بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال تعالى في سورة البقرة:
}يَا بَنِي إسرائيل اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ{(48).
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} أعيد نداؤهم ثانياً على طريق التوكيد، ولينبهوا لسماع ما يرد عليهم من تعداد النعم التي أنعم الله بها عليهم، وتفصيلها نعمة نعمة، فالنداء الأول للتنبيه على طاعة المنعم، والنداء الثاني للتنبيه على شكر النعم.
وربما كان تعداد النعم مغنيا عن الأمر بالطاعة والامتثال لأن من طبع النفوس الكريمة امتثال أمر المنعم لأن النعمة تورث المحبة.
{اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ} والنعمة هنا مراد بها جميع النعم، أراد *نعمي* فهي واحد بمعنى الجمع، كقوله تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النحل:18].
{الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وهذا التذكير مقصود به الحث على الاتسام بما يناسب تلك النعمة ويستبقي ذلك الفضل.
{وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ} وهو من عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور، وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف.
{عَلَى الْعَالَمِينَ} أصل *عالمين* كل من سوى الله، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]؛ فليس ثم إلا رب ومربوب؛ العالَم: مربوب؛ والله: رب؛ فالعالَم من سوى الله؛ وسمي عالماً؛ لأنه عَلَم على خالقه؛ فإن العالم من آيات الله سبحانه وتعالى الدالة على كمال علمه، وقدرته، وسلطانه، وحكمته، وغير ذلك من معاني ربوبيته.
{فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي عالمي زمانهم، فآتاهم من النعم الدينية والدنيوية ما لم يؤت غيرهم من الناس، وذلك على عهد موسى عليه السلام وفى أزمنة صلاحهم واستقامتهم.
ومعنى هذا التفضيل أن الله قد جمع لهم من المحامد التي تتصف بها القبائل والأمم ما لم يجمعه لغيرهم وهي: شرف النسب. وكمال الخلق. وسلامة العقيدة. وسعة الشريعة. والحرية. والشجاعة. وعناية الله تعالى بهم في سائر أحوالهم. وقد أشارت إلى هذا آية {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ}[المائدة:20].
وهذه الأوصاف ثبتت لأسلافهم في وقت اجتماعها، وقد شاع أن الفضائل تعود على الخلف بحسن السمعة وإن كان المخاطبون يومئذ لم يكونوا بحال التفضيل على العالمين، ولكنهم ذكروا بما كانوا عليه فأن فضائل الأمم لا يلاحظ فيها الأفراد ولا العصور.
قال القشيري: أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، وأشهد المسلمين فضل نفسه سبحانه وتعالى فقال: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:58] فشتان بين من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه.
فالحاصل أن بني إسرائيل لا شك أفضل العالمين حينما كانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم ليسوا أفضل العالمين؛ بل منهم القردة، والخنازير؛ وهم أذل عباد الله لقوله تعالى:{ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيات اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ}[آل عمران:112]، وقوله تعالى: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ}[الحشر:14].
{وَاتَّقُواْ} وكأنهم لما أمروا بذكر النعم وتفضيلهم ناسب أن من أنعم عليه وفضل يكون محصلاً للتقوى {يَوْماً} أي يوم القيامة. والمعنى: أي اتخذوا وقاية من هذا اليوم بالاستعداد له بطاعة الله وتقواه.
{لاَّ تَجْزِي} الإجزاء: الإغناء والكِفَايَة {نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} تنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس، أي: لا يغني أحد كائنا من كان فلا تغنى عن الكفار آلهتهم ولا صلحاؤهم على اختلاف عقائدهم في غناء أولئك عنهم {شَيْئاً} فلا تغنى نفس عن نفس أخرى أي غنىً ما دامت كافرة. وهو بمعنى قوله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}[الانفطار:19].
وهذا عطف *التحذير على التذكير* فإنه لما ذكرهم بالنعمة وخاصة تفضيلهم على العالمين في زمانهم وكان ذلك منشأ غرورهم بأنه تفضيل ذاتي فتوهموا أن التقصير في العمل الصالح لا يضرهم فعقب بالتحذير من ذلك.
{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} الشفاعة: السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر، ويقال لطالب الشفاعة مستشفع. وهي مشتقة من *الشَّفْع*، وهو الزوج، لأن الطالب أو التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولا ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعا للأول أي مصيره شفعا. ومنها «الشُّفْعَة»؛ لأنها ضَمَ ملك إلى غيره.
وظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقا يوم القيامة، ولكنه بين في مواضع آخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار، والشفاعة لغيرهم بدون إذن رب السماوات والأرض.
أما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع. فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}[الأنبياء:28]، وقد قال: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر}[الزمر:7]. وقال تعالى عنهم مقررا له: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}[الشعراء:100]. وقال: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في الشفاعة بدون إذنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه}[البقرة:255] وقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَإذن اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}[النجم:26]. وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ إذن لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً}[طه:109]، إلى غير ذلك من الآيات.
وادعاء شفعاء عند الله للكفار أو بغير إذنه، من أنواع الكفر به جل وعلا، كما صرح بذلك في قوله: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
هذا الذي قررناه من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعا مطلقا، يستثنى منه شفاعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيح فهذه الصورة التي ذكرنا من تخصيص الكتاب والسنة.
{وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فداء تعتاض به، لأن الفادي يعدل المفدي بمثله في القيمة أو العين ويسويه به، كمال قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً.. }[المائدة:95] أو كفارة أن يشتري بقيمة مثل الصيد طعامًا يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع, أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام.
{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} بدفع العذاب عنهم.
وقد كانت اليهود تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها، وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}[المائدة:18].
وهذا التأييس يستتبع تحقير من توهمهم الكفرة شفعاء، وإبطال ما زعموه مغنيا عنهم من غضب الله من قرابين قربوها ومجادلات أعدوها وقالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[يونس:18] {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا}[النحل:111].
وترتيب هذه الجمل في غاية الفصاحة، وهي على حسب الواقع في الدنيا، لأن المأخوذ بحق، إما أن يؤدى عنه الحق فيخلص، أو لا يقضى عنه فيشفع فيه، أو لا يشفع فيه فيفدى، أو لا يفدى فيتعاون بالإخوان على تخليصه. فهذه مراتب يتلو بعضها بعضاً. فلهذا -والله أعلم- جاءت مترتبة في الذكر هكذا.
ولما كان الأمر مختلفاً عند الناس في الشفاعة والفدية، فمن يغلب عليه حب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية، ومن يغلب عليه حب المال قدم الفدية على الشفاعة، جاءت هذه الجمل هنا مقدماً فيها الشفاعة، وجاءت الفدية مقدمة على الشفاعة في جملة أخرى {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}[البقرة:123]، ليدل ذلك على اختلاف الأمرين.
وبدء هنا بالشفاعة، لأن ذلك أليق بعلوّ النفس، وجاء هنا بلفظ القبول، وهناك بلفظ النفع، إشارة إلى انتفاء أصل الشيء، وانتفاء ما يترتب عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد