الحزبية والخلافات المحلية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

يرى البعض أن «الحزبية والخلافات المحلية» كان لها دور كبير في توهين قضية تحرير فلسطين وتقوية التواجد اليهودي منذ بدايته، وهي شبهة مهترئة يرد عليها الحاج محمد أمين الحسيني في كتاب «كارثة فلسطين، الحقيقة والمؤامرة»، حيث بسط القضية بشيء من التفصيل الذي تغاضى عنه التاريخ المشبوه، فأتت شهادته قمرا منيرا بدد سحائب هذه الشبه حيث يقول رحمه الله:

• من ناحية الخلافات الحزبية فالواقع أنه لم يكن في فلسطين اختلافات حزبية أو طبقية أو طائفية، بالمعنى المعروف في مختلف الأقطار، فلم يكن لدى الشعب الفلسطيني ما يختلف عليه رجاله وجماعاته، فلا حكومة ولا مجلس نواب ولا سلطة من السلطات الرسمية ولا مراكز سامية ووظائف ممتازة، فقد كان عرب فلسطين محرومين من كل ذلك، أما الخلاف الذي وقع في بعض الأحيان فقد كان مصدره المستعمرون الذين دفعوا بعض أتباعهم إلى مناوأة «الحركة الوطنية» وفقا لمصلحة الاستعمار والصهيونية.

• الميثاق القومي لفلسطين

لقد قامت الحركة الوطنية على أساس ميثاق قومي وضعه عرب فلسطين اشتمل على «استقلال فلسطين ضمن الوحدة العربية، ورفض الانتداب البريطاني والوطن القومي اليهودي» وقد سار الوطنيون على هذه المبادئ منذ قيام الحركة الوطنية حتى هذه الساعة، ولم يكن الوطنيون المخلصون ليختلفوا على تلك الأسس والأهداف الوطنية، والذي وقع في فلسطين لم یکن اختلافات حزبية أو محلية، بل كان في الحقيقة اختلافا بين الوطنيين وبين خصوم الحركة الوطنية من المستعمرين والصهيونيين وأتباعهم.

وقد امتحنت الأقطار العربية التي كانت تقاوم الاستعمار والاحتلال بمثل ما امتحن به عرب فلسطين على أيدي المستعمرين، وإن إخواننا المصريين والسوريين والعراقيين واللبنانيين يعرفون كيف أوجد الاستعمار فيما بينهم فئات وجماعات وأحزابا لمقاومة الحركات الوطنية.

بل لعل الفلسطينيين ابتلوا بما لم يصب بمثله إخوانهم العرب من دسائس الاستعمار لثلم الصفوف وصدع الوحدة.

• فقد بلغ من أمر المستعمرين أن بذلوا جهودًا جبارة لإثارة روح الطائفية والخلاف الديني بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، لدرجة أن بعض رجال الاستخبارات من المستعمرين أخرجوا من السجون بعض المجرمين وألفوا منهم عصابات زودوها بالسلاح، وخصصوا لها المرتبات والنفقات، وأطلقوها للاعتداء على القرى المسيحية، واغتيال المسيحيين، إثارة لروح الفتنة وللإيقاع بين أبناء الوطن الواحد، ولكن المجاهدين كانوا للخونة بالمرصاد، فقبضوا عليهم وعاقبوهم على جرائمهم.

الدعاية ضد الوطنيين

ولم يكتف المستعمرون واليهود وأتباعهم بما تقدم ذكره من الأعمال، بل قاموا أيضًا ببث دعاية واسعة النطاق ضد رجال الحركة الوطنية، محاولين تشكيك الناس في إخلاصهم وحملهم على الانفضاض من حولهم، وتحميلهم مسئولية ما كان عرب فلسطين يشكونه من ظلم السلطات وبطشها وحرمانها لهم من كافة الحقوق السياسية والمدنية وغيرها، ولما اتسع نطاق الحركة الوطنية الفلسطينية، وكان لها صدى بعيد في سائر الأقطار العربية ضاعف الخصوم دعايتهم وعملوا على تعميمها في سائر الأقطار العربية، للدس على الفلسطينيين وتشويه سمعة المخلصين من رجالهم، وركز المستعمرون والصهيونيون وأعوانهم دعايتهم المضللة على الادعاء الباطل بأن الفلسطينيين وزعماءهم اتبعوا سياسة سلبية ورفضوا جميع ما تقدم به الإنجليز من عروض وحلول لقضية فلسطين (ومنها التقسيم) خلال عهد الانتداب، وأمعنوا في التضليل والمخادعة، فقالوا: *إنه لو قبل المفتى والزعماء الفلسطينيون بتلك الحلول والعروض، لما وصلت الحال إلى ما وصلت إليه، ولما وقعت نكبة فلسطين*، ومن المؤسف أن تلك الدعاية الباطلة وجدت صدى لها عند بعض العرب، بل بعض الفلسطينيين أنفسهم، فجعلوا يرددون تلك الدعاية ويعتقدون صحتها، وكان عدم معرفة هؤلاء -ولاسيما الناشئة الأحداث من الفلسطينيين وغيرهم من العرب- بتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وعدم اطلاعهم على تلك العروض والحلول البريطانية، من العوامل التي جعلتهم يصدقون تلك الأضاليل بحسن نية.

• المؤامرة الإنجليزية اليهودية قديمة

إن ما تم في فلسطين منذ احتلال الإنجليز لها في عامي ۱۹۱۷- ۱۹۱۸م حتى يومنا هذا كان نتيجة لخطة إنجليزية صهيونية اتفق عليها المستعمرون والصهيونيون خلال الحرب العالمية الأولى (١٩١٤-۱۹۱۸م) وقبلها، وعمد الفريقان ومن ورائهما فيما بعد الأمريكيون، إلى تنفيذها خطوة خطوة، وحلقة حلقة، فكل ما كان يدعيه الإنجليز من تقديم عروض وحلول، وما قاموا به من إرسال لجان التحقيق التي أتخمت بها فلسطين، إنما هو خداع ونفاق، وتخدير للأعصاب، وصرف للأنظار عن حقيقة المؤامرة الاستعمارية اليهودية المبيتة ضد فلسطين، التي كانوا مصممين على تنفيذها عن طريق سياسة الوطن القومي اليهودي والانتداب البريطاني الذي فرض على عرب فلسطين فرضًا، ذلك الانتداب الذي نصت المادة الثانية من صكه على أن مهمة الحكومة المنتدبة (أي بريطانيا) في فلسطين هي وضع البلاد في حالات سياسية وإدارية واقتصادية من شأنها أن تسهل إنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ثم صار هذا الصك وثيقة دولية على بريطانيا واجبة التنفيذ بعد ما أقرته عصبة الأمم السابقة، والولآيات المتحدة الأمريكية.

الانتداب وصك الانتداب من وضع اليهود

قررت عصبة الأمم في ٢٤ يوليو عام ١٩٢٣م وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وأقرت له صكا، يفرض على الحكومة البريطانية تنفيذ سياسة إنشاء الوطن القومي اليهودي.

وفي شهر مايو ۱۹۳۰م اجتمع الوفد الفلسطيني في لندن (وكنت مشتركا فيه) بالمستر رامزى ماكدونالد *رئيس الوزارة البريطانية حينئذ*، فناقشته في موضوع الانتداب وصكه وتحيزه لليهود ولاسيما المادة الثانية منه، فأجاب ماكدونالد بأن عصبة الأمم هي التي وضعت صك الانتداب.

وفي شهر يونيو ۱۹۳۰م سافرت إلى جنيف وقابلت في مقر عصبة الأمم سكرتيرها العام (السير إريك دراموند)، وهو بريطاني، فبحثت معه الموضوع بحضور المرحوم الأمير (شكيب أرسلان)، والسيد إحسان الجابري، وذكرت له ما تقوله الحكومة البريطانية من أن صك الانتداب الجائر وضعته عصبة الأمم! فقال: إن العصبة لم تضع مشروع صك الانتداب، بل إن الحكومة البريطانية هي التي وضعته بالتفاهم مع اليهود!

وقد تبين أخيرا أن الحكومة البريطانية وضعت صك الانتداب بالاتفاق مع الجمعية الصهيونية وزعماء اليهود ويقول الدكتور *وايزمان* في مذكراته: إن اليهودي الأمريكي *بنيامين كوهين* كان يتولى مع سكرتير *اللورد كيرزون* وزير الخارجية البريطانية حينئذ وضع صك الانتداب والاتفاق على نصوصه.

لقد لعبت عصبة الأمم المتحدة دورًا تآمريا خبيثا بقيادة بريطانيا وذلك لإيجاد صيغة دولية تحكم الوجود اليهودي في فلسطين لا يستطيع الفلسطينيون الفكاك منه!! وقد أقر صك الانتداب بعد أن اشتركت الحكومة البريطانية والمنظمات الصهيونية التي كان يمثلها اليهودي الأمريكي *بنيامين كوهين* في وضع الصيغة النهائية له.

الثورة الفلسطينية الأولى

ولما تسلم الإنجليز حكم فلسطين فور احتلالهم لها، كانت باكورة أعمالهم فيها فتح أبوابها للهجرة اليهودية، والسماح لليهود بتملك الأراضي ومساعدتهم على ذلك، ولم يلبثوا أن أدركوا أن العرب غير راضين بالانتداب وتصريح بلفور، وأنهم مصممون على مقاومتهما مهما كلفهم الأمر وكانت الثورة الأولى الفلسطينية التي وقعت في ٤ أبريل ۱۹۳۰م أكبر نذير للإنجليز بمقاومة عرب فلسطين، ولذلك جعل الإنجليز أكبر همهم حمل الفلسطينيين على الاعتراف بالانتداب وتصريح بلفور، وإكراههم على العدول عن المطالبة بإنشاء حكومة وطنية مستقلة وقد لجأت الحكومة البريطانية -لأجل تخدير العرب، وانتزاع موافقتهم على الانتداب وتصريح بلفور- إلى عدة أساليب استعمارية خادعة نبينها فيما يلي:

• العروض والحلول أسطورة وخداع

أصدرت الحكومة البريطانية في ٢٢ يونيو ١٩٢٢م كتابا أبيض اشتمل على (دستور) لفلسطين، وعلى السياسة العامة التي تعتزم الحكومة البريطانية اتباعها، وقد بنتها على أساس الانتداب وتصريح بلفور.

هذا هو أول كتاب أبيض صدر بشأن فلسطين إثر إقرار الانتداب في عصبة الأمم، وأعلنت حكومة بريطانيا أنها سوف تضع نصوص صك الانتداب موضع التنفيذ في ضوء الكتاب الأبيض، وعرف باسم *كتاب تشرشل* لنسبة وضعه إليه، وقبلت به المنظمة الصهيونية (الوكالة اليهودية) تكتيكيا ليصبح أرضية للصراع بين الفلسطينيين وحكومة الانتداب المتحالفة مع الوكالة اليهودية.

ونص ذلك الكتاب على تشکیل مجلس تشریعی لفلسطين من ۲۲ عضوا ١٠ من الموظفين الإنجليز يعينهم المندوب السامي، و ٨ من المسلمين و ٢ من المسيحيين و ٢ من اليهود ينتخبهم الأهلون على أن يكون المندوب السامي رئيسًا للمجلس، وله حق النقض (الفيتو)، وأن لا يكون للمجلس الحق في التعرض لمبدأ الانتداب أو الوطن القومي اليهودي والهجرة اليهودية إلى فلسطين أو شئون فلسطين المالية!

واجتمع المؤتمر الفلسطيني الخامس في أغسطس ١٩٢٢م في نابلس واشترك فيه ممثلو الشعب الفلسطيني، وبعد بحث دقيق للأوضاع السياسية ودراسة عميقة للكتاب الأبيض، قرر المؤتمر بالإجماع عدم التعاون مع الحكومة البريطانية، على أساس الكتاب الأبيض المذكور والدستور الجديد، ورفض مشروع المجلس التشريعي.

يقول صاحب كتاب: (أحجار على رقعة الشطرنج): لم يكشف عن حقيقة النوايا في تسليم فلسطين إلى اليهود إلا بعد أن انتهى العرب من مساعدة اللورد اللنبي والجيش البريطاني في طرد الأتراك من آسيا الصغرى وبلاد الشام واحتلالهم لبيت المقدس وفلسطين وكان الشعور السائد وقتها أن فلسطين سوف تصبح محمية بريطانية مثل مصر.
وعلى الرغم من قرار العرب الاجتماعي دعت حكومة الانتداب إلى إجراء انتخابات للمجلس في فبراير سنة ١٩٢٣م فقاطعها العرب مقاطعة تامة.

ثم قدمت الحكومة البريطانية عرضًا آخر، في مارس ۱۹۲۳م وهو تعيين مجلس استشاري من ١٠ أعضاء بريطانيين و ۸ من المسلمين و ۲من المسيحيين و ٢ من اليهود ورفض العرب هذا المشروع الهزيل الجديد، ورفض الأعضاء المسلمون والمسيحيون الذين عينتهم الحكومة البريطانية قبول ذلك التعيين.

وفي ١٣ أكتوبر ۱۹۲۳م عرض المندوب السامي السير *هربرت صمويل* على العرب تأليف وكالة عربية فرفض العرب هذا العرض أيضًا؛ لأن قبوله ينطوي على اعترافهم بالانتداب وتصريح بلفور، ولأنها ليس لها من السلطة ما يحقق مطالب العرب الاستقلالية.

وكان أشد المعترضين على صك الانتداب وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون في أول الأمر وكان مما قاله ساخرًا: هنا بلد به ۵۸۰ ألف عربی و ۳۰ ألف یهودی! وانطلاقا من مبادئ تقرير المصير النبيلة وانتهاء بنداء رائع موجه إلى عصبة الأمم نشرع الآن في وضع وثيقة تمثل دستورا معلنا لدولة يهودية، ولا يسمح حتى للعرب المساكين إلا بأن ينظروا من ثقب المفتاح بوصفهم طائفة غير يهودية.

هذه هي العروض أو الحلول التي عرضها الانجليز على عرب فلسطين ورفضوها.

وفي دورتين لعصبة الأمم (1924-1925م) نوقشت الحكومة البريطانية بشأن عدم تأسيس مجلس تشريعي في فلسطين، فأجاب ممثلها بصراحة وجلاء بأنه *لا يمكن إنشاء مجلس تشريعي في فلسطين يكون العرب فيه ممثلين حسب عددهم، لأن ذلك يحول بين الحكومة المنتدبة وتنفيذ الواجبات المتعلقة بإنشاء الوطن القومي اليهودي*.

ومما هو جدير بالذكر أن الذي وضع ذلك الكتاب الأبيض لعام 1922م والسياسة التي انطوى عليها ومشاريع المجلس التشريعي والمجلس الاستشاري والوكالة العربية كان *ونستون تشرشل* وزير المستعمرات البريطانية حينئذ، وتشرشل هذا يعرفه العالم العربي حق المعرفة، وقد أعلن مرارا أنه يعتبر نفسه صهيونيا أصيلا، وأنه يصلي بحرارة لأجل تحقيق أماني الصهيونية العظيمة.

وقد ساعده في خططه المندوب السامي البريطاني على فلسطين، السير *هربت صموئيل* وهو صهيوني قح، وكان أول وزير يهودي في الحكومة البريطانية بعد دزرائيلي، وأول من قدم مذكرة للحكومة البريطانية آخر سنة 1914م لإقطاع اليهود سنجق القدس فقبلتها، وأول مندوب سامي بريطاني بعد الحكومة العسكرية، خبيث ماكر، شديد الدهاء، أطلق الفلسطينيون النار عليه مرتين، مرة في شمال فلسطين، والثانية في بيسان، الأولى بقصد القتل فنجا، والثانية للحفاوة به!! ثم أطلقت عليه النار للمرة الثالثة في غزة يوم زارها تشرشل سنة 1921م ومات عن تسعين سنة، وفي الوقت نفسه كان يشغل السكرتير القضائي في حكومة الانتداب (وفي يده سلطة التشريع وسن القوانين).

وهكذا كان ذلك الكتاب الأبيض ومشاريع المجلس التشريعي والمجلس الاستشاري، من أخبث ما أنتجه الاستعمار والصهيونية.

وقد ذكر الدكتور وايزمان في مذكراته ما نصه: إن هربت صموئيل المندوب السامي اليهودي البريطاني على فلسطين هو الذي وضع مشروع الكتاب الأبيض لعام 1922م وأن الحكومة البريطانية عرضته على اللجنة الصهيونية قبل إصداره للاطلاع عليه وإبداء وجهات النظر التي يراها اليهود، وقد وافق عليه زعماء اليهود.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply