بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في كتابه الماتع «الاختلاط» يضع الشيخ الفذ عبدالعزيز الطريفي النقاط فوق الحروف في هذه القضية الشائكة التي عمت بها البلوى وتداخلت فيها الأهواء والشبهات والشهوات، وصرنا نسمع جدالا عقيما حولها، الأمر الذي أفضى بنا اليوم إلى كارثة لا يحمد عقباها، نجا منها أهل الصدق وسقط فيها أهل الأهواء، لكن الكاتب وبأسلوب عصري تطرق إلى مناقشة القضية بمزيج من الإخلاص وحسن الإقناع وبراعة في إحياء أقوال أهل العلم على مر الدهور، ليحي من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، فيقول حفظه الله تعالى:
** وأما مسألة الاختلاط بالمفهوم الذي يُدعى إليه ليست مسألة بالغة من الخفاء واللطف حدا يدق عن فطنة العالم ويزيد عن تبصره إذا نظر في نصوص الشريعة بتجرد، فالذين يوردون الاختلاط ويكتبون عنه لا يريدون تجويز خروج النساء للأسواق والطواف في حرم الله وشهود الجماعات خلف الرجال، وإنما يريدون التعميم حينما يأسوا من التخصيص، ليُسقطوه على قضية مخصوصة.
والعالم -وعلى الأخص من تولى مسئولية- يجب عليه أن يفرق بين الحالات ويُدرك المآلات، ويُميز بين قضايا الأعيان المتشابهة في الحال المختلفة في المآل، والتفريق بين المنكرات العارضة والمنكرات المقننة، فالمنكر العيني العارض ولو كَبر -إلا الشرك- أهون من المنكر الصغير الذي يُراد له التقنين.
والعالم -المتشبع بالاطلاع على علل الشريعة ومقاصدها- يفرق بين مقامات النصوص والأخبار الواردة في القضية الواحدة، ويُدرك أن منها مقام حكاية عين ونقل إجمال، ومنها مقام تقرير وتعليم وتحقيق، فيرد نصوص الشريعة إلى موردها اللائق، وأما غيره فتتجاذبه المتعارضات مجاذبةٌ تقوده حينها الشهوة الخفية إلى ما لا يريده الله، وتعميه عما سواه.
** ويجب أن يعلم أنه ما من عالم من علماء الإسلام على مر العصور تحدث عن تحريم مرور المرأة في الطرقات والأسواق والميادين التي لا قرار فيها ولا جلوس مستمر بلا ممازجة واحتكاك ومماسة، وإنما هو عبور وحاجات وتنقضي، فقد تعرض المرأة لرجل والعكس ولا تمر به مرة أخرى حياتها، وأن الذي يثير مسألة الاختلاط وجوازه في كثير من وسائل الإعلام لا يقصد هذا النوع، وإنما يذكره على سبيل جر العلماء والعقلاء إلى إطلاقات وعمومات يريدونها تُسقط على مقاصد أُخرى للاختلاط محرمة، تساق للعامة في مساقات خاصة، لو سئل عنها العالم لتبرأ منها، فسقط في هذا الباب كثير من الصالحين بعلم تارة وبجهل تارة أخرى.
** والمحتج بالاجتماعات العارضة كالأسواق، على الاجتماع في العمل والتعليم كالمحتج بعصير العنب على الخمر، فالأول تغير بطول المكث فخمّر القلب، والثاني تغير بطول المكث فخمّر العقل، وطول التقاء أجزاء الخمر حوّله من عصير ملتذ إلى أم الخبائث، وطول التقاء الجنسين حوّله من حاجة إلى مجلبة المفاسد والمكث حوّل الاثنين من الجواز إلى المنع.
** ومن المسلَّم أن حاجة المرأة إذا اقتضت الخروج مع ستر وحجاب في الطرقات والأسواق للتسوق العابر فتأخذ وتعطي وتسأل وتمضي بلا قرار ولا جلوس ولا فضل قول أن هذا من الجائز المأذون به لا وجود لتحريمه في نص وحي أو ناقل وحي.
** واحتراز العلماء للاختلاط العابر في الأسواق والطرقات غير الممازج الذي لا قرار فيه، واستثناءه من الاختلاط المحظور لا حاجة إليه لبيانه وعدم وروده عند العلماء، إلا حينما أراد بعض الكتاب الإلزام به والقياس عليه في باب من الجدل قديم لخلط الأنواع المفترقة، حتى تأخذ حكمًا واحدًا تملصًا من النص بالقياس، ومروقًا من الإلزام بحُكمه، وهذا النوع من المجادلة قديم فحينما نزل تحريم الربا قال كفار قريش جدلًا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}، فاحتيج للمفاصلة مع وضوحها فقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الربا}[البقرة:٢٧٥] وهم عرب عُرباء يُدركون معنى (الربا) ومقصوده، ومفارقة (البيع) لمعناه، والقدر الفيصل بينهما، فتتابعت نصوص الوحي في الوصف والضبط لأحوال الربا وأصنافه دفعًا لتسلل تلك الجدليات العقلية إلى أذهان الناس بحسن قصد أو سوء قصد، وهذا واجب ورَثة المصطفى في كُل شبيه يُلحق بنوع يُفاصله من وجه ويشابهه من وجه آخر ويختلفان في الحكم، ولما كانت تلك حجة قريش أفصح العرب في فهم أفصح بيان {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[الزمر:۲۸] لشيء من أبين المحرمات وهو (الربا) فكان هذا من العرب المطبوعين فكيف الجدل عند المُولَّدين؟ بل كيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العُجمة على الألسن؟ بعد خمسة عشر قرنًا، والعجمة اللغوية قد فشت وامتزجت بالعجمة الفكرية، وأنجبت لحنًا لا كاللحون وفهمًا لا كالفهوم وأصبحت السلامة عند بعض المتعلمين لا تتحصل إلا بالتحفظ والتصون وتأمل مواضع الكلام، لاضطراب كثير من الأفهام والألسن فلا يدري الفَهِم أين ينحو وبما ينجو، وكما أنه للسان العربي مباءة يرجع إليها كدواوين العربية وقواعدها ليستقيم، كذلك لاستقامة الفهم الشرعي مباءة يُرجع إليها لا يصلح معها التصنع العلمي ولا التمحل والجدل، فكم أورد التمحل والجدل كثيرًا من السالكين له الاسترسال فيه استدراجًا وإغواء من الله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] والجزاء من جنس العمل.
** والاختلاط تعرف خطره الفطرة البشرية، والشرائع السماوية قبل رسالة الإسلام، فامرأة عمران أم مريم بنت عمران كانت عجوزًا عاقرًا لا تلد فجعلت تغبط النساء لأولادهن فقالت: اللهم إن علي نذرًا شكرًا إن رزقتني ولدًا أن أتصدق به فيكون من سدنة المسجد وخدامه عابدًا متفرغًا لذلك، {إذ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَنَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بعني محررًا فَتَقَبَّلْ مِنْ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[آل عمران:35] ولكنه صار بنتًا، {فَلَمَا وَضَعَتها قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعَتُها أُنثَى وَاللَّهُ أعلم بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى}[آل عمران:٣٦] تعتذر عن يمينها لربها {رَبِّ إِنِّي وَضَعتُها أُنثَى} والأنثى لا تصلح لذلك فالتفرغ للمساجد والتعبد فيها من خصائص الرجال والأنثى تختلط بهم، فأبطل الله نذرها لهذا السبب.
روى ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن جرير أيضًا، عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بزة، أن عكرمة قال: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى قالت: ليس في الكنيسة إلا الرجل، فلا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال، أمها تقوله، فذلك الذي منعها أن يجعلها في الكنيسة وينفذ نذرها بتحريرها في الكنيسة، قوله تعالى: {والله اعلم بما وضعت}.
قال الجصاص في أحكام القرآن: وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة.
وهكذا كانت شريعة بني إسرائيل حتى في مواضع الصلاة يتمايزن مكانًا عن الرجال، فلما تمادين مُنعن من حضور الصلاة مع الرجال.
روى عبد الرزاق في مصنفه بسند صحيح عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: كان نساء بني إسرائيل يتخذن أرجلًا من خشب يتشرفن للرجال في المساجد فحرم الله عليهن المساجد.
وهكذا قص الله عن موسى عليه السلام حاله مع المرأتين وابتعادهما عن الرجال {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدينَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَدُودَانِ قَالَ ما خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِعَاهُ وَأَبُونَا شَيْخ كبير}[القصص:23].
** قال الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله العامري وهو من علماء القرن السادس في كتابه أحكام النظره: اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب؛ فقد كفر، واستحق القتل بردته وإن اعتقد تحريمه وفعله وأقر عليه ورضي به؛ فقد فسق، لا يسمع له قول ولا تقبل له شهادة. انتهى.
** والأئمة الأربعة نصوصهم كثيرة في التحذير من الاختلاط والاحتراز له:
- قال الإمام مالك بن أنس: أرى للإمام أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، وأرى ألا تترك المرأة الشابة تجلس إلى الصناع فأما المرأة المتجالة [الجليلة كبيرة السن العجوز التي لا تلد]، والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى بذلك بأسًا).
- وقال الخلال في جامعه: سئل أحمد عن رجل يجد امرأة مع رجل قال: صح به.
- والشافعي يقول في النساء الجماعات في الطرقات وأمام الناس وليس الواحدة مع الواحد إن خرجوا متميزين - يعني في الطرقات لقضاء الحوائج وشهود الصلوات - لم أمنعهم وكلهم كره خروج النساء الشواب إلى الاستسقاء، ورخصوا في خروج العجائز.
- وقال الشافعي أيضًا كما في مختصر المزني: ولا يثبت - يعني الإمام - ساعة يسلّم إلا أن يكون معه نساء فيثبت لينصرفن قبل الرجال.
- قال الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير: إن كان معه رجال ونساء في الصلاة وثبت قليلًا لينصرف النساء، فإن انصرفن وثب، لئلا يختلط الرجال بالنساء. وقد منع أبو حنيفة المرأة الشابة من شهود الصلوات الخمس، في زمن الصلاح والتقى.
** وفي السنة أدلة كثيرة تبلغ حد التواتر في المعنى ببيان خطر الاختلاط والتحذير منه، فمن ذلك:
- ما رواه البخاري في عن ابن جريج قال قلت: لعطاء ابن أبي رباح كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكن يخالطن، كانت عائشة تطوف حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لاَ تُخَالِطُهُمْ، يريد ناحية منتبذة منهم.
- ومن ذلك: ما روى أبو داود في سننه عن أبي أسيد الأنصاري: أنه سمع رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله للنساء: استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق (أي ليس لكن أن تسرن وسطها) عليكن بحافات الطريق. فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.
- ومن ذلك رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ليس للنساء وسط الطريق).
وهذا في حال المرور في الطريق نهى عن الدنو من مسار الرجال، وليس فيها جلوس وتقابل بل اعتراض وعبور، فكيف بالاجتماع الدائم والجلوس.
- ومن ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها". وهذا في حال الصلاة وفي موضع العبادة، فكيف بغيره والرجال حال الصلاة مستدبرين النساء، مع ذلك استحق هذا الوصف لوجود التقاء عارض عند الدخول والخروج فكيف لو تحصل اجتماع وجلوس وتقابل، بل كيف لو لم يكن ذلك في موضع عباده.
- ومن ذلك: ما أخرج البخاري، ومسلم. من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال النساء للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن.
فهؤلاء الصحابيات عرفن أن مجامع الرجال ليس لهن حتى في المهمات كالتعليم ومعرفة أحكام الشرع والتي يقبل عليها الإنسان بنية خالصة في التماس رضى الله تعالى، لا تشوبها شائبة، فكيف بغيره من الاجتماعات الأخرى، ولذا خصص لهن مقامًا ينفردن به عن الرجال، مع كثرة شغله ووفرة همه وجمعهن مع الرجال أيسر، ولكن ذلك مدفوع بمفسدة أكبر. ولهذا كان الرسول في يوم العيد إذا انتهى من الخطبة للرجال، نزل وذهب للنساء يخطبهن [رواه البخاري] ولو كن مع الرجال وقريبات منه ما احتاج إلى النزول والذهاب إليهن إلا لأنهن لا يسمعن حديثه معهم لبعدهن.
- ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إياكم والدخول على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: "الحمو الموت".
وهذا خطاب للرجال واحدًا أو جماعة أن لا يدخلوا على النساء واحدة أو جماعة، لأن الغالب في الدخول في البيوت المكث والجلوس والقرار ويدخل في حكم هذا كل مشترك معه في العلة من أماكن العمل والتعليم وأشباهها.
- ومن ذلك: ما جاء من النهي عن النظر والأمر بغض البصر، وهذا لا يكون إلا في الأمر العارض على البصر لا الدائم، فلا يليق عقلًا وشرعًا أن يؤذن لك بمخالطة امرأة ساعات ليلًا ونهارًا في مقر دائم كعمل ودراسة ثم تؤمر بأن لا تراها فهذا إفراغ للأمر والنهي من معناه ومحتواه، وتكليف بما لا يُطاق. قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30].
وبين هذا ويجليه ما رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها [يعني تصفها] لزوجها كأنه ينظر إليها"، فالزوجة منهية عن وصف المرأة الأجنبية لزوجها كأنه ينظر إليها، لأنه ينفتن بها قلبه ويزهده في زوجته من حيث لا تشعر، ويتشوَّف للموصوفة ويتمنى رؤيتها، فكيف يستقيم مثل هذا النهي للمرأة أن تصف ويؤذن لزوجها أن يجالس المرأة الموصوفة ويخالطها في العمل أو الدراسة مخالطة مستديمة.
** وحينئذ فزعم أحد الكتاب أن مصطلح الاختلاط حادث، ولا تعرفه دواوين الشريعة، هو من القطع بغير تقدير، والخبط الذي ليس من العلم في قبيل ولا دبير، وما يدري من أي باب يلج إليه، لينير فيه مصباح الحق، فهو دار مشرعة الأبواب والزوايا، وما يزال الرجل في فسحة من أمره حتى يضع علمه في قرطاس العلم، فالعقول محابر، والأقلام مغاريف، وكل إناء بما فيه يرشح.
الاختلاط والعلماء عبر القرون
- في القرن الأول والثاني: قال فقيه البصرة التابعي الجليل الحسن البصري: *إن اجتماع الرجال والنساء لبدعة*. رواه الخلال.
وبمعنى قوله قال إمام التفسير من التابعين مجاهد بن جبر كما رواه ابن سعد في الطبقات قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}[الأحزاب:۱۳۴] *كانت المرأة تخرج فتمشي بين الرجال فذلك تبرج الجاهلية*.
وبنحوه قال عطاء بن أبي رباح: *وقد ضرب عمر الخطاب من اختلط بالنساء من الرجال*.
- وفي القرن الثالث قال إمام الحنفية أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي في «شرح معاني الآثار»: روى عن مغيرة عن إبراهيم، قال: *كانوا يكرهون السير أمام الجنازة*. قال: فهذا إبراهيم يقول هذا، وإذا قال: *كانوا* فإنما يعني بذلك أصحاب عبد الله، فقد كانوا يكرهون هذا ثم يفعلونه للعذر، لأن ذلك أفضل من مخالطة النساء إذا قربن من الجنازة. انتهى.
- وقال ابن عبد الرؤوف القرطبي في «آداب المحتسب»: *ويمنع اختلاط النساء مع الرجال عند الصلاة وفي الأعياد وفي المحافل ويفرق بينهم*.
- وفي القرن الرابع: قال الحسين بن الحسن الحليمي الشافعي في «المنهاج المصنف في شعب الإيمان»: *فدخل في جملة ذلك أن يحمي الرجل امرأته وبنته مخالطة الرجال ومحادثتهم والخلوة بهم*. انتهى.
والحليمي من مجتهدي مذهب الشافعية، وهو رئيس المحدثين والمتكلمين فيما وراء النهر.
- وفي القرن الخامس: قال أبو الحسن الماوردي الشافعي في «الحاوي الكبير» في فقه مذهب الإمام الشافعي وهو شرح «مختصر المزني»: *والمرأة منهية عن الاختلاط بالرجال مأمورة بلزوم المنزل*. انتهى.
- وقال في «أدب الدين والدنيا» عند تعريفه للديوث: *هو الذي يجمع بين الرجال والنساء، سمي بذلك لأنه يدث بينهم*. انتهى.
وبنحوه قرر السرخسي الحنفي في «المبسوط»، وابن عبد البر في «التمهيد».
- وفي القرن السادس: قال الحافظ أبو بكر محمد بن عبد الله العامري في كتابه «أحكام النظر»: "اتفق علماء الأمة أن من اعتقد هذه المحظورات، وإباحة امتزاج الرجال بالنسوان الأجانب؛ فقد كفر، واستحق القتل بردته. وإن اعتقد تحريمه وفعله وأقر عليه ورضي به؛ فقد فسق، لا يسمع له قول ولا تقبل له شهادة. انتهى.
- وقال الفقيه المالكي أبو بكر محمد بن الوليد القرشي الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي كما في «المدخل» لابن الحاج عند كلامه على اجتماع الرجال بالنساء عند ختم القرآن: *يلزمه إنكاره لما يجري فيه من اختلاط الرجال والنساء*. انتهى.
وبهذا المعنى قال أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن».
- وفي القرن السابع: قال ناصح الدين المعروف بابن الحنبلي فقيه الحنابلة في زمانه كما في «ذيل طبقات الحنابلة»: *وأما اجتماع الرجال بالنساء في مجلس محرم*.
- وقال الإمام النووي أبو زكريا يحيى بن شرف عُمدة الشافعية في «المنهاج شرح صحيح مسلم»: *وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهن من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وذم أول صفوفهن لعكس ذلك*. انتهى.
وبنحوه قرر عصريه الفقيه الأصولي ابن دقيق العيد كما في «الفتح».
- وفي القرن الثامن: قال قاضي مصر وفقيهها عبدالعزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة في «هداية السالك»: *ومن أكبر المنكرات ما يفعله جهلة العوام في الطواف من مزاحمة الرجال بأزواجهم سافرات عن وجههن، وربما كان ذلك في الليل، وبأيديهم الشموع متقدة*. انتهى .
- وفي القرن التاسع: قال الحافظ أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي في «فتح الباري»: *فيه اجتناب مواضع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلا عن البيوت*. انتهى.
- وفي القرن العاشر: قال عمدة فقهاء الشافعية شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي الشافعي كما في «نهاية المحتاج شرح منهاج النووي» في ذكر سياق ألفاظ القذف (قوله: *يا قحبة لامرأة) قوله صريح أفتى به [أي ابن عبد السلام]، فلو ادعى أنها تفعل فعل القِحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال هل يقبل أو لا؟ فيه نظر والأقرب القبول لوقوع مثل ذلك كثيرًا*. انتهى
وهذا ما قرره عصريه الإمام الحطاب الرعيني المالكي في مواهب الجليل شرح مختصر خليل، وأبو السعود في تفسيره.
- وفي القرن الحادي عشر: قال مفتي الحنفية في زمانه أحمد بن محمد أبو العباس الحسيني الحموي في كتابه «غمز عيون البصائر في شرح الأشباه والنظائر» لابن نجم في حكم العرس المختلط: *وهو حرام في زماننا فضلا عن الكراهة لأمور لا تخفى عليك منها اختلاط النساء بالرجال*. انتهى.
وفي زمنه قال الفقيه شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي في كتابه «الفواكه الدواني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني» عند كلامه على وجوب حضور الوليمة عند الدعوة إليها إلا عند المنكر قال: *قوله: «ولا منكر بيّن» أي مشهور ظاهر، كاختلاط الرجال بالنساء، أو الجلوس على الفرش الكائنة من الحرير، أو الاتكاء على وسائد مصنوعة منه*. انتهى.
- وفي القرن الثاني عشر: قال الفقيه سليمان بن محمد البجيرمي في «حاشيته على الشربيني»: *الاختلاط بهن -النساء- مظنة الفساد*.
وهذا ما قرره في ذات القرن الإمام الشافعي سليمان بن عمر الجمل في حاشيته على «شرح منهج الطلاب».
- وفي القرن الثالث عشر: قال فقيه الشافعية في زمانه عبد الحميد الشرواني في حاشية «تحفة المحتاج» في سياق ذكر ألفاظ القذف الصريح منها وغير الصريح قال: *أي - القذف بـ - يا قحبة صريح أي لامرأة، ولو ادعى إرادة أنها تفعل فعل القحاب من كشف الوجه ونحو الاختلاط بالرجال فالأقرب قبوله لوقوع مثل ذلك كثيرا عليه فهو صريح يقبل الصرف*انتهى بحروفه.
- وقال ابن عابدين محمد أمين بن عمر الدمشقي فقيه الديار الشامية وإمام الحنفية في عصره في «رد المحتار على الدر المختار» مبينا حرمة الاختلاط عند المناسبات: *لما تشتمل عليه من منكرات ومن اختلاط الرجال بالنساء*. انتهى.
- وقال مفتي القطر الحضرمي في زمانه العلامة عبد الرحمن بن محمد باعلوي الشافعي في كتابه «بغية المسترشدين»: *ويقطع مادة ذلك أن يأمر الوالي النساء بستر جميع بدنهن، ولا يكلفن المنع من الخروج إذ يؤدي إلى إضرار، ويعزم على الرجال بترك الاختلاط بهن*. انتهى.
- وقال العلامة محمد بن علي بن محمد الشوكاني في تفسيره «فتح القدير»: *لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف، شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت بغير استئذان لما في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء فربما يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين*. انتهى.
- وفي القرن الرابع عشر: قال العلامة مصطفى صبري التوقادي الملقب بـ شيخ الإسلام في الخلافة العثمانية في رسالته «قولي في المرأة»: *وهناك أحاديث كثيرة تأمر بستر النساء عن الرجال الأجانب وتنهى عن الاختلاط بهم..* انتهى.
- وقال محمد رشيد بن علي رضا في تفسيره «المنار»: *إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلًا للرذائل بكثرة مخالطة الرجال*. انتهى.
- وبنحوه قال عصريه محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره عند ذات الآية.
والنصوص التي فيها النهي صراحة بغير لفظ الاختلاط لا تُحصى عدا، كالأمر بمجانبة النساء ومباعدتهن والضرب والتأديب على ذلك، كما روى عبد الرزاق في مصنفه عن أبي سلامة قال: *انتهيت إلى عمر بن الخطاب له وهو يضرب رجالًا ونساءً في الحرم، على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال يا فلان قلتُ: لبيك وسعديك، قال: لا لبيك ولا سعديك ألم آمرك أن تتخذ حياضًا للرجال وحياضًا للنساء؟*.
ولا أعلم يوما من أيام الله في الإسلام في جميع قرون الإسلام. خلا من عالم ينص على تحريم الاختلاط الذي بينا معناه.
وإن النفس لتعجب ممن يعلم إطباق السلف والخلف ثم يحيف في حق الحق، ويُطلق ألفاظًا مجازفة: «مصطلح الاختلاط لا يعرف في قاموس الشريعة الإسلامية» و «بدعة مصطلحية لا تعرف في مدونات أهل العلم» فعن أي مدونات علماء يتحدث، أمدونات علماء الإسلام؟! أم علماء الغرب؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد