساعة له ضحايا. {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ}. أولا يشعرون بفظاعة البلوى، وحرارة المصيبة، والجواب: بلا. {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ}، فالله جلَّ جلاله يقول عن الغافلين: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ}. ويقول عن اليهود المعرضين: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}. ويقول عن المعرضين عمومًا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيات رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}. لكنها الذنوب يا عباد الله: فما أمات القلوبَ شيءٌ كالذنوب، ولا أحياها شيءٌ كالذكر والإقبال على الطاعة، ومجاهدة النفس على ذلك، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ}.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .
اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا من {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الزمر:18].
معاشر المؤمنين الكرام: إنَّ من فضل اللهِ ورحمتهِ بعباده أنه لا يؤاخذُهم بكل ذنبٍ فعلوه، قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ}، ولكن إذا نسوا وغفلوا، وتمادوا واوغلوا، خوفهم وذكرهم بالآيات، وأنذرهم بالمصائب والابتلاءات، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
ثم إنَّ المصائبَ والكوارثَ ليست بالضرورة عذابًا أو انتقامًا، بل قد تكونُ ابتلاءً واختبارًا: قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}، وفي الحديث الصحيح: إن الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم. ولا شك أنَّ في هذه الابتلاءات والمصائب حِكمًا كثيرة، وفوائد كبيرة. منها التمييز والتمحيص، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}.
ومن حكم هذه المصائب والابتلاءات وفوائدها: تكفيرُ الذنوب ومحو السيئات، ففي الحديث الصحيح، قال ﷺ: "ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ".
ومن حِكمها وفوائدها: تعظيمُ الأجور ورفعُ الدرجات، ففي الحديث الصحيح: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ؛ وإنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضيَ فله الرِّضَى، ومن سخِط فله السُّخطُ".
ومن حكمها أيضًا: إيقاظُ القلوب الغافلة وتنبيهها، لئلا تركن إلى الدنيا، وتغفلَ عن الآخرة، فالمصائب توقظ الغافلين، وتجعلهم يعملون لدارٍ لا مصائبَ فيها ولا ابتلاءات. كما أنَّ في هذه المصائب تحذيرٌ وإنذارٌ، فالغافل يتنبه، والمقصرُ يتدارك، والمتراخي يجتهد، والمخطئُ يتراجعُ ويُصلح، قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}.
فاتقوا الله عباد الله واحذروا غضب الجبار، واستدفعوا البلاءَ بالتوبة وكثرة الاستغفار؛ فهو القائل سبحانه: {وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، واتقوا الكوارثَ ومصارعَ السوءِ بصنائع المعروف، والاستقامةَ على أمر الله والإصلاح؛ فهو سبحانه القائل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.
ألا وإن مِنْ أَعْظَمِ ما دعا إليه ديننا العظيم: مُوَاسَاةُ المحتاجين، وإغاثة المنكوبين، فإنما المؤمنون إخوة، والمؤمنُ للمؤمن كالبنيان المرصوص، واللهُ في عَونِ المَرءِ ما كان في المرءُ في عَونِ أَخيه. فلنقم بما أَوجَبَهُ اللهُ علينا تِجاهَ إِخْوَانِنا المنكوبين، ففي الحديث الصحيح: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
اللهم إنا نستودعُك إخواننَا في المغرب وليبيا. اللهم فالطُفْ بهم وتَوَلّ أمرَهم، واجبر مصابهم، اللهم شافي مرضاهُم، وعاف مبتلاهم، وأغث محتاجهم، وتقبل قَتلَاهُم في الشُهداءِ.
اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا بعافيتكَ، أنت مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد